Sharh Taftazani for SG

You are here:

 

شــَــرْحُ العَقــَائـدِ النَّسَـفِيَّـة

تَصنِيف

الإمام العلامة الحجة المتكلم الأصولي النظار

سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني

رحمه الله تعالى

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتوحد بجلال ذاته وكمال صفاته، المتقدس في نعوت الجبروت عن شوائب النقص وسماته.

والصلاة على نبيه محمد المؤيد بساطع حججه وواضح بيناته، وعلى آله وأصحابه هداة طريق الحق وحماته.

وبعد،،

فإنَّ مبنى علم الشرائع والأحكام، وأساس قواعد عقائد الإسلام، هو علم التوحيد والصفات الموسوم بالكلام، المنجي من غياهب الشكوك وظلمات الأوهام.

وإن المختصر المسمى بـ(العقائد)، للإمَامِ الهمام، قدوة علماء الإسلام، نجم الملة والدين، عمر النَّسَفِيّ أعلى الله درجته في دار السلام، يشتملُ من هذا الفنِّ على غُرَرِ الفَرَائد، ودُرَرِ الفوائد، في ضمن فصولٍ هي للدين قواعد وأصول، وأثناء نصوص هي لليقين جواهر وفصوص، مع غاية من التنقيح والتهذيب، ونهاية من حسن التنظيم والترتيب.

فحاولتُ أن أشرحَه شرحاً يفصِّل مجملاته، ويبين معضلاته، وينشر مطوياته، ويظهر مكنوناته، مع توجيهٍ للكلام في تنقيح، وتنبيهٍ على المرام في توضيح، وتحقيقٍ للمسائل غب تقرير، وتدقيقٍ للدلائل إثر تحرير، وتفسيرٍ للمقاصد بعد تمهيد، وتكثيرٍ للفوائد مع تجريد، طاوياً كشح المقال عن الإطالة والإملال، ومتجافياً عن طرفي الاقتصاد والإطناب والإخلال.

واللهُ الهادي إلى سبيل الرشاد، والمسؤول لنيل العصمة والسداد، وهو حسبي ونعم الوكيل.

[ مقدمة ]

اعلم أن الأحكام الشرعية منها ما يتعلَّقُ بكيفية العمل، وتُسمَّى فرعية وعملية، ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية.

والعلم المتعلِّق بالأولى يسمى علمَ الشَّرائعِ والأحكَامِ، لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها.

وبالثانية: علمَ التَّوحيد والصفات، لما أن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده.

وقد كان الأوائل من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، لصفاء عقائدهم ببركة صحبة النبي عليه السلام وقرب العهد بزمانه، ولقلة الوقائع والاختلافات، وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات، مستغنين عن تدوين العلمين وترتيبهما أبواباً وفصولاً، وتقرير مباحثهما فروعاً وأصولاً.

إلى أن حدثت الفتن بين المسلمين، وغلب البغي على أئمة الدين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وكثرت الفتاوى والواقعات والرجوع إلى العلماء في المهمات، فاشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات.

وسمُّوا ما يفيد معرفة الأحكام العملية عن أدلتها التفصيلية بالفقه، ومعرفةَ أحوال الأدلة إجمالاً في إفادتها الأحكام بأصول الفقه، ومعرفةَ العقائد عن أدلتها بالكلام؛ لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا.

ولأنَّ مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نـزاعاً وجدالاً، حتى إنَّ بعضَ المتغلبة قتل كثيراً من أهل الحق لعدم قولهم بخلق القرآن.

ولأنه يورث القدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة.

ولأنه أوَّلُ ما يجب من العلوم التي إنما تعلم وتتعلم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك، ثم خص به، ولم يطلق على غيره تمييزاً.

ولأنه إنما يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام من الجانبين وغيره قد يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب.

ولأنه أكثر العلوم خلافاً ونِـزَاعاً، فيشتدُّ افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم.

ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من الكلامين: هذا هو الكلام.

ولأنه لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية أشدُّ العلوم تأثيراً في القلب وتغلغلاً فيه، فسمي بالكلام المشتق من الكَلِم وهو الجرح، وهذا هو كلام القدماء.

ومعظمُ خلافياته مع الفرق الإسلامية خصوصاً المعتزلة، لأنهم أول فرقةٍ أسسوا قواعد الخلاف لما ورد به ظاهر السنة وجرى عليه جماعة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في باب العقائد.

وذلك أن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري رحمه الله يقرر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ويثبت المنـزلة بين المنـزلتين، فقال الحسن: قد اعتزل عنَّا، فسموا المعتزلة، وهم سموا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد، لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي على الله ونفي الصفات القديمة عنه.

ثم إنهم توغلوا في علم الكلام وتشبَّثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الأصول، وشاع مذهبهم فيما بين الناس إلى أن قال الشيخ أبو الحسن الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي: ما تقول في ثلاثة أخوة، مات أحدهم مطيعاً والآخر عاصياً والثالث صغيراً ؟

فقال: إن الأول يثاب بالجنة، والثاني يعاقب بالنار، والثالث لا يثاب ولا يعاقب.

قال الأشعري: فإن قال الثالث: يا ربُّ أمتني صغيراً وما أبقيتني إلى أن أكبر فأومن بك وأطيعك فأدخل الجنة !!  ماذا يقول الرب تعالى.

فقال: يقول الرب: إني كنتُ أعلم أنك لو كبرتَ لعصيتَ فدخلتَ النار، فكان الأصلح لك أن تموت صغيراً.

قال الأشعري: فإن قال الثاني: يا رب لمَ لمْ تمتني صغيراً لئلا أعصي فلا أدخل النار ؟! فماذا يقول الرب ؟

فبهت الجبائي، وترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تبعه بإبطال رأي المعتزلة وإثبات ما ورد به السنة ومضى عليه الجماعة، فسموا أهل السنة والجماعة.

ثم لما نقلت الفلسفةُ إلى العربية وخاض فيها الإسلاميون حاولوا الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه الشريعة، فخَلَطُوا بالكلام كثيراً من الفلسفة ليتحققوا مقاصدها، فيتمكنوا من إبطالها، وهلمَّ جرَّا، إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات، وخاضوا في الرياضيات، حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة لولا اشتماله على السمعيات، وهذا هو كلام المتأخرين.

وبالجملة هو أشرف العلوم، لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية، وكون معلوماته العقائد الإسلامية، وغايته الفوز بالسعادات الدينية والدنيوية، وبراهينه الحجج القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية.

وما نقل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه فإنما هو للمتعصِّب في الدين والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسلمين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين.

وإلا فكيف يتصور المنع عمَّا هو مِن أصل الواجبات وأساس المشروعات.

******

ثـمَّ لما كان مبنى الكلام على الاستدلال بوجود المحدثات على وجود الصانع وتوحيده وصفاته وأفعاله، ثمَّ منها إلى سائر السمعيات، ناسب تصدير الكلام بالتنبيه على وجود ما يُشاهد من الأعيان والأعراض، وتحققِ العلم بها ليتوسل بذلك إلى معرفة ما هو الأهم، فقال:

(قَالَ أَهْلُ الحَقِّ)

وهو الحكمُ المطابق للواقع، يطلَقُ على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب، باعتبار اشتمالها على ذلك.

ويقابله الباطل.

وأما الصِّدْقُ فقد شاع استعمالُه في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب.

وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ المطابقةَ تعتبر في الحقِّ من جانب الواقع، وفي الصِّدقِ من جانب الحكم، فمعنى صدق الحكم مطابقته للواقع، ومعنى حَقِّيتَه مطابقة الواقع إياه.

(حَقَائقُ الأشْيـَاءِ ثَابِتــَةٌ)

حقيقة الشيء وماهيته مَا به الشيءُ هُوَ هُوَ، كالحيوان الناطق للإنسان، بخلاف مثل الضاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه، فإنه من العوارض.

وقد يقال: إنَّ ما به الشيءُ هو هو باعتبار تحقُّقِه حقيقةٌ، وباعتبار تَشخّصِه هُويَّة، ومع قطع النظر عن ذلك مَاهِيَّة.

والشيء عندنا الموجود، والثُّبوتُ والتَّحققُ والوُجودُ والكَونُ ألفاظٌ مُترادفةٌ، معناها بديهي التصور.

فإن قيل: فالحكم بثبوت حقائق الأشياء يكون لغواً، بمنـزلة قولنا: الأمور الثابتة ثابتة.

قلنا: المرادُ أنَّ ما نعتقده حقائق الأشياء ونسميه بالأسماء من الإنسان والفرس والسماء والأرض أمورٌ موجودةٌ في نفس الأمر، كما يقال: واجب الوجود موجود، وهذا الكلام مفيد بما يحتاج إلى البيان، وليس مثل قولك: الثَّابتُ ثَابتٌ، ولا مثل قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، على ما لا يخفى.

وتحقيقُ ذلك أنَّ الشَّيء قد يكون له اعتبارات مختلفة يكون الحكم عليه بالشيء مفيداً بالنظر إلى بعض تلك الاعتبارات دون البعض، كالإنسان إذا أخذ من حيث إنه جسم ما كان الحكم عليه بالحيوانية مفيداً، وإذا أخذ من حيث إنه حيوان ناطق كان ذلك لغواً.

(والعِلْمُ بـِـهـَا) أي بالحقائق من تصوراتها والتصديق بها وبأحوالها.

(مُتَحَـقـِّـقٌ)، وقيل: المراد العلم بثبوتها؛ للقطع بأنه لا علم بجميع الحقائق. والجواب: أن المراد الجنس رداً على القائلين بأنه لا ثبوت لشيء من الحقائق ولا علم بثبوت حقيقة ولا بعدم ثبوتها.

(خلافاً للسوفسطائية) فإنَّ منهم مَنْ ينكرُ حقائق الأشياء، ويزعم أنها أوهام وخيالات باطلة، وهم العنادية، ومنهم مَنْ ينكر ثبوتها ويزعم أنها تابعة للاعتقادات، حتى إنَّ اعتقدنا الشيء جوهراً فجوهر أو عرضاً فعرض أو قديماً فقديم أو حادثاً فحادث وهم العِنْدية، ومنهم من ينكر العلم بثبوت شيء ولا ثبوته، ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهلم جرا، وهم اللاأدرية.

لنا تحقيقاً: أنَّا نجزمُ بالضرورة بثبوت بعض الأشياء بالعَيَان، وبعضها بالبيان.

وإلزاماً: أنه إنْ لم يتحقق نفي الأشياء فقد ثبتت، وإن تحقق، والنفي حقيقة من الحقائق لكونه نوعاً من الحكم، فقد ثَبَتَ شيءٌ من الحقائق، فلم يصح نفيها على الإطلاق.

ولا يخفى أنه إنما يتم على العِنَادِيَّة.

قالوا: الضروريات منها حسيات، والحسُّ قد يغلط كثيراً، كالأحول يرى الواحد اثنين، والصفراوي يجد الحلو مراً. ومنها بديهيات، وقد يقع فيها اختلافات، وتعرض شبه يفتقر في حلها إلى أنظار دقيقة، والنظريات فرع الضروريات، ففسادها فسادها، ولهذا كثر فيها اختلاف العقلاء.

قلنا: غَلَطُ الحِسِّ في البعض لأسباب جزئية لا ينافي الجزم بالبعض بانتفاء أسباب الغلط، والاختلاف في البديهي لعدم الألف أو لخفاء في التصور لا ينافي البداهة، وكثرة الاختلافات لفساد الأنظار لا ينافي حقيقة بعض النظريات [1].

والحقُّ أنه لا طريق للمناظرة معهم، خصوصاً اللاأدرية، لأنهم يعترفون بمعلومٍ ليثبت به مجهول، بل الطَّريقُ تعذيبهم بالنار، ليعترفوا أو يحترقوا.

وسوفسط اسم للحكمة الموهومة والعلم المزخرف، لأن سوفا معناه العلم والحكمة، واسطا معناه الزخرف والغلط، ومنه اشتقت السفسطة، كما اشتقت الفلسفة من فيلاسوفا، أي محب الحكمة.

(وأسْـبَابُ العِـلْـمِ)

وهو صِفَةٌ يتجلى بها المذكورُ لمَنْ قامت هي به، أي يتضح ويظهر ما يذكر، ويمكن أن يعبر عنه موجوداً كان أو معدوماً، فيشمل إدراك الحواس وإدراك العقل من التصورات والتصديقات اليقينية وغير اليقينية، بخلاف قولهم: صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، فإنَّه وإنْ كان شاملاً لإدراك الحواس بناء على عدم التقييد بالمعاني، وللتصورات بناء على أنها لا نقائض لها على ما زعموا، لكنه لا يشمل غير اليَقِينِيَّات من التصديقات.

هذا ولكن ينبغي أن يحمل التجلِّي على الانكشاف التام الذي لا يشمل الظن، لأنَّ العلم عندهم مقابل للظن.

(للخَلْقِ)

أي المخلوق، من الملك والإنس والجن، بخلاف علم الخالق تعالى، فإنه لذاته لا لسبب من الأسباب.

(ثَلاثَةٌ: الحَوَاسُّ السَّلِيمَةُ، وَالخَبَرُ الصَّادِقُ، وَالعَقْلُ)

بحكم الاستقراء.

ووجه الضبط: أن السبب إن كان من خارج فالخبر الصادق، وإلا: فإن كان آلة غير المدرك فالحواس، وإلا فالعقل.

فإن قيل: السببُ المؤثر في العلوم كلها هو الله تعالى، لأنها بخلقه وإيجاده من غير تأثير للحاسة.

والخبر الصادق والعقل والسبب الظاهري كالنار للإحراق هو العقل لا غير، وإنما الحواس والأخبار آلات وطرق في الإدراك.

والسببُ المفضي في الجملة بأن يخلقَ الله فينا العلم معه بطريق جري العادة ليشمل المدرك كالعقل والآلة كالحس والطريق كالخبر لا ينحصر في الثلاثة، بل هاهنا أشياء أخر، مثل الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المبادي والمقدمات.

قلنا: هذا على عادة المشايخ في الاقتصار على المقاصد، والإعراض عن تدقيقات الفلاسفة، فإنهم لمَّا وَجَدُوا بعض الإدراكات حاصلة عقيب استعمال الحواس الظاهرة التي لا شك فيها، سواء كانت من ذوي العقول أو غيرهم، جعلوا الحواسَّ أحدَ الأسباب.

ولما كان معظم المعلومات الدينية مستفاداً من الخبر الصَّادِقِ جعلوا مسبباً آخر.

ولما لم يثبت عندهم الحواس الباطنة المسماة بالحِسِّ المُشْترَك والوَهْم وغير ذلك ولم يتعلق لهم غرض بتفاصيل الحدسيات والتجريبات والبديهيات والنظريات، وكان مرجعُ الكُلِّ إلى العقل جعلوه سبباً ثالثاً يفضي إلى العلم بمجرد التفات أو انضمام حدس أو تجربة أو ترتيب مقدمات، فجعلوا السبب في العلم بأن لنا جوعاً وعطشاً وأن الكل أعظم من الجزء وأن نور القمر مستفاد من الشمس وأن السقمونيا مسهل وأن العالم حادث، هو العقل، وإن كان في البعض باستعانة الحس.

(فالحَـوَاسُّ) جمع حاسة، بمعنى القوة الحساسة (خـمْـسٌ)، بمعنى أن العقل حاكم بالضرورة بوجودها، وأما الحواسُّ الباطنة التي ثبتها الفلاسفة فلا يتم دلائلها على الأصول الإسلامية.

(السَّمْعُ)، وهو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ، يدرك بها الأصوات بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية الصوت إلى الصماخ، بمعنى أن الله تعالى يخلق الإدراك في النفس عند ذلك.

(والبَصَـرُ)، وهو قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في الدماغ ثم تفترقان فتتأديان إلى العينين، يدرك بها الأضواء والألوان أو الأشكال والمقادير والحركات والحسن والقبح وغير ذلك مما يخلق الله تعالى إدراكها في النفس عند استعمال العبد تلك القوة.

 (والشَّـمُّ)، وهو قوة مودعةٌ في الزائدتين الناتئتين من مقدم الدماغ الشبهتين بحلمتي الثدي، يدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم.

(واللَّمْـسُّ)، وهي قوة مثبتةٌ في جميع البدن يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك عند التماس والاتصال به.

(وبكُلِّ حَاسَّةٍ مِنـهَا)، أي الحواس الخمس (يُـوقَفُ) أي يطلع (عَلَى مَا وُضِعَتْ هِـيَ) أي تلك الحاسة (لَهُ).

يعني أن الله تعالى قد خَلَقَ كُلاَّ من تلك الحواس لإدراك أشياء مخصوصة، كالسمع للأصوات والذوق للمطعوم والشم للروائح، لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى.

وأما أنه هل يجوز أو يمتنع ذلك ؟

ففيه خلاف، والحقُّ الجَوَاز، لما أن ذلك بمحضِ خلق الله من غير تأثير للحواس، فلا يمتنع أن يخلق الله عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً.

فإن قيل: أليست الذائقة تُدرَكُ بها حلاوة الشيء وحرارته معاً ؟

قلنا: لا، بل الحلاوة تدرك بالذوق والحرارة باللمس الموجود في الفم واللسان.

(والخَبـَرُ الصَّــادِقُ)

أي المطابق للواقع، فإن الخبرَ كلامٌ يكون لنسبته خارج تطابقه تلك النسبة فيكون صادقاً، أو لا تطابقه فيكون كاذباً، فالصدق والكذب على هذا من أوصاف الخبر، وقد يقالان بمعنى الإخبار عن الشيء على ما هو به، ولا على ما هو به، أي الإعلام بنسبة تامة تطابق الواقع أو لا تطابقه، فيكونان من صفات المخبر فمن هاهنا يقع في بعض الكتب (الخبر الصادق) بالوصف، وفي بعضها (خبر الصادق) بالإضافة.

(عَـلَى نَوْعَينِ: أَحَدِهِمَا الخَـبَرُ المُتَواتِرُ)

سُمِّي بذلك لما أنه لا يقع دفعة، بل على التعاقب والتوالي.

(وَهوَ الخَـبَرُ الثــَّابِتُ على أَلْسِنَةِ قَوْمٍ لا يُتصوَّرُ تَـواطُؤهُم)، أي لا يجوز العقل توافقهم (عَـلَى الكَذِبِ)، ومصداقه وقوع العلم من غير شبهة.

(وَهوَ) بالضرورة (مُوجِبٌ للعِلْمِ الضَّـرُورِيِّ كالعِلْمِ بالمُلُوكِ الخَالِيَةِ في الأزْمِنَةِ المَاضِيَةِ والبُلدَانِ النَّائِيَةِ) يحتمل العطف على الملوك وعلى الأزمنة، والأول أقرب وإن كان أبعد.

فها هنا أمران: أحدهما: أن المتواتر موجِبٌ للعلم، وذلك بالضرورة، فإنَّا نجدُ من أنفسنا العلم بوجود مكة وبغداد، وأنه ليس إلا بالإخبار.

والثاني: أن العلمَ الحاصلَ به ضروريٌ، وذلك لأنه يحصل للمستدل وغيره حتى الصبيان الذين لا اهتداء لهم بطريق الاكتساب وترتيب المقدمات.

وأما خبرُ النصارى بقتل عيسى عليه السلام واليهود بتأبيد دين موسى عليه السلام، فتواتره ممنوعٌ.

فإن قيل: خبرُ كلِّ واحدٍ لا يفيد إلا الظن، وضَمُّ الظَّنِّ إلى الظَّنِّ لا يوجب اليقين.

وأيضاً جوازُ كَذِبِ كلِّ واحدٍ يوجبُ جوازَ كذب المجموع، لأنه نفس الآحاد.

قلنا: ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد،كقوَّةِ الحبل المؤلف من الشعرات.

فإن قيل: الضروريات لا يقع فيها التفاوت ولا الاختلاف، ونحن نجد العلم بكون الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم بوجود إسكندر، والمتواتر قد أنكر إفادته العلم جماعة من العقلاء، كالسُّمنية والبراهمة.

قلنا: ممنوع، بل قد تتفاوت أنواع الضروري بواسطة التفاوت في الإلف والعادة والممارسة والإخطار بالبال وتصورات أطراف الأحكام، وقد يختلف فيه مكابرة وعناداً كالسوفسطائية في جميع الضروريات.

(والنوع الثاني: خبر الرسول المؤيد) أي الثابت رسالته (بالمعجزة).

والرسول إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام، وقد يشترط فيه الكتاب، بخلاف النبي فإنه أعم.

والمعجزةُ أمرٌ خارقٌ للعَادَةِ قُصِدَ به إظهارُ صدقِ من ادَّعى أنه رسول الله تعالى.

(وهو) أي خبر الرسول (يوجب العلم الاستدلالي) أي الحاصل بالاستدلال، أي النظر في الدليل، وهو الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري.

وقيل: قول مؤلف من قضايا يستلزم لذاته قولاً آخر.

فعلى الأول الدليل على وجود الصانع هو العالم، وعلى الثاني: قولنا: العالم حادث، وكل حادث له صانع.

وأما قولهم: الدليل هو الذي يَلزمُ من العِلمِ به العِلمُ بشيء آخر، فبالثاني أوفق.

أما كونه موجباً للعلم فللقطع بأن من أظهر الله المعجزة على يده تصديقاً له في دعوى الرسالة، كان صادقاً فيما أتى به من الأحكام، وإذا كان صادقاً يقع العلم بمضمونها قطعاً.

وأما أنه استدلالي فلتوقفه على الاستدلال واستحضار أنه خبر من ثبتت رسالته بالمعجزات، وكل خبر هذا شأنه فهو صادق ومضمونه واقع.

(والعلم الثابت به) أي بخبر الرسول (يضاهي) أي يشابه (العلم الثابت بالضرورة) كالمحسوسات والبديهيات والمتواترات (في التيقن) أي عدم احتمال النقيض (والثبات) أي عدم احتمال الزوال بتشكيك المشكك، فهو علم بمعنى الاعتقاد المطابق الجازم الثابت، وإلا لكان جهلاً أو ظناً أو تقليداً.

فإن قيل: هذا إنما يكون في المتواتر فقط، فيرجع إلى القسم الأول.

قلنا: الكلام فيما علم أنه خبر الرسول بأن سمع من فيه أو تواتر عنه ذلك أو بغير ذلك إن أمن، وأما خبر الواحد فإنما لم يفد العلم لعروض الشبهة في كونه خبر الرسول.

فإن قيل: فإذا كان متواتراً أو مسموعاً من في رسول الله عليه السلام كان العلم الحاصل به ضرورياً كما هو حكم سائر المتواترات والحسيات، لا استدلاليا.

قلنا: العلم الضروري في المتواتر عن الرسول هو العلم بكونه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن هذا المعنى هو الذي تواتر الأخبار به، وفي المسموع من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إدراك الألفاظ وكونها كلام رسول الله.

والاستدلالي هو العلم بمضمونه وثبوت مدلوله، مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) علم بالتواتر أنه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ضروري، ثم علم منه أنه يجب أن تكون البينة على المعي وهو استدلالي.

فإن قيل: الخبر الصادق المفيد للعلم لا ينحصر في النوعين، بل قد يكون خبر الله تعالى أو خبر الملك أو خبر أهل الإجماع أو الخبر المقرون بما يرفع احتمال الكذب كالخبر بقدوم زيد عند تسارع قومه إلى داره.

قلنا: المراد بالخبر خبر يكون سبب العلم لعامة الخلق بمجرد كونه خبراً مع قطع النظر عن القرائن المفيدة لليقين بدلالة العقل، فخبر الله تعالى أو خبر الملك إنما يكون مفيداً للعم بالنسبة إلى عامة الخلق إذا وصل إليهم من جهة الرسول عليه السلام، فحكمه حكم خبر الرسول وخبر أهل الإجماع في حكم المتواتر.

وقد يجاب: بأنه لا يفيد بمجرده، بل بالنظر في الأدلة على كون الإجماع حجة.

قلنا: وكذلك خبر الرسول، ولهذا جعل استدلالياً.

(وأما العقل)

وهو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات، وهو المعنى بقولهم: غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.

وقيل: جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.

(فهو سبب للعلم أيضاً)

صرح بذلك لما فيه من خلاف الملاحدة والسمنية في جميع النظريات وبعض الفلاسفة في الإلهيات، بناء على كثرة الاختلاف وتناقض الآراء.

والجواب: أن ذلك لفساد النظر، فلا ينافي كون النظر الصحيح من العقل مفيداً للعلم، على أن ما ذكرتم استدلال بنظر العقل، ففيه إثبات ما نفيتم، فيتناقض.

فإن زعموا أنه معارضة للفاسد بالفاسد.

قلنا: إما أن يفيد شيئاً فلا يكون فاسداً، أو لا يفيد فلا يكون معارضة.

فإن قيل: كون النظر مفيداً للعلم إن كان ضرورياً لم يقع فيه خلاف كما في قولنا: الواحد نصف الاثنين، وإن كان نظرياً لزم إثبات النظر بالنظر وأنه دور.

قلنا: الضروري قد يقع فيه خلاف، إما لعناد أو لقصور في الإدراك، فإن العقول متفاوتة بحسب الفطرة باتفاق من العقلاء واستدلال من الآثار وشهادة من الأخبار، والنظري قد يثبت بنظر مخصوص لا يعبر عنه بالنظر، كما يقال: قولنا: العالم متغير وكل متغير حادث يفيد العلم بحدوث العالم بالضرورة، وليس ذلك لخصوصية هذا النظر، بل لكونه صحيحاً مقروناً بشرائطه، فيكون كل نظر صحيح مقرون بشرائطه مفيداً للعلم.

وفي تحقيق هذا المنع زيادة تفصيل لا يليق بهذا الكتاب.

(وما ثبت منه) أي من العلم الثابت بالعقل (بالبديهة) أي بأول التوجه من غير احتياج إلى الفكر (فهو ضروري، كالعلم بأن كل شيء أعظم من جزئه).

فإنه بعد تصور معنى الكل والجزء والأعظم لا يتوقف على شيء، ومن توقف على فيه حيث زعم أن جزء الإنسان كاليد مثلاً قد يكون أعظم من الكل فهو لم يتصور معنى الكل والجزء.

(وما ثبت بالاستدلال) أي بالنظر في الدليل سواء كان استدلالاً من العلة على المعلول كما إذا رأي ناراً فعلم أن لها دخاناً أو من المعلول على العلة كما إذا رأى دخاناً فعلم أن هناك ناراً، وقد يخص الأول باسم التعليل والثاني بالاستدلال.

(فهو اكتسابي)

أي حاصل بالكسب، وهو مباشرة الأسباب بالاختيار، كصرف العقل والنظر في المقدمات في الاستدلاليات والإصغاء وتقليب الحدقة ونحو ذلك في الحسيات، فالاكتسابي أعم من الاستدلالي، لأنه الذي يحصل بالنظر في الدليل، فكل استدلالي اكتسابي ولا عكس، كالإبصار الحاصل بالقد والاختيار.

وأما الضروري فقد يقال: في مقابلة الاكتسابي ويفسر بما لا يكون تحصيله مقدوراً للمخلوق، وقد يقال في مقابلة الاكتسابي ويفسر ما يحصل بدون فكر ونظر في دليل، فمن هاهنا جعل بعضهم العلم الحاصل بالحواس اكتسابياً أي حاصلاً بمباشرة الأسباب بالاختيار، وبعضهم ضرورياً أي حاصلاً بدون الاستدلال، فظهر أنه لا تناقض في كلام صاحب البداية حيث قال: ” إن العلم الحادث نوعان: ضروري وهو ما يحدثه الله في نفس العبد من غير كسبه واختياره، كالعلم بوجوده وتغير أحواله، واكتسابي وهو ما يحدثه الله فيه بواسطة كسب العبد وهو مباشرة أسبابه، وأسبابه ثلاثة: الحواس السليمة والخبر الصادق ونظر العقل “.

ثم قال: ” والحاصل من نظر العقل نوعان: ضروري يحصل بأول النظر من غير تفكر، كالعلم بأن الكل أعظم من الجزء، واستدلالي يحتاج فيه إلى نوع تفكر كالعلم بوجود النار عند رؤية الدخان “.

(والإلهام) المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض (ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق).

حتى يرد به الاعتراض على حصر الأسباب في الثلاثة المذكورة.

وكان الأولى أن يقول: من أسباب العلم بالشيء، إلا أنه حال التنبيه على أن مرادنا بالعلم والمعرفة واحد لا كما اصطلح عليه البعض من تخصيص العلم بالمركبات أو الكليات، والمعرفة بالبسائط أو الجزئيات.

إلا أن تخصيص الصحة بالذكر مما لا وجه له.

ثم الظاهر أنه أراد أن الإلهام ليس سبباً يحل به العلم لعامة الخلق ويصلح للإلزام على الغير، وغلا فلا شك أنه قد يحصل به العلم، وقد ورد القول به في الخبر، نحو قوله عليه الصلاة السلام: ((ألهمني ربي))، وحكي عن كثير من السلف.

وأما خبر الواحد العدل وتقليد المجتهد فقد يفيد أن الظن والاعتقاد الجازم الذي لا يقبل الزوال، فكأنه أراد بالعلم ما لا يشملها، وإلا فلا وجه لحصر الأسباب في الثلاثة.

(والعَالَم) أي ما سوى الله تعالى من الموجودات مما يعلم به الصانع، يقال: عالم الأجسام وعالم الأعراض وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك، فيخرج صفات الله تعالى، لأنها ليست غير الذات كما أنها ليست عينها.

(بجميعِ أجْزَائِهِ) من السموات وما فيها والأرض وما عليها.

(مُحْدَثٌ) أي مخرج من العدم إلى الوجود، بمعنى أنه كان معدوماً فوجد، خلافاً للفلاسفة حيث ذهبوا إلى قدم السموات بموادها وصورها وأشكالها، وقدم العناصر بموادها وصورها، لكن بالنوع، بمعنى أنها لم تخل عن صورة قط.

نعم أطلقوا القول بحدوث ما سوى الله تعالى، لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير، لا بمعنى سبق العدم عليه.

ثم أشار إلى دليل حدوث العالم بقوله:

(إذ هو) أي العالم (أعيان وأعراض)

لأنه إن قام بذاته فعينٌ، وإلا فعَرَضٌ، وكل منهما حادث لما سنبين، ولم يتعرض له المصنف رحمه الله تعالى، لأن الكلام فيه طويل لا يليق بهذا المختصر، كيف وهو مقصور على المسائل دون الدلائل.

(فالأعيان ما) أي ممكن يكون (له قيام بذاته) بقرينة جعله من أقسام العالم.

ومعنى قيامه بذاته عند المتكلمين أن يتحيز بنفسه غير تابع تحيزه لتحيز شيء آخر، بخلاف العرض فإن تحيزه تابع لتحيز الجوهر الذي هو موضوعه، أي محله الذي يقومه.

ومعنى وجود العرض في الموضوع هو أن وجوده في نفسه هو وجوده في الموضوع، ولهذا يمتنع الانتقال عنه بخلاف وجود الجسم في الحيز، لأن وجوده في نفسه أمر ووجوده في الحيز أمر آخر، ولهذا ينتقل عنه.

وعند الفلاسفة معنى قيام الشيء بذاته استغناؤه عن محل يقومه، ومعنى قيامه بشيء آخر اختصاصه به، بحيث يصير الأول نعتاً والثاني منعوتاً، سواء كان متحيزاً كما في سواد الجسم، أو لا كما في صفات الله تعالى والمجردات.

(وهو) أي ما له قيام بذاته من العالم (إما مركب) من جزأين فصاعداً عندنا، وهو الجسم، وعند البعض لا بد من ثلاثة أجزاء لتتحقق الأبعاد الثلاثة، أعني الطول والعرض والعمق.

وعند البعض من ثمانية أجزاء ليتحقق تقاطع الأبعاد على زوايا قائمة.

وليس هذا نـزاعاً لفظياً راجعاً إلى الاصطلاح حتى يدفع بأن لكل أحد أن يصطلح على ما شاء، بل هو نـزاع في أن المعنى الذي وضع لفظ الجسم بإزائه هل يكفي فيه التركيب من جزأين أم لا ؟

احتج الأولون: بأنه يقال لأحد الجسمين إذا زيد عليه جزء واحد أنه أجسم من الآخر، فلولا أن مجرد التركيب كاف الجسمية لما صار بمجرد زيادة الجزء أزيد في الجسمية،وفيه نظر، لأن أفعل من الجسامة بمعنى الضخامة وعظم المقدار، يقال: جسم الشيء أي عظم فهو جسيم وجسام بالضم، والكلام في الجسم الذي هو اسم لا صفة.

(أو غير مركب كالجوهر) يعني العين الذي لا يقبل الانقسام لا فعلاً ولا وهماً ولا فرضاً.

(وهو الجزء الذي لا يتجزأ)

ولم يقل: وهو الجوهر، احترازاً عن ورود المنع، فإن ما لا يتركب لا ينحصر عقلاً في الجوهر بمعنى الجزء الذي لا يتجزأ، بل لا بد من إبطال الهيولى والصورة والعقول والنفوس المجردة ليتم ذلك.

وعند الفلاسفة لا وجود للجوهر الفرد، أعني الجوهر الذي لا يتجزأ، وتركب الجسم إنما هو من الهيولى والصورة.

وأقوى أدلة إثبات الجزء أنه لو وضع كرة حقيقية على سطح حقيقي لم تماسه إلا بجزء غير منقسم، إذ لو ماسته بجزأين لكان فيها خط بالفعل، فلم تكن كرة حقيقية على سطح حقيقي.

وأشهرها عند المشايخ وجهان: الأول: أنه لو كان كل عين منقسماً لا إلى نهاية لم تكن الخردلة أصغر من الجبل، لأن كلاً منهما غير متناهي الأجزاء، والعظم والصغر إنما هو بكثرة الأجزاء وقلتها، وذلك إنما يتصور في المتناهي.

الثاني: إن اجتماع أجزاء الجسم ليس لذاته، وإلا لما قبل الافتراق، فالله تعالى قادر على أن يخلق فيه الافتراق إلى الجزء الذي لا يتجزأ، لأن الجزء الذي تتنازعه فيه إن أمكن افتراقه لزم قدرة الله تعالى عليه دفعاً للعجز وإن لم يمكن ثبت المدعى.

والكل ضعيف: أما الأول فلأنه إنما يدل على ثبوت النقطة، وهو لا يستلزم ثبوت الجزء، لأن حلولها في المحل ليس حلول السريان حتى يلزم من عدم انقسام المحل.

وأما الثاني والثالث: فلأن الفلاسفة لا يقولون بأن الجسم متألف من أجزاء بالفعل وأنها غير متناهية، بل يقولون: إنه قابل لانقسامات غير متناهية وليس فيه اجتماع أجزاء أصلاً، وإنما العظم والصغر باعتبار المقدار القائم به والافتراق ممكن لا إلى نهاية، فلا يستلزم الجزء.

وأما أدلة النفي أيضاً فلا تخلو عن ضعف، ولهذا مال الإمام الرازي في هذه المسألة إلى التوقف.

فإن قيل: هل لهذا الخلاف ثمرة ؟

قلنا: نعم في إثبات الجوهر المفرد نجاةٌ عن كثيرٍ من ظلمات الفلاسفة مثل إثبات الهيولى والصورة المؤدِّي إلى قدم العالم ونفي حشر الأجسام وكثير من أصول الهندسة المبني عليها دوام حركة السموات وامتناع الخرق والالتئام عليها.

(والعرض ما لا يقوم بذاته)

بل بغيره، بأن يكون تابعاً له في التحيز أو مختصاً به اختصاص الناعت بالمنعوت على ما سبق، لا بمعنى أنه لا يمكن تعقله بدون المحل على ما وهم، فإن ذلك إنما هو في بعض الأعراض.

(ويحدث في الأجسام والجواهر)

قيل: هو من تمام التعريف، احترازاً عن صفات الله تعالى.

(كالألوان) وأصولها، قيل: السواد والبياض، وقيل: الحمرة والخضرة والصفرة أيضاً، والبواقي بالتركيب.

(والأكوان) وهي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون.

(والطعوم) وأنواعها تسعة، وهي المرارة والحرافة والملوحة والعفوصة والحموضة والقبض والحلاوة والدسومة والتفاهة، ثم يحصل بحسب التركيب أنواع لا تحصى.

(والروائح) وأنواعها كثيرة وليست لها أسماء مخصوصة، والأظهر أن ما عدا الأكوان لا يفرض إلا للأجسام.

فإذا تقرر أن العالم أعيان وأعراض، والأعيان أجسام وجواهر، فنقول: الكل حادث، أما الأعراض فبعضها بالمشاهدة كالحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض، وبعضها بالدليل وهو طريان العدم كما في أضداد ذلك، فإن القدم ينافي العدم، لأن القديم إن كان واجباً لذاته فظاهر وغلا لزم استناده إليه بطريق الإيجاب، إذ الصادر عن الشيء بالقصد والاختيار يكون حادثاً بالضرورة، والمستند إلى الموجب القديم قديم ضرورة امتناع تخلف المعلول عن العلة.

وأما الأعيان فلأنها لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.

أما المقدمة الأولى فلأنها لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان.

وأما عدم الخلو عنهما، فلأن الجسم أو الجوهر لا يخلو عن الكون في حيز، فإن كان مسبوقاً بكون آخر في ذلك الحيز فهو ساكن، وإن لم يكن مسبوقاً بكون آخر في ذلك الحيز بل في حيز آخر فمتحرك، وهذا معنى قولهم: الحركة كونان في آنين في مكانين، والسكون كونان في آنين في مكان واحد.

فإن قيل: يجوز أن لا يكون مسبوقاً بكون آخر أصلاً، فكما في آن الحدوث، فلا يكون متحركاً كما لا يكون ساكناً.

قلنا: هذا المنع لا يضرنا، لما فيه من تسليم المدعى.

على أن الكلام في الأجسام التي تعددت فيها الأكوان وتجددت فيها الأعصار والأزمان.

وأما حدوثهما فلأنهما من الأعراض وهي غير باقية.

ولأن ماهية الحركة لما فيها من الانتقال من حال إلى حال تقتضي المسبوقية بالغير والأزلية تنافيها.

ولأن كل حركة فهي على المقتضى وعدم الاستقرار، وكل سكون فهو جائز الزوال، لأن كل جسم فهو قابل للحركة بالضرورة.

وقد عرفت أن ما يجوز عدمه يمتنع قدمه.

وأما المقدمة الثانية فلأن ما لا يخلو عن الحوادث لو ثبت في الأزل لزم ثبوت الحادث في الأزل، وهو محال.

وها هنا أبحاث:

الأول: أنه لا دليل على انحصار الأعيان في الجواهر والأجسام، وأنه يمتنع وجود ممكن يقوم بذاته ولا يكون متحيزاً أصلاً، كالعقول والنفوس المجردة التي تقول بها الفلاسفة.

والجواب: أن المدعى حدوث ما ثبت وجودُه بالدليل من الممكنات، وهو الأعيان المتحيزة والأعراض، لأنَّ أدلة وجود المجردات غير تامة على ما بين في المطولات.

الثاني: أن ما ذكر لا يدل على حدوث جميع الأعراض، إذ منها ما لا يدرك بالمشاهدة حدوثه ولا حدوث أضداده، كالأعراض القائمة بالسموات من الأشكال والامتدادات والأضواء.

والجواب: أن هذا غير مخل بالغرض، لأن حدوث الأعيان يستدعي حدوث الأعراض، ضرورة أنها لا تقوم إلا بها.

الثالث: أن الأزل ليس عبارة عن حالة مخصوصة حتى يلزم من وجود الجسم فيها وجود الحوادث فيها، بل هو عبارة عن عدم الأولية أو عن استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.

ومعنى أزلية الحركات الحادثة أنه ما من حركة إلا وقبلها حركة أخرى لا إلى بداية، وهذا هو مذهب الفلاسفة، وهم يسلمون أنه لا شيء من جزئيات الحركة بقديم، وإنما الكلام في الحركة المطلقة.

والجواب: أنه لا وجود للمطلق إلاّ في ضمن جزئي، فلا يتصور قدم المطلق مع حدوث كل جزء من الجزئيات.

الرابع: أنه لو كان كل جسم في حيز لزم عدم تناهي الأجسام، لأن الحيز هو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي.

والجواب: أن الحيز عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم وينفذ فيه أبعاده.

ولما ثبت أن العالم محدث، ومعلوم أن المحدث لا بد له من محدث، ضرورة امتناع ترجح أحد طرفي الممكن من غير مرجح، ثبت أن له محدثاً.

(والمحدث للعالم هو الله تعالى)

أي الذات الواجب الوجود الذي يكون وجوده من ذاته، ولا يحتاج إلى شيء أصلاً، إذ لو كان جائز الوجود لكان من جملة العالم، فلم يصلح محدثاً للعالم ومبدأ له، مع أن العالَم اسم لجميع ما يصلح علماً على وجود مبدءٍ له، وقريب من هذا ما يقال: إن مبدأ الممكنات بأسرها لا بد أن يكون واجباً، إذ لو كان ممكناً لكان من جملة الممكنات، فلم يكن مبدءاً لها.

وقد يتوهم أن هذا دليل على وجود الصانع من غير افتقار إلى إبطال التسلسل، وليس كذلك، بل هو إشارة إلى أحد أدلة بطلان التسلسل، وهو أنه لو ترتبت سلسلة الممكنات لا إلى نهايةٍ لاحتاجت إلى علة، وهي لا يجوز أن تكون نفسها ولا بعضها، لاستحالة كون الشيء علة لنفسه ولعلله، بل خارجاً عنها، فتكون واجباً فتنقطع السلسلة.

ومن مشهور الأدلة برهان التطبيق، وهو أن تفرض من المعلول الأخير إلى غير نهاية جملة ومما قبله بواحد مثلاً إلى غير النهاية جملة أخرى، ثم تطبق الجملتين بأن تجعل الأول من الجملة الأولى بإزاء الأول من الجملة الثانية، والثاني بالثاني وهلم جرَّا، فإن كان بإزاء كل واحد من الأولى واحد من الثانية كان الناقص كالزائد وهو محال، وإن لم يكن فقد وجد في الأول ما لا يوجد بإزائه شيء من الثانية فتنقطع الثانية وتتناهي ويلزم منه تناهي الأولى لأنها لا تزيد على الثانية إلا بقدر متناه، والزائد على المتناهي بقدر متناه يكون متناهياً بالضرورة.

وهذا التطبيق إنما يكون فيما دخل تحت الوجود، دون ما هو وهمي محض، فإنه ينقطع بانقطاع الوهم.

ولا يرد النقض بمراتب العدد، بأن يطبق جملتان إحداهما من الواحد لا إلى نهاية، والثانية من الاثنين لا إلى نهاية، ولا بمعلومات الله ومقدوراته، فإن الأولى أكثر من الثانية مع لا تناهيهما، وذلك لأن معنى لا تناهي الإعداد والمعلومات والمقدورات أنها لا تنتهي إلى حدِّ واحدٍ لا يتصور فوقه آخر، لا بمعنى أن ما لا نهاية له يدخل تحت الوجود فإنه محال.

(الواحد)

يعني أن صانع العالم واحد، فلا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة.

والمشهور في ذلك بين المتكلمين برهان التمانع المشار إليه بقوله تعالى: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)).

وتقريره: أنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه، لأن كلاً منهما في نفسه أمرٌ ممكن، وكذا تعلق الإرادة بكل منهما إذ لا تضاد بين الإرادتين، بل بين المرادين، وحينئذ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدان أو لا فيلزم عجز أحدهما، وهو أمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج، فالتعدد مستلزم لإمكان التمانع المستلزم للمحال، فيكون محالاً.

وهذا تفصيل ما يقال: إن أحدهما إن لم يقدر على مخالفة الآخر لزم عجزه، وإن قدر لزم عجز الآخر.

وبما ذكرنا يندفع ما يقال: إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع أو أن تكون الممانعة والمخالفة غير ممكن لاستلزامها المحال، أو أن يمتنع اجتماع الإرادتين كإرادة الواحد حركة زيد وسكونه معاً.

واعلم أن قول الله تعالى: ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) حجة إقناعية، والملازمة عادية، على ما هو اللائق بالخطابيات، فإن العادة جارية بوجود التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم، على ما أشير إليه بقوله تعالى: ((ولعلا بعضهم على بعض))، وإلا فإن أريد به الفساد بالفعل، أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه، لجواز الاتفاق على هذا النظام المشاهد، وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه، بل النصوص شاهدة بطي السماوات ورفع هذا النظام، فيكون ممكناً لا محالة.

لا يقال: الملازمة قطعية والمراد بفسادها عدم تكونهما، بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال، فلم يكن أحدهما صانعاً، فلم يوجد مصنوع.

لأنا نقول: إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع، وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع، على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل، ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان.

فإن قيل: مقتضى كلمة لو أن انتفاء الثاني في الزمان الماضي بسبب انتفاء الأول، فلا يفيد إلا الدلالة على أن انتفاء الفساد في الزمان الماضي بسبب انتفاء التعدد.

قلنا: نعم بحسب أصل اللغة، لكن قد تستعمل للاستدلال بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط من غير دلالة على تعيين زمان، كما في قولنا: لو كان العالم قديماً لكان غير متغير، والآية من هذا القبيل، وقد يشتبه على بعض الأذهان أحد الاستعمالين بالآخر، فيقع في الخبط.

(القديم)

هذا تصريح بما علم التزاماً، إذ الواجب لا يكون إلا قديماً، أي لا ابتداء لوجوده، إذ لو كان حادثاً مسبوقاً بالعدم لكان وجوده من غير ضرورة، حتى وقع في كلام بعضهم أن الواجب والقديم مترادفان، لكنه ليس بمستقيم، للقطع بتغاير المفهومين، وإنما الكلام في التساوي بحسب الصدق، فإن بعضهم على أن القديم أعم لصدقه على صفات الواجب، بخلاف الواجب فإنه لا يصدق عليها، ولا استحالة في تعدد الصفات القديمة، وإنما المستحيل في تعدد الذوات القديمة.

وفي كلام بعض المتأخرين كالإمام حميد الدين الضرير رحمه الله ومن تبعه تصريح بأن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته، واستدلوا على أن كل ما هو قديم فهو واجب لذاته بأنه لو لم يكن واجباً لذاته لكان جائز العدم في نفسه، فيحتاج إلى وجود مخصص فيكون محدثا، إذ لا نعني بالمحدث إلا ما يتعلق وجوده بإيجاد شيء آخر.

ثم اعترضوا بأن الصفات لو كانت واجبة لذاتها لكانت باقية ببقاء هو نفس تلك الصفة، وهذا كلام في غاية الصعوبة، فإن القول بتعدد الواجب لذاته مناف للتوحيد.

والقول بإمكان الصفات ينافي قولهم بأن كل ممكن فهو حادث، فإن زعموا أنها قديمة بالزمان بمعنى عدم المسبوقية بالعدم وهذا لا ينافي الحدوث الذاتي بمعنى الاحتياج إلى ذات الواجب، فهو قول بما ذهب إليه الفلاسفة من انقسام كل من القدم والحدوث إلى الذاتي والزماني، وفيه رفض لكثير من القواعد، وستأتي لهذا زيادة تحقيق.

(الحي القادر العليم السميع البصير الشائي المريد)

لأن دليل بديهة العقل جازمة بأن محدث العالم على هذا النمط البديع والنظام المحكم، مع ما يشتمل عليه من الأفعال المتقنة والنقوش المستحسنة لا يكون بدون هذه الصفات، على أن أضدادها نقائص يجب تنـزيه الله عنها.

وأيضاً قد ورد الشرع بها وبعضها مما لا يتوقف ثبوت الشرع عليها فيصح التمسك فيها كالتوحيد، بخلاف وجود الصانع وكلامه ونحو ذلك مما يتوقف ثبوت الشرع عليه.

(ليس بعرض)

لأنه لا يقوم بذاته، بل يفتقر إلى محل يقومه، فيكون ممكناً.

ولأنه يمتنع بقاؤه وإلا لكان البقاء معنى قائماً به، فيلزم قيام المعنى بالمعنى وهو محال، لأن قيام العرض بالشيء معناه أن تحيزه تابع لتحيزه، والعرض لا تحيز له بذاته حتى يتحيز غيره بتبعيته.

وهذا مبني على أن بقاء الشيء معنى زائد على وجوده، وأن القيام معناه التبعية في التحيز، والحق أن البقاء استمرار الوجود وعدم زواله وحقيقة الوجود من حيث النسبة إلى الزمان الثاني.

ومعنى قولنا: (وجد فلم يبق) أنه حدث فلم يستمر وجوده ولم يكن ثابتاً في الزمان الثاني، وأن القيام هو الاختصاص الناعت بالمنعوت، كما في اوصاف الباري تعالى، وأن انتفاء الأجسام في كل آن ومشاهدة بقائها بتجدد الأمثال ليس بأبعد من ذلك في الإعراض.

نعم تمسكهم في قيام العرض بالعرض بسرعة الحركة وبطئها ليس بتام غذ ليس هنا شيء هو حركة آخر هو سرعة وبط، بل هنا حركة مخصوصة تسمى بالنسبة إلى بعض الحركات سريعة وبالنسبة إلى البعض بطيئة، وبهذا تبين أن ليس السرعة والبطء نوعين مختلفين من الحركة، إذ الأنواع الحقيقية لا تختلف بالإضافات.

(ولا جسم) لأنه متركب ومتحيز، وذلك أمارة الحدوث.

(ولا جوهر) أما عندنا فلأنه اسم للجزء الذي لا يتجزأ، وهو متحيز وجزء من الجسم، والله تعالى متعال عن ذلك.

وأما عند الفلاسفة فلأنهم وإن جعلوه اسماً للموجود لا في موضوع الذي إطلاقهما على الصانع من جهة مجرداً كان أو متحيزاً لكنهم جعلوه من أقسام الممكن وأرادوا به الماهية الممكنة التي إذا وجدت كانت لا في موضوع، وأما إذا أريد بهما القائم بذاته والموجود لا في موضوع فإنما يمتنع إطلاقهما على الصانع من جهة عدم ورود الشرع بذلك مع تبادر الفهم إلى المتركب والمتحيز.

وذهاب المجسمة والنصارى إلى إطلاق الجسم والجوهر عليه بالمعنى الذي يجب تنـزيه الله تعالى عنه.

فإن قيل: كيف صح إطلاق الموجود والواجب والقديم ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع ؟

قلنا: بالإجماع وهو من الأدلة الشرعية.

وقد يقال: إن الله والواجب والقديم ألفاظ مترادفة، والموجود لازم للواجب، وإذا ورد الشرع بإطلاق اسم بلغة فهو إذن بإطلاق ما يرادفه من تلك اللغة أو من لغة أخرى وما يلازم معناه، وفيه نظر.

(ولا مصوَّر) أي ذي صورة وشكل مثل صورة إنسان، أو فرس لأن ذلك من خواص الأجسام يحصل لها بواسطة الكميات والكيفيات وإحاطة الحدود والنهايات.

(ولا محدود) أي ذي حد ونهاية.

(ولا معدود) أي ذي عد وكثرة، يعنى ليس محلاً للكميات المتصلة كالمقادير، ولا المنفصلة كالأعداد وهو ظاهر.

(ولا متبعض ولا متجزئ) أي ذي أبعاض وأجزاء.

(ولا متناه) لأن ذلك من صفات المقادير والأعداد.

(ولا يوصف بالماهية) أي المجانسة للأشياء، لأن معنى قولنا ما هو؟ من أي جنس هو، والمجانسة توجب التمايز عن المجانسات بفصول مقومة، فيلزم التركيب.

(ولا بالكيفية) أي من اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام وتوابع المزاج والتركيب.

(ولا يتمكن في مكان)

لأن المكن عبارة عن نفوذ بعد في بعد آخر متحقق أو متوهم يسمونه المكان.

والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عد القائلين بوجود الخلاء، والله تعالى منـزه عن الامتداد والمقدار، لاستلزامه التجزئ.

فإن قيل: الجوهر الفرد متحيز ولا بعد فيه، وإلا لكان متجزئاً.

قلنا: المتمكن أخص من المتحيز، لأن الحيز هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء ممتد أو غير ممتد، فما ذكر دليل على عدم التمكن في المكان.

وأما الدليل على عدم التحيز فهو أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزم قدم الحيز، أو لا فيكون محلاً للحوادث.

وأيضاً إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه، فيكون متناهياً، أو يزيد عليه فيكون متجزئاً.

وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا علو ولا سفل ولا غيرهما، لأنهما إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شيء.

(ولا يجري عليه زمان)

لأن الزمان عندنا عبارة عن متجدد مقدر به متجدد آخر، وعند الفلاسفة عن مقدار الحركة، والله تعالى منـزه عن ذلك.

واعلم أن ما ذكره من التنـزيهات بعضها يغني عن البعض، إلا أنه حاول التفصيل والتوضيح في ذلك قضاء لحق الواجب في باب التنـزيه، ورداً على المشبهة والمجسمة وسائر فرق الضلال والطغيان بأبلغ وجه وآكده، فلم يبال بتكرير الألفاظ المترادفة والتصريح بما علم بطريق الالتزام.

ثم إن مبنى التنـزيه عن ما ذكرت على أنها تنافي وجوب الوجود لما فيها في شائبة الحدوث والإمكان على ما أشرنا إليه، لا على ما ذهب إليه المشايخ من ن معنى العرض بحسب اللغة ما يمتنع بقاؤه ومعنى الجوهر ما يتركب عنه غيره ومعنى الجسم ما تركب هو من غيره بدليل قولهم: هذا أجسم من ذاك، وأن الواجب لو تركب فأجزاؤه إما أن تتصف بصفات الكمال فيلزم تعدد الواجب أو لا فيلزم النقص والحدوث.

وأيضاً إما أن يكون على جميع الصور والأشكال والكيفيات والمقادير فيلزم اجتماع الأضداد أو على بعضها فيلزم وهي مستوية الأقدام في إفادة المدح والنقص وفي عدم دلالة المحدثات عليه، فيفتقر إلى مخصص ويدخل تحت قدرة الغير، فيكون حادثاً، بخلاف مثل العلم والقدرة فإنها صفات كمال تدل المحدثات على ثبوتها، وأضدادها صفات نقصان لا دلالة على ثبوتها لأنها تمسكات ضعيفة توهن عقائد الطالبين وتوسع مجال الطاعنين زعماً منهم أن تلك المطالب العالية مبنية على أمثال هذه الشبهة الواهية.

واحتج المخالف للنصوص الظاهرة في الجهة والجسمية والصورة والجوارح بأن كل موجودين فرضا لا بد أن يكون أحدهما متصلاً بالآخر مماساً له أو منفصلاً عنه، مبايناً في الجهة، والله تعالى ليس حالاً ولا محلاً للعالم، فيكون مبياناً للعالم في جهة، فيتحيز فيكون جسماً أو جزء جسم مصوراً متناهياً.

والجواب عنه: أن ذلك وهم محض وحكم على غير المحسوس بأحكام المحسوس، والأدلة القطعية قائمة على التنـزيهات فيجب أن يفوض علم النصوص إلى الله تعالى على ما هو دأب السلف، إيثاراً للطريق الأسلم، أو يؤول بتأويلات صحيحة على ما اختاره المتأخرون دفعاً لمطاعن الجاهلين وجذباً لطبع القاصرين، سلوكاً للسبيل الأحكم.

(ولا يشبهه شيء) أي لا يماثله.

أما إذا أريد بالمماثلة الاتحاد في الحقيقة فظاهر أنه ليس كذلك، وأما إذا أريد بها كون الشيئين بحيث يسد أحدهما مسد الآخر، أي يصلح كل لما يصلح له الآخر، فلأن شيئاً من الموجودات لا يسد مسده في شيء من الأوصاف، فإن أوصافه من العلم والقدرة وغير ذلك أجل وأعلى مما في المخلوقات بحيث لا مناسبة بينهما.

قال في البداية: إن العلم منَّا موجود وعرض ومحدث وجائز الوجود ومتجدد في كل زمان، فلو أثبتنا العلم صفة لله لكان موجوداً وصفة وقديماً وواجب الوجود دائماً من الأزل إلى الأبد، فلا يماثله علم الخلق بوجه من الوجوه، هذا كلامه.

فقد صرح بأن المماثلة عندنا إنما تثبت بالاشتراك في جميع الأوصاف حتى لو اختلفا في وصف واحد انتفت المماثلة.

قال الشيخ أبو المعين في التبصرة: إنا نجد أهل اللغة لا يمتنعون من القول بأن زيداً مثل لعمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده في ذلك الباب، وإن كان بينهما مخالفة بوجوه كثيرة، وما يقوله الأشعرية من أنه لا مماثلة إلا بالمساواة من جميع الوجوه فاسد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل، وأراد الاستواء به في الكيل لا غير وإن تفاوت الوزن وعدد الحبات والصلابة والرخاوة.

والظاهر أنه لا مخالفة، لأن مراد الأشعري المساواة من جميع الوجوه فيما به المماثلة كالكيل مثلاً.

وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام البداية أيضاً، وإلا فاشتراك الشيئين في جميع الأوصاف ومساواتهما من جميع الوجوه يدفع التعدد، فكيف يتصور التماثل ؟!

(ولا يخرج عن علمه وقدرته شيء)

لأن الجهل بالبعض والعجز عن البعض نقص وافتقار إلى مخصص؛ مع أن النصوص القطعية ناطقة بعموم العلم وشمول القدرة، فهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، لا كما يزعم الفلاسفة أنه لا يعلم الجزئيات ولا يقدر على أكثر من واحد، والدهرية على أنه تعالى لا يعلم ذاته، والنظَّام على أنه لا يقدر على خلق الجهل والقبيح، والبلخي على أنه لا يقدر على مثل مقدور العبد، وعامة المعتزلة أنه لا يقدر على نفس مقدور العبد.

(وله صفات) لما ثبت من أنه عالم حي قادر إلى غير ذلك، ومعلوم أن كلاً من ذلك يدل على معنى زائد على مفهوم الواجب، وليس الكل ألفاظ مترادفة، وإن صدق المشتق على الشيء يقتضي ثبوت مأخذ الاشتقاق له، فثبت له صفة العلم والقدرة والحياة وغير ذلك، لا كما تزعم المعتزلة من أنه عالم لا علم له وقادر لا قدرة له إلى غير ذلك، فإنه محالٌ ظاهر، بمنـزلة قولنا: أسود لا سواد له.

وقد نطقت النصوص بثبوت علمه وقدرته وغيرهما.

ودل صدور الأفعال المتقنة على وجود علمه وقدرته لا على مجرد تسميته عالماً قادراً.

وليس النِّـزاع في العلم والقدرة التي هي من جملة الكيفيات والملكات لما صرح به مشايخنا من أن الله تعالى حي وله حياة أزلية ليست بعرض ولا مستحيل البقاء، والله تعالى عالم وله علم أزلي شامل ليس بعرض ولا مستحيل البقاء ولا ضروري ولا مكتسب، وكذا سائر الصفات، بل النـزاع في أنه كما أن للعالِم منَّا علماً هو عرض قائم به زائد عليه حادث فهل لصانع العالم علم هو صفة أزلية قائمة به زائدة عليه، وكذا جميع الصفات، فأنكره الفلاسفة والمعتزلة وزعموا أن صفاته عين ذاته، بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالماً وبالمقدورات قادراً إلى غير ذلك، فلا يلزم تكثر في الذات ولا تعدد في القدماء والواجبات.

والجواب ما سبق من أن المستحيل تعدد الذوات القديمة وهو غير لازم، ويلزمكم كون العلم مثلاً قدرة وحياة وعالماً وحياً وقادراً وصانعاً للعالم ومعبوداً للخلق وكون الواجب غير قائم بذاته إلى غير ذلك من المحالات.

(أزلية) لا كما تزعم الكرامية من أن له صفات لكنها حادثة لاستحالة قيام الحوادث بذاته تعالى.

(قائمة بذاته) ضرورة أنه لا معنى لصفة الشيء إلا ما يقوم به، لا كما تزعم المعتزلة من أنه متكلم بكلام هو قائم بغيره، لكن مرادهم نفي كون الكلام صفة له لا إثبات كونه صفة له غير قائم بذاته.

ولما تمسكت المعتزلة بأن في إثبات الصفات إبطال التوحيد لما أنها موجودات قديمة مغايرة لذات الله تعالى، فيلزم قدم غير الله تعالى وتعدد القدماء، بل تعدد الواجب لذاته على ما وقعت الإشارة إليه في كلام المتقدمين والتصريح به في كلام المتأخرين من أن واجب الوجود بالذات هو الله تعالى وصفاته، وقد كفرت النصارى بإثبات ثلاثة من القدماء فما بال الثمانية أو أكثر – أشار إلى جوابه بقوله:

(وهي لا هو ولا غيره)

يعني أن صفات الله تعالى ليست عين الذات ولا غير الذات، فلا يلزم قدم الغير ولا تكثر القدماء.

والنصارى وإن لم يصرحوا بالقدماء المتغايرة لكن لزمهم ذلك، لأنهم أثبتوا الأقانيم الثلاثة التي هي الوجود والعلم والحياة، وسموها الأب والابن وروح القدس، وزعموا أن أقنوم العلم قد انتقل إلى بدن عيسى عليه السلام فجوزوا الانفكاك والانتقال، فكانت الأقانيم ذوات متغايرة.

ولقائل أن يمنع توقف التعدد والتكثير على التغاير، بمعنى جواز الانفكاك للقطع بأن مراتب الأعداد من الواحد والاثنين إلى غير ذلك متعدده متكثرة مع أن البعض جزء من البعض، والجزء لا يغاير الكل.

وأيضاً لا يتصور نـزاع من أهل السنة والجماعة في كثرة الصفات وتعددها متغايرة كانت أو غير متغايرة، فالأولى أن يقال: المستحيل تعدد ذوات قديمة لا ذات وصفات، وأن لا يجترأ على القول بكون الصفات واجبة الوجود لذاتها، بل يقال: هي واجبة لا لغيرها بل لما ليس عينها ولا غيرها، أعني ذات الله تعالى وتقدس، ويكون هذا مراد من قال: الواجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته، يعني أنها واجبة لذات الواجب تعالى، وأما في نفسها فهي ممكنة، ولا استحالة في قدم الممكن إذا كان قائماً بذات القديم واجباً له غير منفصل عنه، فليس كل قديم إلهاً حتى يلزم من وجود القدماء وجود الآلهة، لكن ينبغي أن يقال: الله تعالى قديم بصفاته ولا يطلق القول بالقدماء لئلا يذهب الوهم إلى أن كلاً منها قائم بذاته موصوف بصفات الألوهية.

ولصعوبة هذا المقام ذهبت المعتزلة والفلاسفة إلى نفي الصفات، والكرامية إلى نفي قدمها، والأشاعرة إلى نفي غيريتها وعينيتها.

فإن قيل: هذا النفي في الظاهر رفع للنقيضين، وفي الحقيقة جمع بينهما، لأن نفي الغيرية صريحاً مثلاً إثبات العينية ضمناً، وإثباتها مع نفي العينية صريحاً جمع بين النقيضين، وكذا نفي العينية صريحاً جمع بينهما، لأن المفهوم من الشيء إن لم يكن هو المفهوم من الآخر فهو غيره، وإلا فهو عينه، ولا يتصور بينهما واسطة.

قلنا: قد فسروا الغيرية بكون الموجودين بحيث يقدّر ويتصور وجود أحدهما مع عدم الآخر، أي يمكن الانفكاك بينهما، والعينية باتحاد المفهوم بلا تفاوت أصلاً، فلا يكونان نقيضين، بل يتصور بينهما واسطة بأن يكون بين الشيء بحيث لا يكون مفهومه مفهوم الآخر، ولا يوجد بدونه كالجزء مع الكل والصفة مع الذات وبعض الصفات مع البعض، فإن ذات الله تعالى وصفاته أزلية، والعدم على الأزلي محال، والواحد من العشرة يستحيل بقاؤه بدونها وبقائها بدونه إذ هو منها، فعدمها عدمه ووجودها وجوده، بخلاف الصفات المحدثة، فإن قيام الذات بدون تلك الصفات المعينة متصور، فيكون غير الذات.

كذا ذكره المشايخ، وفيه نظر؛ لأنهم إن أرادوا صحة الانفكاك من الجانبين انتقض بالعالم مع الصانع والعرض مع المحل، إذ لا يتصور وجود العالم مع عدم الصانع لاستحالة عدمه، ولا وجود العرض كالسواد مثلاً بدون المحل، وهو ظاهر مع القطع بالمغايرة اتفاقاً، وإن اكتفوا بجانب واحد لزمت المغايرة بين الجزء والكل، وكذا بين الذات والصفة، للقطع بجواز وجود الجزء بدون الكل والذات بدون الصفة.

وما ذكروا من استحالة بقاء الواحد بدون العشرة ظاهر الفساد، لا يقال: المراد إمكان تصور وجود كل منهما مع عدم الآخر ولو بالفرض وإن كان محالاً، والعالم قد يتصور موجوداً ثم يطلب بالبرهان ثبوت الصانع بخلاف الجزء مع الكل، فإنه كما يمتنع وجود العشرة بدون الواحد يمتنع وجود الواحد من العشرة بدون العشرة، إذ لو وجد لما كان واحداً من العشرة.

والحاصل أن وصف الإضافة معتبر وامتناع الانفكاك ظاهر، لأنا نقول: قد صرحوا بعدم المغايرة بين الصفات بناء على أنها لا يتصور عدمها لكونها أزلية، مع القطع بأنه يتصور وجود البعض كالعلم مثلاً، ثم يطلب بالبرهان إثبات البعض الآخر، فعلم أنهم لم يريدوا هذا المعنى، مع أنه لا يستقيم في العرض مع المحل.

ولو اعتبر وصف الإضافة لزم عدم المغايرة بين كل متضايفين كالأب والابن وكالأخوين وكالعلة مع المعلول، بل بين الغيرين، لأن الغير من الأسماء الإضافية، ولا قائل بذلك.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون مرادهم أنها لا هو بحسب المفهوم، ولا غيره بحسب الوجود، كما هو حكم سائر المحمولات بالنسبة إلى موضوعاتها، فإنه يشترط الاتحاد بينهما بحسب الوجود ليصح الحمل، والتغاير بحسب المفهوم ليفيد الحمل، كما في قولنا: الإنسان كاتب، بخلاف قولنا: الإنسان حجر، فإنه لا يصح. وقولنا: الإنسان إنسان فإنه لا يفيد.

قلنا: إن هذا إنما يصحح في مثل العالم والقادر بالنسبة إلى الذات، لا في مثل العلم والقدرة مع أن الكلام فيه، ولا في الأجزاء الغير المحمولة كالواحد من العشرة اليد من زيد.

وذكر في التبصرة أن كون الواحد من العشرة واليد من زيد غيره مما لم يقل به أحد من المتكلمين سوى جعفر بن حارث، وقد خالف في ذلك جميع المعتزلة، وعد ذلك من جهالاته، وهذا لأن العشرة اسم لجميع الأفراد ومتناول لكل فرد من آحاده مع أغياره، فلو كان الواحد غيرها لصار غير نفسه، لأنه من العشرة، وأن تكون العشرة بدونه، وكذا لو كان يد زيد غيره لكان اليد غير نفسها، هذا كلامه، ولا يخفى ما فيه.

(وهي) أي صفاته الأزلية (العلم) وهو صفة أزلية تنكشف المعلومات عند تعلقها بها.

(والقدرة) وهي صفة أزلية تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها.

(والحياة) وهي صفة أزلية توجب صحة العلم.

(والقوة) وهي بمعنى القدرة.

(والسمع) وهي صفة تتعلق بالمسموعات.

(والبصر) وهي صفة تتعلق بالمبصرات، فتدرك إدراكاً تاماً على سبيل التخيل أو التوهم، ولا على طريق تأثير حاسة ووصول هواء، ولا يلزم من قدمها قدم المسموعات والمبصرات كما لا يلزم من قدم العلم والقدرة قدم المعلومات والمقدورات، لأنها صفات قديمة تحدث لها تعلقات بالحوادث.

(والإرادة والمشيئة) وهما عبارتان عن صفة في الحي توجب تخصيص أحد المقدورين في أحد الأوقات بالوقوع مع استواء نسبة القدرة إلى الكل، وكون تعلق العلم تابعاً للوقوع.

وفيما ذكر تنبيه على الرد على من زعم، المشيئة قديمة والإرادة حادثة قائمة بذات الله تعالى، وعلى من زعم أن معنى إرادة الله تعالى فعله أنه ليس بمكره ولا ساه ولا مغلوب، ومعنى إرادته فعل غيره أنه أمر به، كيف وقد أمر كل مكلف بالإيمان وسائر الواجبات ولو شاء ما وقع.

(والفعل والتخليق) عبارة عن صفة أزلية تمسى التكوين، وسيجيء تحقيقه، وعدل عن لفظ الخلق لشيوع استعماله في المخلوق.

(والترزيق) هو تكوين مخصوص صرح به إشارة إلى أن مثل التخليق والترزيق والتصوير والإحياء والإماتة وغير ذلك مما استند إلى الله تعالى، كل منها راجع إلى صفة حقيقية أزلية قائمة بالذات هي التكوين، لا كما زعم الأشعري من أنها إضافات وصفات للأفعال.

(والكلام) وهي صفة أزلية غبر عنها بالنظم المسمى بالقرآن المركب من الحروف، وذلك لأن كل من يأمر وينهى ويخبر يجد من نفسه معنى ثم يدل عليه بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة، وهي غير العلم، إذ قد يخبر الإنسان عما لا يعلمه، بل يعلم خلافه، وغير الإرادة لأنه قد يأمر بما لا يريده، كمن أمر عبده قصداً لإظهار عصيانه وعدم امتثاله لأوامره، ويسمى هذا كلاماً نفسياً على ما أشار إليه الأخطل بقوله:

إن الكـلام لفي الفـؤاد وإنما        جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

وقال عمر رضي الله عنه: إني زورت في نفسي مقالة، وكثيراً ما تقول لصاحبك: إن في نفسي كلاماً أريد أن أذكره لك.

والدليل على ثبوت صفة الكلام إجماع الأمة وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم السلام أنه تعالى متكلم، مع القطع باستحالة التكلم من غير ثبوت صفة الكلام.

فثبت أن لله تعالى صفات ثمانية هي: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والإرادة والتكوين والكلام.

ولما كان في الثلاثة الأخيرة نـزاع وخفاء كرر الإشارة إلى إثباتها وقدمها، وفصل الكلام بعض التفصيل فقال:

(وهو) أي الله تعالى (متكلم بكلام هو صفة له) ضرورة امتناع إثبات المشتق للشيء من غير قيام مأخذ الاشتقاق به، وفي هذا رد على المعتزلة حيث ذهبوا إلى أنه متكلم بكلام هو قائم بغيره ليس صفة له.

(أزلية) ضرورة امتناع قيام الحوادث بذاته.

(ليس من جنس الحروف والأصوات) ضرورة أنها أعراض حادثة مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض، لأن امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بديهي، وفي هذا رد على الحنابلة والكرامية القائلين بأن كلامه تعالى عرض من جنس الأصوات والحروف، ومع ذلك فهو قديم.

(وهو) أي الكلام (صفة) أي معنى قائم بالذات (منافية للسكوت) الذي هو ترك التكلم مع القدرة عليه، (والآفة) التي هي عدم مطاوعة الآلات إما بحسب الفطرة كما في الخرس أو بحسب ضعفها وعدم بلوغها حد القوة كما في الطفولية.

فإن قيل: هذا الكلام إنما يصدق على الكلام اللفظي دون الكلام النفسي، إذ السكوت والخرس إنما ينافي التلفظ.

قلنا: المراد السكوت والآفة الباطنيان، بأن لا يريد في نفسه التكلم أو لا يقدر على ذلك، فكما أن الكلام لفظي ونفسي فكذا ضده، أعني السكوت والخرس.

(والله تعالى متكلم بها آمر ناه مخبر)

يعني أنه صفة واحدة تتكثر إلى الأمر والنهي والخبر، باختلاف التعلقات كالعلم والقدرة وسائر الصفات، فإن كلاً منهما صفة واحدة قديمة , والتكثر والحدوث إنما هو في التعلقات والإضافات، لما أن ذلك أليق بكمال التوحيد، ولأنه دليل على تكثر كل منها في نفسها.

فإن قيل: هذه الأقسام للكلام لا يعقل وجوده بدونها.

قلنا: إنه ممنوع، بل إنما يصير أحد تلك الأقسام عند التعلقات، وذلك فيما لا يزال، وأما في الأزل فلا انقسام أصلاً.

وذهب بعضهم إلى أنه في الأزل خبر، ومرجع الكل إليه، لأن حاصل الأمر إخبار عن استحقاق الثواب على الفعل والعقاب على الترك والنهي على العكس، وحاصل الاستخبار الخبر عن طلب الإعلام، وحاصل النداء الخبر عن طلب الإجابة.

ورد بأنا نعلم اختلاف هذه المعاني بالضرورة واستلزام البعض للبعض لا يوجب الاتحاد.

فإن قيل: الأمر والنهي بلا مأمور ولا منهي سفه وعبث، والإخبار في الأزل بطريق المضي كذب محض يجب تنـزيه الله تعالى عنه.

قلنا: إن لم يجعل كلامه في الأزل أمراً ونهياً وخبراً فلا إشكال، وإن جعلناه فالأمر في الأزل لإيجاب تحصيل المأمور في علم الآمر، كما إذا قدر الرجل ابناً له فأمره بأن يفعل كذا بعد الوجود.

والإخبار بالنسبة إلى الأزل لا يتصف بشيء من الأزمنة إذ لا ماضي ولا مستقبل ولا حال بالنسبة إلى الله تعالى، لتنـزيهه عن الزمان، كما أن علمه أزلي لا يتغير بتغير الأزمان.

ولما صرح بأزلية الكلام حاول النبيه على أن القرآن أيضاً قد يطلق على هذا الكلام النفسي القديم كما يطلق على النظم المتلو الحادث فقال:

(والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق) وعقب القرآن بكلام الله لما ذكره المشايخ من أنه يقال: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، ولا يقال: القرآن غير مخلوق، لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه الحنابلة جهلاً أو عناداً.

وأقام غير المخلوق مقام غير الحادث تنبيهاً على اتحادهما، وقصداً إلى جري الكلام على وفق الحديث، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم))، وتنصيصاً على محل الخلاف بالعبارة المشهورة فيما بين الفريقين، وهو أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ولهذا تترجم المسألة بمسألة خلق القرآن.

وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف، وهم لا يقولون بحدوث كلام نفسي.

ودليلنا ما مر أنه ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء صلوات الله عليهم أنه متكلم، ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام ويمتنع قيام اللفظي الحادث بذاته تعالى، فتعين النفسي القديم.

وأما استدلالهم بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوق وسمات الحدوث من التأليف والتنظيم والإنـزال والتنـزيل وكونه عربياً مسموعاً فصيحاً معجزاً إلى غير ذلك، فإنما يكون حجة على الحنابلة لا علينا، لأنا قائلون بحدوث النظم، وإنما الكلام في المعنى القديم، والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلماً ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محلها أو إيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ، على اختلاف بينهم.

وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة، لا من أوجدها، وإلا لصح اتصاف الباري بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

ومن أقوى شبه المعتزلة أنكم متفقون على أن القرآن اسم لما نقل إلينا بين دفتي المصاحف تواتراً، وهذا يستلزم كونه مكتوباً في المصاحف مقروءاً بالألسن، مسموعاً بالآذان، وكل ذلك من سمات الحدوث بالضرورة. فأشار إلى الجواب بقوله:

(وهو) أي القرآن الذي هو كلام الله تعالى (مكتوب في مصاحفنا) أي بأشكال الكتابة وصور الحروف الدالة عليه (محفوظ في قلوبنا) أي بالألفاظ المخيلة (مقروء بألسنتنا) بالحروف الملفوظة المسموعة (مسموع بآذاننا) بذلك أيضاً (غير حال فيها) أي مع ذلك ليس حالاً في المصاحف ولا في القلوب والألسنة والآذان، بل هو معنى قديم قائم بذات الله، يلفظ ويسمع بالنظم الدال عليه، ويحفظ بالنظم المخيل ويكتب بنقوش وصور وأشكال موضوعة للحروف الدالة عليه، كما يقال: النار جوهر محرق، تذكر باللفظ وتكتب بالقلم، ولا يلزم منه كون حقيقة النار صوتاً وحرفاً.

وتحقيقه أن للشيء وجوداً في الأعيان، ووجوداً في الأذهان، ووجوداً في العبارة، ووجوداً في الكتابة، والكتابة تدل على العبارة، وهي على ما في الأذهان، وهو على ما في الأعيان، فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كما في قولنا: القرآن غير مخلوق، فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، وحيث يوصف بما هو من لوازم المخلوقات والمحدثات يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كما في قولنا: قرأت نصف القرآن، أو المخيلة كما في قولنا: حفظت القرآن، أو الأشكال المنقوشة كما في قولنا: يحرم للمحدث مس القرآن.

ولما كان دليل الأحكام الشرعية هو اللفظ دون المعنى القديم عرفه أئمة الأصول بالمكتوب في المصاحف المنقول بالتواتر، وجعلوه اسماً للنظم والمعنى جميعاً، أي للنظم من حيث الدلالة على المعنى لا بمجرد المعنى.

وأما الكلام القديم الذي هو صفة الله تعالى فذهب الأشعري إلى أنه يجوز أن يسمع، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله، فمعنى قوله تعالى: ((حتى يسمع كلام الله)) يسمع ما يدل عليه، كما يقال: سمعت علم فلان، فموسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى، لكن لما كان بلا واسطة الكتاب والملك خص باسم الكليم.

فإن قيل: لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه، بأن يقال: ليس النظم المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى، والإجماع على خلافه.

وأيضاً: المعجز المتحدى به هو كلام الله تعالى حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة.

قلنا: التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله تعالى، ليس من تأليفات المخلوقين، فلا يصح النفي أصلاً، ولا يكون الإعجاز والتحدي إلا في كلام الله تعالى، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أنه مجاز فليس معناه أنه غير موضوع للنظم المؤلف، بل معناه أن الكلام في التحقيق وبالذات اسم للمعنى القائم بالنفس، وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك إنما هو باعتبار دلالته على المعنى، فلا نـزاع لهم في الوضع والتسمية.

وذهب بعض المحققين إلى أن المعنى في قول مشايخنا: كلام الله تعالى معنى قديم، ليس في مقابلة اللفظ حتى يراد به مدلول اللفظ ومفهومه، بل في مقابلة العين، والمراد به ما لا يقوم بذاته كسائر الصفات.

ومرادهم أن القرآن اسم للنظم والمعنى شامل لهما، وهو قديم لا كما زعمت الحنابلة من قدم النظم المؤلف المرتب الأجزاء، فإنه بديهي الاستحالة، للقطع بأنه لا يمكن التلفظ بالسين من ” بسم الله ” إلا بعد التلفظ بالباء، بل معنى أن اللفظ القائم بالنفس ليس مرتب الأجزاء في نفسه كالقائم بنفس الحافظ من غير ترتب الأجزاء، وتقدم البعض على البعض، والترتب إنما يحصل في التلفظ والقراءة لعدم مساعدة الآلة، وهذا هو معنى قولهم: المقروء قديم والقراءة حادثة، وأما القائم بذات الله تعالى فلا ترتب فيه، حتى أن من سمع كلامه تعالى سمعه غير مرتب الأجزاء لعدم احتياجه إلى الآلة، هذا حاصل كلامهم وهو جيد لمن تعقل لفظاً قائماً بالنفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة أو المخيلة المشروط وجود بعضها بعدم البعض، ولا من الأشكال المرتبة الدالة عليه، ونحن لا نتعقل من قيام الكلام بنفس الحافظ إلا كون صور الحروف مخزونة مرتسمة في خياله، بحيث إذا التفت إليها كان كلاماً مؤلفاً من ألفاظ مخيلة أو نقوش مرتبة، وإذا تلفظ كان كلاماً مسموعاً.

(والتكوين) وهو المعنى الذي يعبر عنه بالفعل والخلق والتخليق والإيجاد والإحداث والاختراع ونحو ذلك، ويفسر بإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، (صفة لله تعالى) لإطباق العقل والنقل على أنه خالق للعالم مكون له وامتناع إطلاق اسم المشتق على الشيء من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفاً له قائماً به.

(أزلية) لوجوه:

الأول: أنه يمتنع قيام الحوادث بذات الله تعالى لما مر.

الثاني: أنه وصف ذاته في كلامه الأزلي بأنه الخالق، فلو لم يكن في الأزل خالقاً لزم الكذب أو العدول إلى المجاز، أي الخالق فيما يستقبل أو القادر على الخلق من غير تعذر الحقيقة، على أنه لو جاز إطلاق الخالق عليه بمعنى القادر على الخلق لجاز إطلاق كل ما يقدر هو عليه من الأعراض.

الثالث: أنه لو كان حادثاً فإما بتكوين آخر فيلزم التسلسل وهو محال، ويلزم منه استحالة تكون العالم مع أنه مشاهد، وإما بدونه فيستغني الحادث عن المحدث والإحداث، وفيه تعطيل الصانع.

والرابع: أنه لو حدث لحدث إما في ذاته فيصير محلاً للحوادث أ, في غيره كما ذهب إليه أبو الهذيل من أن تكوين كل جسم قائم به، فيكون كل جسم خالقاً أو مكوناً لنفسه، ولا خفاء في استحالته.

ومبنى هذه الأدلة على أن التكوين صفة حقيقية كالعلم والقدرة، والمحققون من المتكلمين على أنه من الإضافات والاعتبارات العقلية، مثل كون الصانع تعالى وتقدس قبل كل شيء ومعه وبعده ومذكوراً بألسنتنا ومعبوداً لنا ويميتنا ويحيينا ونحو ذلك.

والحاصل في الأزل هو مبدأ التخليق والترزيق والإماتة والإحياء وغير ذلك، ولا دليل على كونه – أي التكوين – صفة أخرى سوى القدرة والإرادة، فإن القدرة وإن كانت نسبتنها إلى وجود المكوّن وعدمه على السواء، لكن مع انضمام الإرادة تخصص أحد الجانبين.

ولما استدل القائلون بحدوث التكوين بأنه لا يتصور بدون المكون، كالضرب بدون المضروب، فلو كان قديماً لزم قدم المكونات، وهو محال، أشار إلى الجواب بقوله:

(وهو) أي التكوين (تكوينه تعالى للعالم ولكل جزء من أجزائه لا في الأزل، بل لوقت وجوده على حسب علمه وإرادته) فالتكوين باق أزلاً وأبداً، والمكوّن حادث بحدوث التعلق، كما في العلم والقدرة وغيرهما من الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم تعلقاتها، لكون تعلقاتها حدثة.

وهذا تحقيق ما يقال: إن وجود العالم إن لم يتعلق بذات الله تعالى أو صفة من صفاته لزم تعطيل الصانع واستغناء تحقق الحوادث عن الموجد، وهو محال.

وإن تعلق فإما أن يستلزم ذلك قدم ما يتعلق وجوده به فيلزم قدم العالم، وهو باطل، أو لا فليكن التكوين أيضاً قديماً مع حدوث المكون المتعلق به.

وما يقال من أن القول بتعلق وجود المكون بالتكوين قول بحدوثه إذ القديم ما لا يتعلق وجوده بالغير والحادث ما يتعلق وجوده به، ففيه نظر، لأن هذا معنى القديم والحدث بالذات على ما يقوله به الفلاسفة، وأما عند المتكلمين فالحدث ما يكون لوجوده بداية، أي كون مسبوقاً بالعدم، والقدم بخلافه، ومجرد تعلق وجوده بالغير لا يستلزم الحدوث بهذا المعنى، لجواز أن يكون محتاجاً إلى الغير صادراً عنه دائماً بدوامه كما ذهب إليه الفلاسفة فيما ادعوا قدمه من الممكنات، كالهيولى مثلاً.

نعم إذا أثبتنا صدور العالم عن الصانع بالاختيار دون الإيجاب بدليل لا يتوقف على حدوث العالم كان القول بتعلق وجوده بتكوين الله تعالى قولاً بحدوثه.

ومن هاهنا يقال: التنصيص على كل جزء من أجزاء العالم إشارة إلى الرد على من زعم قدم بعض الأجزاء كالهيولى، وإلا فهم إنما يقولون بقدمها بمعنى عدم المسبوقية بالعدم، لا بمعنى عدم تكونه بالغير.

والحاصل أنا لا نسلم أنه لا يتصور التكوين بدون وجود المكون، وإن وزانه معه كوزان الضرب مع المضروب، فإن الضرب صفة إضافية لا يتصور بدون المضافين، أعني الضارب والمضروب والتكوين صفة حقيقية هي مبدأ الإضافة التي هي إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود، لا عينها، حتى لو كانت عينها على ما وقع في عبارة المشايخ لكان القول بتحققها بدون المكون مكابرة وإنكاراً للضروري، فلا يندفع بما يقال من أن الضرب عرض مستحيل البقاء، فلا بد من تعلقه بالمفعول ووصل الألم إليه من وجود المفعول معه، إذ لو تأخر لانعدم وهو بخلاف فعل الباري، فإنه أزلي واجب الدوام يبقى إلى وقت وجود المفعول.

(وهو غير المكون عندنا) لأن الفعل يغاير المفعول بالضرورة، كالضرب مع المضروب والأكل مع المأكول، ولأنه لو كان نفس المكون لزم أن يكون المكون مكوناً مخلوقاً بنفسه، ضرورة أنه مكون بالتكوين الذي هو عينه، فيكون قديماً مستغنياً عن الصانع، وهو محال.

وأن لا يكون للخالق تعلق بالعالم سوى أنه أقدم منه وقادر عليه من غير صنع وتأثير فيه، ضرورة تكونه بنفسه، وهذا لا يوجب كونه خالقاً والعالم مخلوقاً له، فلا يصح القول بأنه خالق العالم وصانعه، هذا خلف.

وأن لا يكون الله تعالى مكوناً للأشياء، ضرورة أنه لا معنى للمكون إلا من قام به التكوين، والتكوين إذا كان عين المكون لا يكون قائماً بذات الله تعالى، وأن يصح القول بأن خالق سواد هذا الحجر أسود، وهذا الحجر خالق السواد، إذ لا معنى للخالق والأسود إلا من قام به الخلق والسواد، وهما واحد، فمحلهما واحد، وهذا كله تنبيه على كون الحكم بتغاير الفعل والمفعول ضرورياً، لكنه ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً يصلح محلاً لنـزاع العلماء واختلاف العقلاء، فإن من قال: التكوين عين المكون أراد أن الفاعل إذا فعل شيئاً فليس هاهنا إلا الفاعل والمفعول، وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس أمراً محققاً مغايراً للمفعول في الخارج ولم يرد أن مفهوم التكوين هو بعينه مفهوم المكون ليلزم المحالات.

وهذا كما يقال: إن الوجود عين الماهية في الخارج، بمعنى أنه ليس في الخارج للماهية تحقق ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر حتى يجتمعان اجتماع القابل والمقبول كالجسم والسواد، بل الماهية إذا كانت فتكوّنها هو وجودها لكنهما متغايران في العقل، بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهية دون الوجود وبالعكس، فلا يتم إبطال هذا الرأي إلا بإثبات أن تكوّن الأشياء وصدورها عن الباري تعالى يتوقف على صفة حقيقية قائمة بالذات مغايرة للقدرة والإرادة.

والتحقيق أن تعلق القدرة على وفق الإرادة بوجود المقدور لوقت وجوده إذا نسب إلى القدرة يسمى إيجاباً له، وإذا نسب إلى القادر يسمى الخلق والتكوين، ونحو ذلك، فحقيقته كون الذات بحيث تعلقت قدرته بوجود المقدور لوقته، ثم يتحقق بحسب خصوصيات المقدورات خصوصيات الأفعال كالترزيق والتصوير والإحياء والإماتة غير ذلك إلى ما لا يكاد يتناهى، وأما كون كل من ذلك صفة حقيقية أزلية فمما تفرد به بعض علماء ما وراء النهر، وفيه تكثير للقدماء جداً, إن لم تكن متغايرة.

والأقرب ما ذهب إليه المحققون منهم، وهو أن مرجع الكل إلى التكوين، فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياء وبالموت يسمى إماتة وبالصورة تصويراً وبالرزق ترزيقاً إلى غير ذلك، فالكل تكوين وإنما الخصوص بخصوصية التعلقات.

(والإرادة صفة لله تعالى أزلية قائمة بذاته)

كرر ذلك تأكيداً وتحقيقاً لإثبات صفة قديمة لله تعالى تقتضي تخصيص المكونات بوجه دون وجه، وفي وقت دون وقت لا كما زعمت الفلاسفة من أنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالإرادة والاختيار، والنجارية من أنه مريد بذاته لا بصفته، وبعض المعتزلة من أنه مريد بإرادة حادثة لا في محل، والكرمية من أن إرادته حاثة في ذاته، والدليل على ما ذكرنا الآيات الناطقة بإثبات صفة الإرادة والمشيئة لله تعالى، مع القطع بلزوم قيام صفة الشيء به وامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

وأيضاً نظام العالم ووجوده على الوجه الأوفق الأصلح دلي لعلى كون صانعه قادراً مختاراً، وكذا حدوثه إذ لو كان صانعه موجباً بالذات لزم قدمه ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته الموجبة.

(ورؤية الله تعالى) بمعنى الانكشاف التام بالبصر، وهو معنى إدراك الشيء كما هو بحاسة البصر، وذلك أنا إذا نظرنا إلى البدر ثم غمضنا العين فلا خفاء في أنه وإن كان منكشفاً لدينا في الحالين لكن انكشافه حال النظر إليه أتم وأكمل، ولنا بالنسبة إليه حينئذ حالة مخصوصة هي المسماة بالرؤية.

(جائزة في العقل)

بمعنى أن العقل إذا خُلي ونفسه لم يحكم بامتناع رؤيته ما لم يقم له برهان على ذلك، مع أن الأصل عدمه، وهذا القدر ضروري، فمن ادعى الامتناع فعليه البيان.

وقد استدل أهل الحق على إمكان الرؤية بوجهين: عقلي وسمعي.

تقرير الأول: أنا قاطعون برؤية الأعيان والأعراض، ضرورة أنا نفرق بالبصر بين جسم وجسم وعرض وعرض، ولا بد للحكم المشترك من علة مشتركة، وهي إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان إذ لا رابع يشترك بينهما.

والحدوث عبارة عن الوجود بعد العدم، والإمكان عن عدم ضرورة الوجود والعدم، ولا مدخل للعدم في العلية، فتعين الوجود وهو مشترك بين الصانع وغيره، فيصح أن يرى من حيث تحقق علة الصحة وهي الوجود، ويتوقف امتناعها على ثبوت كون شيء من خواص الممكن شرطاً أو من خواص الواجب مانعاً.

وكذا يصح أن يرى سائر الموجودات من الأصوات والطعوم والروائح وغير ذلك، وإنما لا يرى بناء على أنه الله تعالى لم يخلق في العبد رؤيتها بطريق جري العادة، لا بناء على امتناع رؤيتها.

وحين اعترض بأن الصحة عدمية فلا تستدعي علة، ولو سلم فالواحد النوعي قد يعلل بالمختلفات كالحرارة بالشمس والنار، فلا يستدعي علية مشتركة، ولو سلم فالعدمي يصلح علة للعدمي، ولو سلم فلا نسلم اشتراك الوجود، بل وجود كل شيء عينه.

أجيب: بأن المراد بالعلة متعلق الرؤية والقابل لها، ولا خفاء في لزوم كونه وجودياً، ثم لا يجوز أن يكون خصوصية الجسم أو العرض، لأنا أول ما نرى شبحاً من بعيد إنما ندرك منه هوية ما دون خصوصية جوهريته أو عرضيته أو إنسانيته أو فرسيته ونحو ذلك، وبعد رؤيته برؤية واحدة متعلقة بهويته قد نقدر على تفصيله إلى ما فيه من الجواهر والأعراض، وقد لا نقدر، فمتعلق الرؤية هو كون الشيء له هوية ما، وهو المعنى بالوجود، واشتراكه ضروري.

وفيه نظر، لجواز أن يكون متعلق الرؤية هو الجسمية وما يتبعها من الأعراض من غير اعتبار خصوصيته.

وتقرير الثاني: أن موسى عليه السلام قد سأل الرؤية بقوله: ((رب أرني أنظر إليك))، فلو لم تكن الرؤية ممكنة لكان طلبها جهلاً بما يجوز في ذات الله تعالى وما لا يجوز أو سفهاً وعبثاً وطلباً للمحال، والأنبياء منـزهون عن ذلك.

وأن الله قد علق الرؤية باستقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه، والمعلق بالممكن ممكن، لأن معناه الإخبار بثبوت المعلق عند ثبوت المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.

وقد اعترض عليه بوجوه، أقواها: أن سؤال موسى عليه السلام كان لأجل قومه حيث قالوا: ((لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)) فسأل ليعلموا امتناعها كما علمه هو، وبأنا لا نسلم أن المعلق عليه ممكن، بل هو استقرار الجبل حال تحركه وهو محال.

وأجيب: بأن كلا من ذلك خلاف الظاهر، ولا ضرورة في ارتكابه، على أن القوم إن كانوا مؤمنين كفاهم قول موسى عليه السلام أن الرؤية ممتنعة، وإن كانوا كفاراً لم يصدقوه في حكم الله تعالى بالامتناع، وأيا ما كان يكون السؤال عبثاً.

والاستقرار حال التحرك أيضاً ممكن، بأن يقع السكون بدل الحركة، وإنما المحال اجتماع الحركة والسكون.

(واجبة بالنقل، وَرَدَ الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين الله تعالى في دار الآخرة)

أما الكتاب فقوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)).

وأما السنة فقوله عليه السلام: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) وهو مشهور رواه أحد وعشرون من أكابر الصحابة رضي الله عنهم.

وأما الإجماع فهو أن الأمة كانوا مجتمعين على وقوع الرؤية في الآخرة، وأن الآيات الواردة في ذلك محمولة على ظواهرها، ثم ظهرت مقالة المخالفين وشاعت شبههم وتأويلاتهم.

وأقوى شبههم من العقليات: أن الرؤية مشروطة بأن المرئي في مكان وجهة ومقابلة من الرائي وثبوت مسافة بينهما بحث لا يكون في غاية القرب ولا في غاية البعد واتصال شعاع من الباصرة بالمرئي، وكل ذلك محال في حق الله تعالى.

والجواب: منع هذا الاشتراط، وإليه أشار بقوله:

(فيرى لا في مكان ولا على جهة من مقابلة ولا اتصال شعاع ولا ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى)

وقياس الغائب على الشاهد فاسد.

وقد يستدل على عدم الاشتراط برؤية الله تعالى إيانا، وفيه نظر، لأن الكلام في الرؤية بحاسة البصر.

فإن قيل: لو كان جائز الرؤية والحاسة سليمة وسائر الشرائط موجودة لوجب أن يرى، وإلا لجاز أن كون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها، وإنها سفسطة.

قلنا: ممنوع، فإن الرؤية عندنا بخلق الله تعالى، فلا تجب عند اجتماع الشرائط.

ومن السمعيات قوله تعالى: ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)).

والجواب بعد تسليم كون الأبصار للاستغراق وإفادته عموم السلب لا سلب العموم وكون الإدراك هو الرؤية مطلقاً لا الرؤية على وجه الإحاطة بجوانب المرئي: أنه لا دلالة فيه على عموم الأوقات والأحوال.

وقد يستدل بالآية على جواز الرؤية، إذ لو امتنعت لما حصل التمدح بنفيها، كالمعدوم لا يمدح بعدم رؤيته لامتناعها، وإنما التمدح في أنه تمكن رؤيته ولا يرى للتمنع والتعزز بحجاب الكبرياء.

وإن جعلنا الإدراك عبارة عن الرؤية على وجه الإحاطة بالجوانب والحدود فدلالة الآية على جواز الرؤية بل تحققها أظهر، لأن المعنى أن الله تعالى مع كونه مرئياً لا يدرك بالأبصار لتعاليه عن التناهي والاتصاف بالحدود والجوانب.

ومنها أن الآيات الواردة في سؤال الرؤية مقرونة بالاستعظام والاستنكار.

والجواب: أن ذلك لتعنتهم وعنادهم في طلبها، لا لامتناعها، وإلا لمنعهم موسى عليه السلام عن ذلك، كما فعل حين سألوا أن يجعل لهم آلهة، فقال: ((بل أنتم قوم تجهلون)) وهذا مشعر بإمكان الرؤية في الدنيا، ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة المعراج أم لا ؟ والاختلاف في الوقوع دليل الإمكان.

أما الرؤية في المنام فقد حكيت عن كثير من السلف، ولا خفاء في أنها نوع مشاهدة تكون بالقلب دون العين.

(والله تعالى خالق لأفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان)

لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله، وقد كانت الأوائل منهم يتحاشون عن إطلاق لفظ الخالق على العبد ويكتفون بلفظ الموجد والمخترع ونحو ذلك، وحين رأى الجبائي واتباعه أن معنى الكل واحد، وهو المخرج من العدم إلى الوجود، تجاسروا على إطلاق لفظ الخالق.

احتج أهل الحق بوجوه:

الأول: أن العبد لو كان خالقاً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيلها، ضرورة أن إيجاد الشيء بالقدرة والاختبار لا يكون إلا كذلك، واللازم باطل، فإن المشي من موضع إلى موضع قد يشتمل على سكنتات متخللة وعلى حركات بعضها أسرع وبعضها أبطأ، ولا شعور للماشي بذلك، وليس هذا ذهولاً عن العلم، بل لو سئل لم يعلم، وهذا في أظهر أفعاله.

وأما إذا تأملت في حركات أعضائه في المشي والأخذ والبطش ونحو ذلك ما يحتاج إليه من تحريك العضلات وتمديد الأعصاب ونحو ذلك فالأمر أظهر.

الثاني: النصوص الواردة في ذلك، كقوله تعالى: ((والله خلقكم وما تعملون)) أي عملكم، على أن ما مصدرية لئلا يحتاج إلى حذف الضمير، أو معمولكم على أن ما موصولة، ويشتمل الأفعال، لأنا إذا قلنا أفعال العباد مخلوقة لله تعالى أو للعبد لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع، بل الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلاً.

وللذهول عن هذه النكتة قد يتوهم أن الاستدلال بالآية موقوف على كون ما مصدرية.

وكقوله تعالى: ((الله خالق كل شيء)) أي ممكن، بدلالة العقل، وفعل العبد شيء ممكن.

وكقوله تعالى: ((أفمن يخلق كمن لا يخلق)) في مقام التمدح بالخالقية، وكونها مناطاً لاستحقاق العبادة.

لا يقال: فالقائل بكون العبد خالقاً لأفعاله يكون من المشركين دون الموحدين !!

لأنا نقول: الإشراك هو إثبات الشريك في الألوهية، بمعنى وجوب الوجود، كما للمجوس، أو بمعنى استحقق العبادة كما لعبدة الأصنام، والمعتزلة لا يثبون ذلك، بل لا يجعلون خالقية العبد كخالقية الله تعالى، لافتقاره إلى الأسباب والآلات التي هي بخلق الله تعالى.

إلا أن مشايخ ما وراء النهر قد بالغوا في تضليلهم في هذه المسألة، حتى قالوا: إن المجوس أسعد حالاً منهم، حيث لم يثبتوا إلا شريكاً واحداً، والمعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى !!

واحتجت المعتزلة: بأنا نفرق بالضرورة بين حركة الماشي  وحركة المرتعش، وأن الأولى باختياره دون الثانية، وبأنه لو كان الكل بخلق الله تعالى لبطل قاعدة التكليف والمدح والذم والثواب والعقاب، وهو ظاهر.

والجواب: أن ذلك إنما يتوجه على الجبرية القائلين بنفي الكسب والاختيار له أصلاً، وأما نحن فنثبته على ما نحققه إن شاء الله تعالى.

وقد تتمسك: بأنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لكان هو القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني والسارق إلى غير ذلك !!

وهذا جهل عظيم، لأن المتصف بالشيء من قام به ذلك الشيء، لا من أوجده، أو لا يرون أن الله تعالى هو الخالق للسواد والبياض وسائر الصفات في الأجسام، ولا يتصف بذلك ؟!!

وربما يتمسك: بقوله تعالى: ((فتبارك الله أحسن الخالقين)) ((وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير)).

والجواب: أن الخلق هنا بمعنى التقدير.

(وهي) أي أفعال العباد (كلها بإرادته ومشيئته) قد سبق أنهما عندنا عبارة عن معنى واحد، (وحكمه) لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى خطاب التكوين، (وقضيته) أي قضائه، وهو عبارة عن الفعل مع زيادة أحكام.

لا يقال: لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا به، لأن الرضا بالقضاء واجب، واللازم باطل، لأن الرضا بالكفر كفر.

لأنا نقول: الكفر مقضي لا قضاء، والرضا إنما يجب بالقضاء دون المقضي.

(وتقديره) وهو تحديد كل مخلوق بحده الذي يوجد من حسن وقبح ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من ثواب وعقاب.

والمقصود تعميم إرادة الله وقدرته لما مر من أن الكل بخلق الله تعالى، وهو يستدعي القدرة والإرادة لعدم الإكراه والإجبار.

فإن قيل: فيكون الكافر مجبوراً في كفره والفاسق في فسقه، فلا يصح تكليفهما بالإيمان والطاعة.

قلنا: إنه تعالى أراد منهما الكفر والفسق باختيارهما، فلا جبر، كما أنه تعالى علم منهما الكفر والفسق بالاختيار، ولم يلزم تكليف المحال.

والمعتزلة أنكروا إرادة الله تعالى للشرور والقبائح، حتى قالوا: إنه تعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته، لا كفره ومعصيته زعماً منهم أن إرادة القبيح قبيحة كخلقه وإيجاده.

ونحن نمنع ذلك، بل القبيح كسب القبيح والاتصاف به، فعندهم يكون أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادة الله تعالى، وهذا شنيع جداً.

حكي عن عمر بن عبيد أنه قال: ما ألزمني أحد مثل ما ألزمني مجوسي كان معي في السفينة، فقلت له: لم لا تسلم ؟ فقال: لأن الله لم يرد إسلامي، فإذا أراد الله إسلامي أسلمت.

فقلت للمجوسي: إن الله تعالى يريد إسلامك، ولكن الشياطين لا يتركونك.

فقال المجوسي: فأنا أكون مع الشريك الأغلب.

وحكي أن القاضي عبد الجبار الهمداني دخل على الصاحب ابن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فلما رأى الأستاذ قال: سبحان من تنـزه عن الفحشاء !!

فقال الأستاذ على الفور: سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.

والمعتزلة اعتقدوا أن الأمر يستلزم الإرادة والنهي عدم الإرادة، فجعلوا إيمان الكافر مراداً وكفره غير مراد، ونحن نعلم أن الشيء قد لا يكون مراداً ويؤمر به، وقد يكون مراداً وينهى عنه لحكم ومصالح يحيط بها علم الله تعالى، أو لأنه ((لا يسئل عما يفعل))، ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يظهر على الحاضرين عصيان عبده يأمره بالشيء ولا يريده منه.

وقد يتمسك من الجانبين بالآيات، وباب التأويل مفتوح على الفريقين.

((وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها)) إن كانت طاعة ((ويعاقبون عليها)) إن كانت معصية، لا كما زعمت الجبرية من أنه لا فعل للعبد أصلاً وأن حركاته بمنـزلة حركات الجمادات لا قدرة للعبد عليها ولا قصد ولا اختيار.

وهذا باطل لأنا نفرق بالضرورة بين حركة البطش وحركة الارتعاش، ونعلم أن الأول باختياره دون الثاني، ولأنه لو لم يكن للعبد فعل أصلاً لما صح تكليفه ولا ترتب استحقاق الثواب والعقاب على أفعاله ولا إسناد الأفعال التي تقتضي سابقية القصد والاختيار إليه على سبيل الحقيقة مثل صلى وصام وكتب، بخلاف مثل طال الغلام واسود لونه.

والنصوص القطعية تنفي ذلك كقوله تعالى: ((جزاء بما كانوا يعملون)) وقوله تعالى: ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) إلى غير ذلك.

فإن قيل: بعد تعميم علم الله تعالى وإرادته الجبر لا زم قطعاً، لأنهما إما أن يتعلقا بوجود الفعل فيجب أو بعدمه فيمتنع، ولا اختيار مع الوجوب والامتناع !!

قلنا: يعلم ويريد أن العبد يفعله أو يتركه باختياره، فلا إشكال.

فإن قيل: فيكون فعله الاختياري واجباً أ, ممتنعاً، وهذا ينافي الاختيار.

قلنا: ممنوع، فإن الوجوب بالاختيار محقق للاختيار لا مناف.

وأيضاً منقوض بأفعال الباري جل ذكره، لأن علمه وإرادته متعلقان بأفعاله، فيلزم أن يكون فعله واجباً عليه.

فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلا كونه موجداً لأفعاله بالقصد والإرادة، وقد سبق أن الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها، ومعلوم أن المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.

قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته إلا أنه لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله تعالى، وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش، احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله تعالى خالق كل شيء والعبد كاسب.

وتحقيقه أن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور الله بجهة الإيجاد ومقدور العبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة ا لمفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار، ولهم في الفرق بينهما عبارات مثل: إن الكسب ما وقع بآلة والخلق لا بآلة، والكسب مقدور وقع في محل قدرته والخلق مقدور وقع لا في محل قدرته، والكسب لا يصح انفراد القادر به والخلق يصح انفراده.

فإن قيل: فقد أثبتم ما نسبتم إلى المعتزلة من إثبات الشركة.

قلنا: الشركة أن يجتمع اثنان على شيء واحد وينفرد كل منهما ما هو له دون الآخر كشركاء القرية والمحلة، وكما إذا جعل العبد خالقاً لأفعاله والصانع خالقاً لسائر الأعراض والأجسام، بخلاف ما إذا أضيف أمر إلى شيئين بجهتين مختلفتين كأرض تكون ملكاً لله تعالى بجهة التخليق وللعباد بجهة ثبوت التصرف، وكفعل العبد ينسب إلى الله تعالى بجهة الخلق وإلى العبد بجهة الكسب.

فإن قيل: فكيف كان كسب القبيح قبيحاً سفهاً موجباً لاستحقاق الذم والعقاب بخلاف خلقه.

قلنا: لأنه قد ثبت أن الخالق حكيم لا يخلق شيئاً إلا وله عاقبة حميدة وإن لم نطلع عليها، فجزمنا بأن ما نستقبحه من الأفعال قد يكون له فيها حكم ومصالح كما في خلق الأجسام الخبيثة الضارة المؤلمة بخلاف الكسب، فإنه قد يفعل الحسن وقد يفعل القبيح، فجعلنا كسبه للقبيح مع ورود النهي عنه قبيحاً سفهاً موجباً لاستحقاق الذم والعقاب.

((والحسن منها)) أي من أفعال العباد وهو ما يكون متعلق المدح في العاجل والثواب في الآجل، والأحسن أن يفسر بما لا يكون متعلقاً للذم والعقاب ليشمل المباح.

((برضاء الله تعالى)) أي بإرادته من غير اعتراض.

((والقبيح منها)) وهو ما يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل.

((ليس برضاه)) لما عليه من الاعتراض، قال الله تعالى: ((ولا يرضى لعباده الكفر))، يعني أن الإرادة والمشيئة والتقدير يتعلق بالكل، والرضا والمحرة والأمر لا يتعلق إلا بالحسن دون القبيح.

((والاستطاعة مع الفعل)) خلافاً للمعتزلة.

((وهي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل)) إشارة إلى ما ذكره صاحب التبصرة من أنها عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية، وهي علة للفعل، والجمهور على أنها شرط لأداء الفعل لا علته.

وبالجملة هي صفة يخلقها الله تعالى عند قصد اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات، فإن قصد فعل الخير خلق الله تعالى قدرة فعل الخير، وإن قصد فعل الشر خلق الله تعالى قدرة فعل الشر، فكان هو المضيع لقدرة فعل الخير، فيستحق الذم والعقاب، ولهذا ذم الكافرين بأنهم لا يستطيعون السمع، وإذا كانت الاستطاعة عرضاً وجب أن تكون مقارنة للفعل لازمان لا سابقة عليه، وإلا لزم وقوع الفعل بلا استطاعة وقدرة عليه لما مر من امتناع بقاء الأعراض.

فإن قيل: لو سلم استحالة بقاء الأعراض فلا نـزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال، فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة.

قلنا: إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة، وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة له، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال سابقة حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان.

وأما ما يقال: لو فرضنا بقاء القدرة السابقة إلى آن الفعل إما بتجدد الأمثال وإما باستقامة بقاء الأعراض، فإن قالوا بجواز وجود الفعل بها في الحالة الأولى فقد تركوا مذهبهم حيث جوزوا مقارنة الفعل بالقدرة، وإن قالوا بامتناعه لزم التحكم والترجيح بلا مرجح، إذ القدرة بحالها لم تتغير ولم يحدث فيها معنى لاستحالة ذلك على الأعراض، فمل صار الفعل بها في الحالة الثانية واجباً وفي الحالة الأولى ممتنعاً ؟

ففيه نظر، لأن القائلين بكون الاستطاعة قبل الفعل لا يقولون بامتناع المقارنة الزمانية، وبأن حدوث كل فعل يجب أن يكون بقدرة سابقة عليه بالزمان البتة حتى يمتنع حدوث الفعل في زمان حدوث القدرة مقرونة بجميع الشرائط، ولأنه يجوز أن يمتنع الفعل في الحالة الأولى لانتفاء شرط أو وجود مانع، ويجب في الثانية لتمام الشرائط، مع أن القدرة التي هي صفة القادر في الحالتين على السواء.

ومن هاهنا ذهب بعضهم إلى أنه إن أريد بالاستطاعة القدرة المستجمعة لجميع شرائط التأثير فالحق أنها مع الفعل، وإلا فقبله، وأما امتناع بقاء الأعراض فمبني على مقدمات صعبة البيان، وهي أن بقاء الشيء أمر محقق زائد عليه، وأنه يمتنع قيام العرض بالعرض، وأنه يمتنع قيامهما معاً بالمحل.

ولما استدل القائلون بكون الاستطاعة قبل الفعل بأن التكليف حاصل قبل الفعل ضرورة أن الكافر مكلف بالإيمان وتارك الصلاة مكلف بها بعد دخول الوقت، فلو لم تكن الاستطاعة متحققة حينئذ لزم تكليف العاجر وهو باطل، أشار إلى الجواب بقوله:

((ويقع هذا الاسم)) يعني لفظ الاستطاعة ((على سلامة الأسباب والآلات والجوارح)) كما في قوله تعالى: ((ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)).

فإن قيل: الاستطاعة صفة المكلف وسلامة الأسباب والآلات ليس صفة له، فكيف يصح تفسيرها بها ؟

قلنا: المراد سلامة الأسباب والآلات له، والمكلف كما يتصف بالاستطاعة يتصف بذلك حيث يقال: هو ذو سلامة الأسباب، إلا أنه لتركبه لا يشتق منه اسم فاعل يحمل عليه، بخلاف الاستطاعة.

((وصحة التكليف تعتمد هذه الاستطاعة)) التي هي سلامة الأسباب والآلات، لا الاستطاعة بالمعنى الأول.

فإن أريد بالعجز عدم الاستطاعة بالمعنى الأول فلا نسلم استحالة تكليف العاجز، وإن أريد بالمعنى الثاني فلا نسلم لزومه لجواز أن يحصل قبل الفعل سلامة الأسباب والآلات وإن لم تحصل حقيقة القدرة التي بها الفعل.

وقد يجاب بأن القدرة صالحة للضدين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى أن القدرة المصروفة إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان، ولا اختلاف إلا في التعلق، وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة، فالكافر قادر على الإيمان المكلف به، إلا أنه صرف قدرته إلى الكفر وضيع باختياره صرفها إلى الإيمان، فاستحق الذم والعقاب.

ولا يخفى أن في هذا الجواب تسليماً لكون القدرة قبل الفعل، لأن القدرة على الإيمان في حال الكفر تكون قبل الإيمان لا محالة.

فإن أجيب بأن المراد أن القدرة وإن صلحت للضدين لكنها من حيث التعلق بأحدهما لا تكون إلا معه حتى أن ما يلزم مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للترك هي القدرة المتعلقة به، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدمة متعلقة بالضدين.

قلنا: هذا مما لا يتصور فيه نـزاع، بل هو لغو من الكلام، فليتأمل.

((ولا يكلف العبد لما ليس في وسعه)) سواء كان ممتنعاً في نفسه كجمع بين الضدين أو ممكناً في نفسه لكن لا يمكن للعبد كخلق الجسم، وأما ما يمتنع بناء على أن الله تعالى علم خلافه أو أراد خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نـزاع في وقوع التكليف به لكونه مقدوراً للمكلف بالنظر إلى نفسه، ثم عدم التكليف بما ليس في الوسع متفق عليه، كقوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) والأمر في قوله تعالى: ((أنبئوني بأسماء هؤلاء)) للتعجيز دون التكليف، وقوله تعالى حكاية عن حال المؤمنين: ((ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)) ليس المراد بالتحميل هو التكليف، بل إيصال ما لا يطاق من العوارض إليهم، وإنما النـزاع في الجواز فمنعه المعتزلة بناء على القبح العقلي، وجوزه الأشعري لأنه لا يقبح من الله تعالى شيء.

وقد يستدل بقوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) على نفي الجواز، وتقريره: أنه لو كان جائزاً لما لزم من فرض وقوعه محال، ضرورة أن استحالة اللازم توجب استحالة الملزوم، تحقيقاً لمعنى اللزوم، لكنه لو وقع لزم كذب كلام الله تعالى، وهو محال، وهذه نكتة في بيان استحالة وقوع كل ما يتعلق علم الله تعالى وإرادته واختياره بعدم وقوعه.

وحلها أنا لا نسلم أن كل ما يكون ممكناً في نفسه لا يلزم من فرض وقوعه محال، وإنما يجب ذلك لو لم يعرض له الامتناع بالغير، وإلا لجاز أن يكون لزوم المحال بناء على الامتناع بالغير، ألا يرى أن الله تعالى لما أوجد العالم بقدرته واختياره فعدمه ممكن في نفسه مع أنه يلزم من فرض وقوعه تخلق المعلول عن علته التامة، وهو محال.

والحاصل أن الممكن في نفسه لا يلزم من فرض وقوعه محال بالنظر إلى ذاته، وأما بالنظر إلى أمر زائد على نفسه فلا نسلم أنه لا يستلزم المحال.

((وما يوجد من الألم في المضروب عقيب ضرب إنسان والانكسار في الزجاج عقيب كسر إنسان)) قيد بذلك ليصح محلاً للخلاف في أنه هل للعبد صنع فيه أم لا، ((وما أشبهه)) كالموت عقيب القتل ((كل ذلك مخلوق لله تعالى)) لما مر أن الخالق هو الله تعالى وحده، وأن كل الممكنات مستندة إليه لا واسطة.

والمعتزلة لما أسندوا بعض الأفعال إلى غير الله تعالى قولا: إن كان الفعل صادراً عن الفاعل لا بتوسط فعل آخر فهو بطريق المباشرة وإلا فبطريق التوليد، ومعناه أن يوجب الفعل لفاعله فعلاً آخر كحركة اليد توجب حركة المفتاح، فالألم متولد من الضرب والانكسار من الكسر وليسا مخلوقين لله تعالى، وعندنا الكل بخلق الله تعالى.

((لا صنع للعبد في تخليقه)) والأولى أن لا يقد بالتخليق، لأن ما يسمونه متولدات لا صنع للعبد فيه أصلاً، أما التخليق فلاستحالته من العبد، وأما الاكتساب فلاستحالة اكتساب العبد ما ليس قائماً بمحل القدرة، ولهذا لا يتمكن ا لعبد من عدم حصولها بخلاف أفعاله الاختيارية.

((والمقتول ميت بأجله))

أي الوقت المقدر لموته، لا كما زعم بعض المعتزلة من أن الله تعالى قد قطع عليه الأجل.

لنا أن الله تعالى قد حكم بآجال العباد على ما علم من غير تردد، وبأنه ((إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)).

واحتجت المعتزلة بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر، وبأنه لو كان ميتاً بأجله لما استحق القاتل ذماً ولا عقاباً ولا دية ولا قصاصاً، إذ ليس موت المقتول بخلقه ولا بكسبه.

والجواب: أن الله تعالى كان يعلم أنه لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين سنة، لكنه علم أنه يفعلها فيكون عمره سبعين سنة، فنسبت هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت تلك الزيادة.

وعن الثاني: أن وجوب العقاب والضمان على القاتل تعبد لارتكابه المنهي، وكسبه الفعل الذي يخلق الله تعالى عقيبه الموت بطريق جري العادة، فإن القتل فعل القاتل كسباً، وإن لم يكن له خلقاً، والموت قائم بالميت مخلوق لله تعالى، لا صنع فيه للعبد تخليقاً ولا اكتساباً.

ومبنى هذا على أن الموت وجودي بدليل قوله تعالى: ((خلق الموت والحياة)) والأكثرون على أنه عدمي، ومعنى خلق الموت قدره.

((والأجل واحد)) لا كما زعم الكعبي أن للمقتول أجلين: القتل والموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، ولا كما زعمت الفلاسفة أن للحيوان أجلاً طبيعياً وهو وقت موته بتخلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين، وآجالاً اخترامية على خلاف مقتضى طبيعته بحسب الآفات والأمراض.

((والحرام رزق)) لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيأكله، وذلك قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، وهذا أولى من تفسيره بما يتغذى به الحيوان، لخلوه عن معنى الإضافة إلى الله تعالى، مع أنه معتبر في مفهوم الرزق.

وعند المعتزلة الحرام ليس برزق، لأنهم فسروه تارة بمملوك يأكله المالك، وتارة بما لا يمنع من الانتفاع به، وذلك لا يكون حلالاً.

لكن يلزم على الأول أن لا يكون ما يأكله الدواب رزقاً، وعلى الوجهين: أن من أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى أصلاً.

ومبنى هذا الاختلاف على أن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معنى الرزق، وأنه لا رازق إلا الله وحده، وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام، وما يكون مستنداً إلى الله تعالى لا يكون قبيحاً، ومرتكبه لا يستحق الذم والعقاب.

والجواب: أن ذلك لسوء مباشرة أسبابه باختياره.

((وكل يستوفي رزق نفسه حلالاً كان أو حراماً)) لحصول التغذي بهما جميعاً.

((ولا يتصور أن لا يأكل إنسان رزقه أو يأكل رزق غيره)) لأن ما قدره الله غذاء لشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكله غيره، وأما بمعنى الملك فلا يمتنع.

((والله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء)) بمعنى خلق الضلالة والاهتداء، لأنه الخالق وحده.

وفي التقييد بالمشيئة إشارة إلى أنه ليس المراد بالهداية بيان طريق الحق، لأنه عام في حق الكل، ولا الإضلال عبارة عن وجدان العبد ضالاً أو تسميته ضالاً، إذ لا معنى لتعليق ذلك بمشيئة الله تعالى.

نعم قد تضاف الهداية إلى النبي عليه السلام مجازاً بطريق التسبب، كما تسند إلى القرآن، وقد يسند الإضلال إلى الشيطان مجازاً كما يسند إلى الأصنام.

ثم المذكور في كلام المشايخ أن الهداية عندنا خلق الاهتداء، وعند المعتزلة بيان طريق الصواب، وهو باطل لقوله تعالى: ((إنك لا تهدي من أحببت)) ولقوله عليه السلام: ((اللهم اهد قومي)) مع أنه بين الطريق ودعاهم إلى الاهتداء.

والمشهور أن الهداية عند المعتزلة هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، وعندنا الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب، سواء حصل الوصول والاهتداء أو لم يحصل.

((وما هو الأصلح للعبد فليس ذلك بواجب على الله تعالى))

وإلا لما خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة، ولما كان له منة على العباد واستحقاق شكر في الهداية وإفاضة أنواع الخيرات، لكونها أداء للواجب، ولما كان امتنان الله على النبي عليه السلام فوق امتنانه على أبي جهل لعنه الله، إذ فعل بكل منهما غاية مقدوره من الأصلح له، ولما كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضراء والبسط في الخصب والرخاء معنى، لأن ما لم يفعله في حق كل واحد فهو مفسدة له يجب على الله تركها، ولما بقي في قدرة الله تعالى بالنسبة إلى مصالح العباد شيء، إذ قد أتى بالواجب.

ولعمري إن هذه مفاسد هذا الأصل، أعني وجوب الأصلح، بل أكثر أصول المعتزلة أظهر من أن يخفى وأكثر من أن يحصى، وذلك لقصور نظرهم في المعارف الإلهية ورسوخ قياس الغائب على الشاهد في طباعهم.

وغاية تشبثهم في ذلك أن ترك الأصلح يكون بخلاً وسفهاً.

وجوابه: إن منع ما يكون حق المانع، وقد ثبت بالأدلة القاطعة كرمه وحكمته ولطفه وعلمه بالعواقب يكون محض عدل وحكمة.

ثم ليت شعري ما معنى وجوب الشيء على الله تعالى، إذ ليس معناه استحقاق تاركه الذم والعقاب، وهو ظاهر، ولا لزوم صدوره عنه بحيث لا يتمكن من الترك، بناء على استلزامه محالاً من سفه أو جهل أو عبث أو بخل أو نحو ذلك، لأنه رفض لقاعدة الاختيار وميل إلى الفلسفة الظاهرة العوار.

((وعذاب القبر للكافرين ولبعض عصاة المؤمنين)) خص البعض لأن منهم من لا يريد الله تعالى تعذيبه فلا يعذب، ((وتنعيم أهل الطاعة في القبر بما يعلمه الله تعالى ويريده)) وهذا أولى مما وقع في عامة الكتب من الاقتصار على إثبات عذاب القبر دون تنعيمه بناء على أن النصوص الواردة فيه أكثر وعلى أن عامة أهل القبور كفار وعصاة، فالتعذيب بالذكر أجدر، ((وسؤال منكر ونكير)) وهما ملكان يدخلان القبر فيسئلان العبد عن ربه وعن دينه وعن نبيه، قال السيد أبو شجاع: إن للصبيان سؤالاً وكذا للأنبياء عند البعض، ((ثابت)) كل من هذه الأمور ((بالدلائل السمعية)) لأنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق على ما نطقت به النصوص.

قال الله تعالى: ((النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب))، وقال الله تعالى: ((أغرقوا فأدخلوا ناراً))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استنـزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه)) وقال عليه السلام: ((قوله تعالى: ((يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)) نـزلت في عذاب القبر، إذا قيل له: من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد عليه السلام))، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان عيناهما، يقال لأحدهما: منكر، والآخر: نكير..)) إلى آخر الحديث، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران))، وبالجملة الأحاديث الواردة في هذا المعنى وفي كثير من أحوال الآخرة متواترة المعنى وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر.

وأنكر عذاب القبر بعض المعتزلة والروافض، لأن الميت جماد لا حياة له ولا إدراك، فتعذيبه محال.

والجواب: أنه يجوز أن يخلق الله تعالى في جميع الأجزاء أو في بعضها نوعاً من الحياة قدر ما يدرك ألم العذاب أو لذة التنعيم، وهذا لا يستلزم إعادة الروح إلى بدنه ولا أن يتحرك ويضطرب أو يرى أثر العذاب عليه، حتى أن الغريق في الماء أو المأكول في بطون الحيوانات أو المصلوب في الهواء يعذب وإن لم نطلع عليه.

ومن تأمل في عجائب ملكه تعالى وملكوته وغرائب قدرته وجبروته لم يستبعد أمثال ذلك، فضلاً عن الاستحالة.

واعلم أنه لما كان أحوال القبر مما هو متوسط بين أمر الدنيا والآخرة، ودليل الكل أنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق ونطق بها الكتاب والسنة، فتكون ثابتة، وصرح بحقيقة كل منها تحقيقاً وتوكيداً واعتناءًا بشأنه فقال:

((والبعث)) وهو أن يبعث الله تعالى الموتى من القبور بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها ((حق)) لقوله تعالى: ((ثم إنكم يوم القيامة تبعثون))، وقوله تعالى: ((قل يحييها الذي أنشأها أول مرة)) إلى غير ذلك من النصوص القاطعة الناطقة بحشر الأجساد.

وأنكره الفلاسفة بناء على امتناع إعادة المعدوم بعينه، وهو مع أنه لا دليل لهم عليه يعتد به غير مضر بالمقصود، لأن مرادنا أن الله تعالى يجمع الأجزاء الأصلية للإنسان ويعيد روحه إليه، سواء سمي ذلك إعادة المعدوم بعينه أو لم يسم.

وبهذا سقط ما قالوا: إنه لو أكل إنسان إنساناً بحيث صار جزءاً منه، فتلك الأجزاء إما أن تعاد فيهما وهو محال، أو في أحدهما فلا يكون الآخر معاداً بجميع أجزائه، وذلك لأن المعاد إنما هو الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره، والأجزاء المأكولة فضلة من الآكل لا أصلية.

فإن قيل: هذا قول بالتناسخ، لأن البدن الثاني ليس هو الأول، لما ورد في الحديث من أن أهل الجنة جرد مرد مكحلون، وأن الجهنمي ضرسه مثل جبل أحد، ومن هاهنا قال من قال: ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ.

قلنا: إنما يلزم التناسخ لو لم يكن البدن الثاني مخلوقاً من الأجزاء الأصلية للبدن الأول، وغن سمي مثل ذلك تناسخاً كان نـزاعاً في مجرد الاسم، ولا دليل على استحالة إعادة الروح إلى مثل هذا البدن، بل الأدلة قائمة على حقيته سواء سمي تناسخاً أم لا.

((والوزن حق)) لقوله تعالى: ((والوزن يومئذ الحق)).

والميزان عبارة عما يعرف به كيفية مقادير الأعمال، والعقل قاصر عن إدراك كيفيته.

وأنكره المعتزلة، لأن الأعمال أعراض، وإن أمكن إعادتها لم يمكن وزنها، ولأنهما معلومة لله تعالى فوزنها عبث.

والجواب: أنه قد ورد في الحديث أن كتب الأعمال هي التي توزن، فلا إشكال.

وعلى تقدير تسليم كون أفعال الله تعالى معللة بالأغراض لعل في الوزن حكمة لا نطلع عليها، وعدم اطلاعنا على الحكمة لا يوجب العبث.

((والكتاب)) المثبت فيه طاعات العباد ومعاصيهم يؤتى للمؤمنين بأيمانهم وللكفار بشمائلهم ووراء ظهورهم، ((حق)) لقوله تعالى: ((ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً))، وقوله تعالى: ((فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً)).

وسكت المصنف عن ذكر الحساب اكتفاء بالكتاب، وأنكره المعتزلة زعماً منهم أنه عبث، والجواب ما مر.

((والسؤال حق)) لقوله تعالى: ((لنسألنهم أجمعين))، ولقوله عليه السلام: ((الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين.

((والحوض حق)) لقوله تعالى: ((إنا أعطيناك الكوثر))، ولقوله عليه السلام: ((حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبداً))، والأحاديث فيه كثيرة.

((والصراط حق)) وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، يعبره أهل الجنة ويزل به أقدام أهل النار.

وأنكره أكثر المعتزلة، لأنه لا يمكن العبور عليه، وإن أمكن فهو تعذيب للمؤمنين.

والجواب: أن الله تعالى قادر على أن يمكن من العبور عليه ويسهله على المؤمنين، حتى أن منهم من يجوزه كالبرق الخاطف ومنهم كالريح الهابة ومنهم كالجواد إلى غير ذلك مما ورد في الحديث.

((والجنة حق والنار حق)) لأن الآيات والأحاديث الواردة في شأنهما أشهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى.

وتمسك المنكرون بأن الجنة موصوفة بأن عرضها كعرض السماوات والأرض، وهذا في عالم العناصر محال وفي عالم الأفلاك إدخال عالم في عالم أو عالم آخر خارج عنه مستلزم لجواز الخرق والالتئام، وهو باطل.

قلنا: هذا مبني على أصلكم الفاسد، وقد تكلمنا عليه في موضعه.

(وهما) أي الجنة والنار (مخلوقتان) الآن (موجودتان) تكرير وتوكيد.

وزعم أكثر المعتزلة أنها إنما تخلقان يوم الجزاء.

ولنا قصة آدم عليه السلام وحواء وإسكانهما الجنة، والآيات الظاهرة في إعدادهما مثل: ((أعدت للمتقين)) و((أعدت للكافرين))، إذ لا ضرورة في العدول عن الظاهر.

فإن عورض بمثل قوله تعالى: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً)).

قلنا: يحتمل الحال والاستمرار، ولو سلم فقصة آدم تبقى سالمة عن المعارض.

قالوا: لو كانتا موجودتين الآن لما جاز هلاك أكل الجنة، لقوله تعالى: ((أكلها دائم)) لكن اللازم باطل لقوله تعالى: ((كل شيء هالك إلا وجهه)).

قلنا: لا خفاء في أنه لا يمكن دوام أكل الجنة بعينه، وإنما المراد بالدوام بأنه إذا فني منه شيء جيء ببدله، وهذا لا ينافي الهلاك لحظة، على أن الهلاك لا يستلزم الفناء، بل يكفي الخروج عن الانتفاع به، ولو سلم فيجوز أن يكون المراد أن كل شيء ممكن فهو هالك في حد ذاته، بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنـزلة العدم.

((باقيتان لا تفنيان ولا يفنى أهلهما)) أي دائمتان لا يطرأ عليهما عدم مستمر، لقوله تعالى في حق الفريقين: ((خالدين فيها أبداً)).

وأما ما قيل من أنهما تهلكان ولو لحظة تحقيقاً لقوله تعالى: ((كل شيء هالك إلا وجهه)) فلا ينافي البقاء بهذا المعنى، على أنك قد عرفت أنه لا دلالة في الآية على الفناء.

وذهبت الجهمية إلى أنهما تفنيان ويفنى أهلهما، وهو قول باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع، ليس عليه شبهة فضلاً عن حجة.

((والكبيرة))

قد اختلفت الروايات فيها، فروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها تسعة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وقذف المحصنة والزنا والفرار عن الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم، وزاد أبو هريرة: أكل الربا، وزاد علي رضي الله عنه: السرقة وشرب الخمر.

وقيل: كل ما كان مفسدته مثل مفسدة شيء مما ذكر أو أكثر منه.

وقيل: كل ما توعد عليه الشرع بخصوصه.

وقيل: كل معصية أصر عليها العبد فهي كبيرة، وكل ما استغفر عنها فهي صغيرة.

وقال صاحب الكفاية: الحق أنهما اسمان إضافيان لا يعرفان بذاتيهما، فكل معصية إذا أضيف إلى ما فوقها فهي صغيرة، وإن أضيفت إلى ما دونها فهي كبيرة، والكبيرة المطلقة هي الكفر، إذ لا ذنب أكبر منه.

وبالجملة المراد هاهنا أن الكبيرة التي هي غير الكفر ((لا تخرج العبد المؤمن من الإيمان))، لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان، خلافاً للمعتزلة حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، وهذا هو المنـزلة بين المنـزلتين، بناء على أن الأعمال عندهم جزء من حقيقة الإيمان.

((ولا تدخله)) أي العبد المؤمن ((في الكفر)) خلافاً للخوارج، فإنهم ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة بل الصغيرة أيضاً كافر، وأنه لا واسطة بين الكفر والإيمان.

لنا وجوه: الأول: ما سيجيء من أن حقيقة الإيمان هو التصديق القلبي، فلا يخرج المؤمن عن الاتصاف به إلا بما ينافيه، ومجرد الإقدام على الكبيرة لغلبة شهوة أو حمية أو أنفة أو كسل خصوصاً إذا اقترن به خوف العقاب ورجاء العفو والعزم على التوبة لا ينافيه، نعم إذا كان بطريق الاستحلال والاستخفاف كان كفراً لكونه علامة للتكذيب، ولا نـزاع في أن من المعاصي ما جعله الشارع أمارة للتكذيب وعلم كونه كذلك بالأدلة الشرعية كسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات والتلفظ بكلمات الكفر ونحو ذلك مما يثبت بالأدلة أنه كفر.

وبهذا ينحل ما قيل: إن الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والإقرار ينبغي أن يلا يصير المقر المصدق كافراً بشيء من أفعال الكفر وألفاظه ما لم يتحقق منه التكذيب أو الشك.

الثاني: الآيات والأحاديث الناطقة بإطلاق المؤمن على العاصي، كقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى))، وقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً))، وقوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)) الآية، وهي كثيرة.

الثالث: إجماع الأمة من عصر النبي عليه السلام إلى يومنا هذا بالصلاة على من مات من أهل القبلة من غير توبة والدعاء والاستغفار لهم مع العلم بارتكابهم الكبائر بعد الاتفاق على أن ذلك لا يجوز لغير المؤمن.

واحتجت المعتزلة بوجهين:

الأول: أن الأمة بعد اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة فاسق اختلفوا في أنه مؤمن وهو مذهب أهل السنة والجماعة أو كافر وهو قول الخوراج أو منافق وهو قول الحسن البصري، فأخذنا المتفق عليه وتركنا المختلف فيه، وقلنا: هو فاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق.

والجواب: أن هذا إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف من عدم المنـزلة بين المنـزلتين، فيكون باطلاً.

والثاني: أنه ليس بمؤمن لقوله تعالى: ((أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً)) جعل المؤمن مقابلاً للفاسق، وقوله عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا إيمان لمن لا أمانة له))، ولا كافر لما تواتر من أن الأمة كانوا لا يقتلونه ولا يجرون عليه أحكام المرتدين ويدفنونه في مقابر المسلمين.

والجواب:

أن المراد بالفاسق في الآية هو الكافر، فإن الكفر من أعظم الفسوق، والحديث وارد على سبيل التغليظ والمبالغة في الزجر عن المعاصي بدليل الآيات والأحاديث الدالة على أن الفاسق مؤمن، حتى قال عليه السلام لأبي ذر لما بالغ في السؤال: ((وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر)).

واحتجت الخوارج بالنصوص الظاهرة في أن الفاسق كافر، كقوله تعالى: ((ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون))، وقوله تعالى: ((ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون))، وكقوله عليه السلام: ((من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر)) وفي أن العذاب مختص بالكافر، كقوله تعالى: ((أن العذاب على من كذب وتولى))، وقوله تعالى: ((لا يصلاها إلا الأشقى الذي كتب وتولى)) وقوله تعالى: ((إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين)) إلى غير ذلك.

والجواب: أنها متروكة الظاهر للنصوص الناطقة على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر والإجماع المنعقد على ذلك على ما مر، والخوارج خوارج عما انعقد عليه الإجماع، فلا اعتداد بهم.

(والله لا يغفر أن يشرك به) بإجماع المسلمين لكنهم اختلفوا في أنه هل يجوز عقلاً أم لا ؟

فذهب بعضهم إلى أنه يجوز عقلاً وإنما علم عدمه بدليل السمع، وبعضهم إلى أنه يمتنع عقلاً لأن قضية الحكمة التفرقة بين المسيء والمحسين والكفر نهاية في الجناية لا يحتمل الإباحة ورفع الحرمة أصلاً، فلا يحتمل العفو ورفع الغرامة.

وأيضاً الكافر يعتقده حقاً ولا يطلب له عفو أو مغفرة فلم يكن العفو عنه حكمة.

وأيضاً هو اعتقاد الأبد فيوجب جزاء الأبد، هذا بخلاف سائر الذنوب.

(ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من الصغائر والكبائر) مع التوبة أو بدونها، خلافاً للمعتزلة، وفي تقرير الحكم ملاحظة للآية الدالة على ثبوته، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

والمعتزلة يخصونها بالصغائر وبالكبائر المقرونة بالتوبة، وتمسكوا بوجهين: الأول: الآيات والأحاديث الواردة في وعيد العصاة.

والجواب: أنها على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب، وقد كثرت النصوص في العفو فيخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد.

وزعم بعضهم أن الخلف في الوعيد كرم، فيجوز من الله تعالى، والمحققون على خلافه، كيف وهو تبديل للقول، وقد قال الله تعالى: ((ما يبدل القول لدي)).

الثاني: أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريراً له على الذنب وإغراء للغير عليه، وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل.

والجواب: أن مجرد جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلاً عن العلم، كيف والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد، وكفى به زاجراً.

 (ويجوز العقاب على الصغيرة) سواء اجتنبت مرتكبها الكبيرة أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: ((ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء))، ولقوله تعالى: ((لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)) والإحصاء إنما يكون بالسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

وذهب بعض المعتزلة على أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه لا بمعنى أن يمتنع عقلاً بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع، لقوله تعالى: ((إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)).

وأجيب: بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر، لأنه الكامل، وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، وإن كان الكل ملة واحدةٍ في الحكم، أو إلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من قاعدة أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد،كقولنا: ركب القوم دوابهم ولبسوا ثيابهم.

(والعفو عن الكبيرة) هذا مذكور فيما سبق إلا أنه أعاده ليعلم أن ترك المؤاخذة على الذنب يطلق عليه لفظ العفو كما يطلق عله لفظ المغفرة، وليتعلق بقوله: (إذا لم تكن عن استحلال، والاستحلال كفر) لما فيه من التكذيب المنافي للتصديق، وبهذا تؤول النصوص الدالة على تخليد العصاة في النار أو على سلب اسم الإيمان عنهم.

(والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر) بالمستفيض من الأخبار، خلافاً للمعتزلة.

وهذا مبني على ما سبق من جواز العفو والمغفرة بدون الشفاعة، فبالشفاعة أولى.

وعندهم لما لم يجز لم يجز.

لنا قوله تعالى: ((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات))، وقوله تعالى: ((فما تنفعهم شفاعة الشافعين)) فإن أسلوب هذا الكلام يدل على ثبوت الشفاعة في الجملة، وإلا لكان لنفي نفعها عن الكافرين عند القصد إلى تقبيح حالهم وتحقيق باسهم معنى، لأن مثل هذا المقام يقتضي أن يوسموا بما يخصهم لا يما يعمهم وغيرهم، وليس المراد أن تعليق الحكم بالكافر يدل على نفيه عما عداه حتى يرد عليه أنه إنما يقوم حجة على من يقول بمفهوم المخالفة.

وقوله عليه السلام: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وهو مشهور، بل الأحاديث الدالة على الشفاعة متواترة المعنى.

واحتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: ((واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة)) وقوله تعالى: ((ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)).

والجواب بعد تسليم دلالتها على العموم في الأشخاص والأزمان والأحوال أنه يجب تخصيصها بالكفار جمعاً بين الأدلة.

ولما كان أصل العفو والشفاعة ثابتاً بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع قالت المعتزلة بالعفو عن الصغائر مطلقاً، وعن الكبائر بعد التوبة وبالشفاعة لزيادة الثواب، وكلاهما فاسد، أما الأول فلأن التائب ومرتكب الصغيرة المجتنب عن الكبيرة لا يستحقان العذاب عندهم، فلا معنى للعفو.

وأما الثاني فلأن النصوص دالة على الشفاعة بمعنى طلب العفو عن الجناية.

(وأهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار)

وإن ماتوا من غير توبة، لقوله تعالى: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره)) ونفس الإيمان عمل خير لايمكن أن يرى جزاءه قبل دخول النار ثم يدخل النار فيخلد، لأنه باطل بالإجماع، فتعين الخروج من النار.

ولقوله تعالى: ((وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار))، ولقوله تعالى: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلاً)) إلى غير ذلك من النصوص الدالة على كون المؤمن من أهل الجنة مع ما سبق من الأدلة القاطعة على أن العبد لا يخرج بالمعصية عن الإيمان.

وأيضاً الخلود في النار من أعظم العقوبات وقد جعل جزاء الكفر الذي هو أعظم الجنايات فلو جوزي به غير الكافر كان زيادة على قدر الجناية، فلا يكون عدلاً.

وذهبت المعتزلة إلى أن من أدخل النار فهو خالد فيها لأنه إما كافر أو صاحب كبيرة مات بلا توبة غذ المعصوم والتائب وصاحب الصغيرة إذا اجتنب الكبائر ليسوا من أهل النار على ما سبق من أصولهم، والكافر مخلد بالإجماع وكذا صاحب الكبيرة بلا توبة، لوجهين: أحدهما: أنه يستحق العذاب وهو مضرة خالصة دائمة فينافي استحقاق الثواب الذي هو منفعة خالصة دائمة.

والجواب: منع قيد الدوام، بل منع الاستحقاق بالمعنى الذي قصدوه وهو الاستيجاب، وإنما الثواب فضل منه والعذاب عدل، فإن شاء عفا وإن شاء عذبه مدة ثم يدخله الجنة.

الثاني: النصوص الدالة على الخلود، كقوله تعالى: ((ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً)) وقوله تعالى: ((ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله ناراً خالداً فيها)) وقوله تعالى: ((من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)).

والجواب: أن قاتل المؤمن لكونه مؤمناً لا يكون إلا الكافر، وكذا من تعدى جميع الحدود وكذا من أحاطت به خطيئته وشملته من كل جانب.

ولو سلم فالخلود قد يستعمل في المكث الطويل كقولهم: سجن مخلد، ولو سلم فمعارض بالنصوص الدالة على عدم الخلود كما مر.

(والإيمان) في اللغة التصديق، أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقاً، إفعال من الأمن، كان حقيقة آمن به آمنه من التكذيب، والمخالفة يتعدى باللام كما في قوله تعالى حكاية: ((وما أنت بمؤمن لنا)) أي مصدق، وبالباء كما في قوله عليه السلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله..)) الحديث أي تصدق.

وليس حقيقة التصديق أني قع في القلب نسبة الصدق إلى الخبر أو الـمخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك بحيث يقع عليه اسم التسليم على ما صرح به الإمام الغزالي.

وبالجملة هو المعنى الذي يعبر عنه بالفارسية بكرويدن، وهو معنى التصديق المقابل للتصور حيث يقال في أوائل علم الميزان: العلم إما تصور وإما تصديق، صرح بذلك رئيسهم ابن سينا، وإن حصل هذا المعنى لبعض الكفار كان إطلاق اسم الكافر عليه من جهة أن عليه شيئاً من أمارات التكذيب والإنكار،كما إذا فرضنا أن أحداً صدق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام وسلمه وأقر به وعمل، ومع ذلك شد الزنار بالاختيار أو سجد للصنم بالاختيار نجعله كافراً لما أن النبـي عليه السلام جعل ذلك علامة التكذيب والإنكار.

وتحقيق هذا المقام على ما ذكرت يسهل لك الطريق إلى حل كثير من الإشكالات الموردة في مسألة الإيمان.

وإذا عرفت حقيقة معنى التصديق فاعلم أن الإيمان في الشرع:

(هو التصديق بما جاء به من عند الله تعالى) أي تصديق النبـي عليه السلام بالقلب في جميع ما علم بالضرورة مجيئه به من عند الله تعالى إجمالاً وأنه كاف في الخروج عن عهدة الإيمان، ولا تنحط درجته عن الإيمان التفصيلي، فالمشرك المصدق بوجود الصانع وصفاته لا يكون مؤمناً إلا بحسب اللغة دون الشرع، لإخلاله بالتوحيد، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)).

(والإقرار به) أي باللسان، إلا أن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في حالة الإكراه.

فإن قيل: لا يبقى التصديق كما في حالة النوم والغفلة.

قلنا: التصديق باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله، ولو سلم فالشارع جعل المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي، حتى كان المؤمن اسماً لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب.

هذا الذي ذكره من أن الإيمان هو التصديق والإقرار مذهب بعض العلماء وهو اختيار الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام رحمهما الله.

وذهب جمهور المحققين إلى أنه التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما أن التصديق بالقلب أمر باطن لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق فبالعكس، وهذا هو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله، والنصوص معاضدة لذلك، قال الله تعالى: ((أولئك كتب في قلوبهم الإيمان)) وقال تعالى: ((ولما يدخل الإيمان في قلوبكم))، وقال عليه السلام: ((اللهم ثبت قلبي على دينك وطاعتك)) وقال عليه السلام لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله: ((هلا شققت عن قلبه)).

فإن قلت: نعم الإيمان هو التصديق، لكن أهل اللغة لا يعرفون منه إلا التصديق باللسان، والنبـي عليه السلام وأصحابه كانوا يقنعون من المؤمنين بكلمة الشهادة ويحكمون بإيمانه من غير استفسار عما في قلبه.

قلت: لا خفاء في أن المعتبر في التصديق عمل القلب، حتى لو فرضنا عدم وضع لفظ التصديق لمعنى أو وضعه لمعنى غير التصديق القلبي لم يحكم أحد من أهل اللغة والعرف بأن المتلفظ بكلمة صدّقت مصدق للنبـي عليه السلام ومؤمن به، ولهذا صح نفي الإيمان عن بعض المقرين باللسان، قال الله تعالى: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين))، وقال تعالى: ((قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)).

وأما المقر باللسان وحده فلا نـزاع في أنه يسمى مؤمناً لغة ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهراً، وإنما النـزاع في كونه مؤمناً فيما بينه وبين الله تعالى، والنبي عليه السلام ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بكلمة الشهادة كانوا يحكمون بكفر المنافق، فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان.

وأيضاً الإجماع منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد الإقرار باللسان ومنعه مانع من خرس ونحوه، فظهر أن ليس حقيقة الإيمان مجرد كلمتي الشهادة على ما زعمت الكرامية.

ولما كان مذهب جمهور المتكلمين والمحدثين والفقهاء على أن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان كما أشار إلى نفي ذلك بقوله:

(فأما الأعمال) أي الطاعات (فهي تتزايد في نفسها والإيمان لا يزيد ولا ينقص)

فها هنا مقامان: الأول أن الأعمال غير داخلة في الإيمان لما مر من أن حقيقة الإيمان هو التصديق، ولأنه ق ورد في الكتاب والسنة عطف الأعمال على الإيمان، كقوله تعالى: ((إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه.

وورد أيضاً جعل الإيمان شرط صحة الأعمال، كما في قوله تعالى: ((ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن)) مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء بنفسه.

وورد أيضاً إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، كما في قوله تعالى: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)) على ما مر، مع القطع بأنه لا يتحقق الشيء بدون ركنه.

ولا يخفى أن هذه الوجوه إنما تقوم حجة على من يجعل الطاعات ركناً من حقيقة الإيمان، بحيث أن تاركها لا يكون مؤمناً كما هو رأي المعتزلة، لا على مذهب من ذهب على أنها ركن من الإيمان الكامل بحيث لا يخرج تاركها عن حقيقة الإيمان كما هو مذهب الشافعي.

وقد سبق تمسكات المعتزلة بأجوبتها فيما سبق.

المقام الثاني: أن حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله لا تغير فيه أصلاً.

والآيات الدالة على زيادة الإيمان محمولة على ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أنهم كانوا آمنوا في الملة ثم يأتي فرض بعض فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص.

وحاصله أنه كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به، وهذا لا يتصور في غير عصر النبي عليه السلام، وفيه نظر، لأن الاطلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان واجب إجمالاً فيم علم إجمالاً وتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد بل أكمل، وما ذكر من أن الإجمال لا ينحط عن درجته فإنما هو في الاتصاف بأصل الإيمان.

وقيل: إن الثبات والدوام على الإيمان زيادة عليه في كل ساعة، وحاصله أنه يزيد بزيادة الأزمان، لما أنه عرض لا يبقى إلا بتجدد الأمثال، وفيه نظر، لأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون من الزيادة في شيء كما هو في سواد الجسم مثلاً.

وقيل: المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره وضيائه في القلب، فإنه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي.

ومن ذهب إلى أن الأعمال من الإيمان فقبوله الزيادة والنقصان ظاهر، ولهذا قيل: إن هذه المسألة فرع مسالة كون الطاعات من الإيمان.

وقال بعض المحققين: لا نسلم أن حقيقة التصديق لا يقبل الزيادة والنقصان، بل تتفاوت قوة وضعفاً، للقطع بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبـي عليه السلام، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: ((ولكن ليطمئن قلبـي)).

بقي هاهنا بحث آخر، وهو أن بعض القدرية ذهب إلى أن الإيمان هو المعرفة، وأطبق علماؤنا على فساده، لأن أهل الكتاب كانوا يعرفون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم مع القطع بكفرهم لعدم التصديق، ولأن من الكفار من كان يفرق الحق يقيناً وإنما كان ينكر عناداً واستكباراً، قال الله تعالى: ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)) فلا بد من بيان الفرق بين معرفة الأحكام واستيقانها وبين التصديق بها واعتقادها ليصح كون الثاني إيماناً دون الأول.

والمذكور في كلام بعض المشايخ أن التصديق عبارة عن ربط القلب على ما علم من إخبار المخبر وهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق ولذا يثاب عليه ويجعل رأس العبادات، بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب، كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر، وهذا ما ذكره بعض المحققين من أن التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق إلى المخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقاً وإن كان معرفة.

وهذا مشكل، لأن التصديق من أقسام العلم، وهو من الكيفيات النفسانية دون الأفعال الاختيارية، لأنا إذا تصورنا النسبة بين الشيئين وشككنا في أنها بالإثبات أو النفي ثم أقيم البرهان على ثبوتها فالذي يحصل لنا هو الإذعان والقبول لتلك النسبة، وهو معنى التصديق والحكم والإثبات والإيقاع، نعم تحصيل تلك الكيفية يكون بالاختيار في مباشرة الأسباب وصرف النظر ورفع الموانع ونحو ذلك، وبهذا الاعتبار يقع التكليف بالإيمان، وكأن هذا هو المراد بكونه كسبياً اختيارياً.

ولا تكفي المعرفة في حصول التصديق لأنها قد تكون بدون ذلك، نعم يلزم أن تكون المعرفة اليقينية المكتسبة بالاختيار تصديقاً، ولا بأس بذلك لأنه حينئذ يحصل المعنى الذي يعبر عنه بالفارسية بكرويدن، وليس الإيمان والتصديق سوى ذلك، وحصوله للكفار والمعاندين المستكبرين محال، وعلى تقدير الحصول فتكفيرهم يكون بإنكارهم باللسان وإصرارهم على العناد والاستكبار، وما هو من علامات التكذيب والإنكار.

(والإيمان والإسلام واحد)

لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق على ما مر.

ويؤيده قوله تعالى: ((فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)).

وبالجملة لا يصح في الشرع الحكم على أحد بأنه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن.

ولا نعني بوحدتهما سوى هذا، وظاهر كلام المشايخ أنهم أرادوا عدم تغايرهما بمعنى أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر لا الاتحاد بحسب المفهوم لما ذكر في الكفاية من أن الإيمان هو تصديق الله تعالى فيما أخبر به من أوامره ونواهيه، والإسلام هو الانقياد والخضوع للألوهية، وذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي، فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكماً فلا يتغايران، ومن أثبت التغاير يقال له: ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم يؤمن ؟

فإن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر منهما فبها ونعم، وإلا فقد ظهر بطلان قوله.

فإن قيل: قوله تعالى: ((قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)) صريح في تحقيق معنى الإسلام بدون الإيمان.

قلنا: المراد به أن الإسلام المعتبر في الشرح لا يوجد بدون الإيمان، وهو في الآية بمعنى الانقياد الظاهر من غير انقياد الباطن، بمنـزلة المتلفظ بكلمة الشهادة من غير تصديق في باب الإيمان.

فإن قيل: قوله عليه السلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) دليل على أن الإسلام هو الأعمال لا التصديق القلبـي.

قلنا: المراد أن ثمرات الإسلام وعلاماته ذلك، كما قال عليه السلام لقوم وفدوا عليه: ((تدرون ما الإيمان بالله وحده ؟)) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس)) وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).

(وإذا وجد من العبد التصديق والإقرار صح له أن يقول: أنا مؤمن حقاً) لتحقيق الإيمان له.

(ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله) لأنه إن كان للشك فهو كفر لا محالة، وإن كان للتأدب وإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى، أو للشك في العاقبة والمآل لا في الآن والحال، أو للتبرك بذكر الله تعالى أو التبرئ عن تزكية نفسه والإعجاب بحاله، فالأولى تركه لما أنه يوهم بالشك ولهذا قال: ولا ينبغي دون أن يقول: لا يجوز، لأنه إذا لم يكن للشك فلا معنى لنفي الجواز، كيف وقد ذهب إليه كثير من السلف حتى الصحابة والتابعين، وليس هذا مثل قولك: أنا شاب إن شاء الله، لأن الشباب ليس من الأفعال المكتسبة ولا مما يتصور البقاء عليه في العاقبة والمآل، ولا مما يحصل به تزكية النفس والإعجاب، بل مثل قوله: أنا زاهد متق إن شاء الله.

وذهب بعض المحققين إلى أن الحاصل للعبد هو حقيقة التصديق الذي يه يخرج عن الكفر، لكن التصديق في نفسه قابل للشدة والضعف، وحصول التصديق الكامل المنجي المشار إليه بقوله تعالى: ((أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)) إنما هو في مشيئة الله تعالى.

ولما نقل عن بعض الأشاعرة أنه يصح أن يقال: أنا مؤمن إن شاء الله بناء على أن العبرة في الإيمان والكفر والسعادة الشقاوة بالخاتمة حتى إن المؤمن السعيد من مات على الإيمان وإن كان طول عمره على الكفر والعصيان وأن الكفار الشقي من مات على الكفر نعوذ بالله وإن كان طول عمره على التصديق والطاعة على ما أشير إليه بقوله تعالى في حق إبليس: ((وكان من الكافرين))، وبقوله عليه السلام: ((السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه))، أشار إلى إبطال ذلك بقوله:

(والسعيد قد يشقى) بأن يرتد بعد الإيمان نعوذ بالله، (والشقي قد يسعد) بأن يؤمن بعد الكفر (والتغيير يكون على السعادة والشقاوة دون الإسعاد والإشقاء وهما من صفات الله تعالى) لما أن الإسعاد تكوين السعادة والإشقاء تكوين الإشقاء.

(ولا تغير على الله تعالى ولا على صفاته) لما مر من أن القديم لا يكون محلاً للحوادث.

والحق أنه لا خلاف في المعنى لأنه إن أريد بالإيمان والسعادة مجرد حصول المعنى فهو حاصل في الحال، وإن أريد به ما يترتب عليه النجاة والثمرات فهو في مشيئة الله تعالى لا قطع بحصوله في الحال، فمن قطع بالحصول أراد الأول ومن فوّض إلى المشيئة أراد الثاني.

(وفي إرسال الرسل) جمع رسول، فعول من الرسالة، وهي سفارة العبد بين الله تعالى وبين ذوي الألباب من خليقته ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدنيا والآخرة، وقد عرفت معنى الرسول والنبي في صدر الكتاب (حكمة) أي مصلحة وعاقبة حميدة.

وفي هذا إشارة إلى أن الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله تعالى، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحكم والمصالح.

وليس بممتنع كما زعمت السمنية والبراهمة، ولا بممكن يستوي طرفاه كما ذهب إليه بعض المتكلمين.

ثم أشار إلى وقوع الإرسال وفائدته وطريق ثبوته وتعيين بعض من ثبت رسالته فقال:

(وقد أرسل الله رسلاً من البشر إلى البشر مبشرين) لأهل الإيمان والطاعة بالجنة والثواب (ومنذرين) لأهل الكفر والعصيان بالنار والعقاب، فإن ذلك مما لا طريق للعقل إليه وإن كان فبأنظار دقيقة لا يتيسر إلا لواحد بعد واحد.

(ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين) فإنه تعالى خلق الجنة والنار وأعد فيهما الثواب والعقاب وتفاصيل أحوالهما وطريق الوصول إلى الأول والاحتراز عن الثاني مما لا يستقل به العقل، وكذا خلق الأجسام النافعة والضارة ولم يجعل للعقول والحواس الاستقلال بمعرفتهما وكذا جعل القضايا منها ما هي ممكنات لا طريق إلى الجزم بأحد جانبيه ومنها ما هي واجبات أو ممتنعات لا يظهر للعقل إلا بعد نظر دائم وبحث كامل بحيث لو اشتغل الإنسان به لتعطل أكثر مصالحه فكان من فضل الله تعالى ورحمته إرسال الرسل لبيان ذلك كما قال تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)).

(وأيدهم) أي الأنبياء (بالمعجزات الناقضات للعادات)

جمع معجزة وهي أمر يظهر بخلاف العادة على يدي مدعي النبوة عند تحدي المنكرين على وجه يعجز المنكرين عن الإتيان بمثله، وذلك لأنه لولا التأييد بالمعجزة لما وجب قبول قوله، ولما بان الصادق في دعوى الرسالة عن الكاذب وعند ظهور المعجزة يحصل الجزم بصدقه بطريق جرى العادة بأن الله تعالى يخلق العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة وإن كان عدم خلق العلم ممكناً في نفسه وذلك كما إذا ادعى أحد بمحضر من الجماعة أنه رسول هذا الملك إليهم، ثم قال للملك: إن كنت صادقاً فخالف عادتك وقم من مكانك ثلاث مرات ففعل يحصل للجماعة علم ضروري عادي بصدقه في مقالته، وإن كان الكذب ممكناً في نفسه فإن الإمكان الذاتي معنى التجويز العقلي لا ينافي حصول العلم القطعي كعلمنا بأن جبل أحد لم ينقلب ذهباً مع إمكانه في نفسه فكذا ها هنا يحصل العلم بصدقه بموجب العادة لأنها أحد طرق العلم القطعي كالحس،

ولا يقدح في ذلك العلم احتمال كون المعجزة من غير الله أو كونها لا لغرض التصديق الكاذب إلى غير ذلك من الاحتمالات كما لا يقد في العلم الضروري الحس بحرارة النار إمكان عدم الحرارة للنار بمعنى أنه لو قدر عدمها لم يلزم منه محال.

(وأول الأنبياء آدم عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم)

أما نبوة آدم عليه السلام فبالكتاب الدال عل أنه قد أمر ونهى مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفراً.

وأما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ادعى النبوة وأظهر المعجزة، أما دعوى النبوة فقد علم بالتواتر، وأما إظهار المعجزة فلوجهين: أحدهما: أنه أظهر كلام الله تعالى وتحدى به البلغاء مع كمال بلاغتهم فعجزوا عن معارضة أقصر سورة منه مع تهالكهم على ذلك، حتى خاطروا بمهجتهم وأعرضوا عن المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف، ولم ينقل عن أحد منهم مع توفر الدواعي الإتيان بشيء مما يدانيه، فدل ذلك قطعاً على أنه من عند الله تعالى وعلم به صدق دعوى النبي علماً عادياً لا يقدح فيه شيء من الاحتمالات العقلية على ما هو شأن سائر العلوم العادية.

وثانيهما أنه نقل عنه من الأمور الخارقة للعادة ما بلغ القدر المشترك منه، أعني ظهور المعجزة حد التواتر، وإن كانت تفاصيلها آحاداً كشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم، فإن كلاً منهما ثبت بالتواتر وإن كان تفاصيلها آحاداً، وهي مذكورة في كتاب السير.

وقد يستدل أرباب البصائر على نبوته بوجهين:

أحدهما: ما تواتر من أحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها وأخلاقه العظيمة وأحكامه الحكيمة وإقدامه حيث تحجم الأبطال ووثوقه بعصمة الله تعالى في جميع الأحوال وثباته على حاله لدى الأهوال بحيث لم يجد أعداؤه مع شدة عداوتهم وحرصهم على الطعن فيه مطعناً ولا إلى القد فيه سبباً، فإن العقل يجزم بامتناع اجتماع هذه الأمور في غير الأنبياء، وأن يجمع الله هذه الكمالات في حق من يعلم أنه يفري عليه ثم يمهله ثلاثاً وعشرين سنةً ثم يظهر دينه على سائر الأديان وينصره على أعدائه ويحيى آثاره بعد موته إلى يوم القيامة.

وثانيهما: أنه ادعى ذلك الأمر العظيم بين أظهر قوم لا كتاب لهم ولا حكمة معهم، وبين لهم الكتاب والحكمة وعلمهم الأحكام والشرائع وأتم مكارم الأخلاق وأكمل كثيراً من الناس في الفضائل العلمية والعملية ونور العالم بالإيمان والعلم الصالح، وأظهر الله دينه على الدين كله كما وعده، ولا معنى للنبوة والرسالة سوى ذلك.

وإذا ثبتت نبوته وقد دل كلامه وكلام الله تعالى المنـزل عليه على أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى كافة الناس بل على الجن والإنس ثبت أنه آخر الأنبياء وأن نبوته لا تختص بالعرب كما زعم بعض النصارى.

فإن قيل: قد روي في الحديث نـزول عيسى عليه السلام بعده.

قلنا: نعم لكنه يتابع محمداً عليه السلام، لأن شريعته قد نسخت فلا يكون إليه وحي ولا نصب أحكام، بل يكون خليفة رسول الله عليه السلام، ثم الأصح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل فإمامته أولى.

(وقد روي بيان عدتهم في بعض الأحاديث) على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن عدد الأنبياء فقال: ((مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً)) وفي رواية: ((مائتا ألف وأربع وعشرون ألفاً)).

(والأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية فقد قال الله تعالى: ((منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك)) ولا يؤمن في ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم) إن ذكر عدد أكثر من عددهم (أو يخرج منهم من هو فيهم) إن ذكر عدد أقل من عددهم، يعني أن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط المذكورة في أصول الفقه لا يفيد إلا الظن، ولا عبرة بالظن في باب الاعقتادات، خصوصاً إذا اشتمل على اختلاف رواية وكان القول بموجبه مما يفضي إلى مخالفة الواقع وهو عد النبي عليه السلام من غير الأنبياء وغير النبي من الأنبياء بناء على أن اسم العدد خاص في مدلوله لا يحتمل الزيادة ولا النقصان.

(وكلهم كانوا مخبرين مبلغين عن الله تعالى) لأن هذا معنى النبوة والرسالة.

(صادقين ناصحين) للخلق لئلا تبطل فائدة البعثة والرسالة، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكذب خصوصاً فيما يتعلق بأمر الشرائع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة، أما عمداً فبالإجماع، وأما سهواً فعند الأكثرين، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور خلافاً للحشوية، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع أو العقل.

وأما سهواً فجوزه الأكثرون.

وأما الصغائر فيجوز عمداً عند الجمهور خلافاً للجبائي وأبتاعه، ويجوز سهواً بالاتفاق إلا ما يدل على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة.

لكن المحققين اشترطوا أن ينهوا عليه فينتهوا عنه، هذا كله بعد الوحي، وأما قبل الوحي فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة.

وذهبت المعتزلة إلى امتناعها لأنها توجب النفرة المانعة عن اتباعهم فتفوت مصلحة البعثة.

والحق منع ما يوجب النفرة كقهر الأمهات والفجور والصغائر الدالة على الخسة.

ومنع الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده، لكنهم جوزوا إظهار الكفر تقية.

إذا تقرر هذا فما نقل عن الأنبياء مما يشعر بكذب أو معصية فما كان منقولاً بطريق الآحاد فمردود، وما كان بطريق التواتر فمصروف عن ظاهره إن أمكن، وإلا فمحمول على ترك الأولى أو كونه قبل البعثة، وتفصيل ذلك في الكتب المبسوطة.

(وأفضل الأنبياء عليهم السلام محمد صلى الله عليه وسلم) لقوله تعالى: ((كنتم خير أمة..)) الآية، ولا شك أن خيرية الأمة بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه.

والاستدلال بقوله عليه السلام: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ضعيف، لأنه لا يدل على كونه أفضل من آدم بل من أولاده.

(والملائكة عباد الله تعالى العاملون بأمره) على ما دل عليه قوله تعالى: ((لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)) ((لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسخرون)).

(لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة) إذ لم يرد بذلك نقل ولا دل عليه عقل، وما زعم عبدة الأصنام أنهم بنات الله تعالى محال باطل وإفراط في شأنهم، كما أن قول اليهود أن الواحد منهم قد يرتكب الكفر ويعاقبه الله بالمسخ تفريط وتقصير في حالهم.

فإن قيل: أليس قد كفر إبليس وكان من الملائكة بدليل صحة استثنائه منهم.

قلنا: لا بل كان من الجن ففسق عن أمر ربه، لكنه لما كان في صفة الملائكة في باب العبادة ورفع الدرجة وكان جنياً واحداً مغموراً بالعبادة فيما بينهم صح استثناؤه منهم تغليباً.

وأما هاروت وماروت فالأصح أنهما ملكان لم يصدر عنهما كفر ولا كبيرة، وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما يعاتب الأنبياء على الزلة والسهو، وكانا يعظان الناس ويعلمان السحر ويقولان ((إنما نحن فتنة فلا تكفر)) ولا كفر في تعليم السحر، بل في اعتقاده والعمل به.

(ولله كتب أنـزلها على أنبيائه وبين فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده)

وكلها كلام الله تعالى، وهو واحد، وإنما التعدد والتفاوت في النظم المقروء والمسموع، وبهذا الاعتبار كان الأفضل هو القرآن ثم التوراة ثم الأنجيل ثم الزبور كما أن القرآن كلام واحد ولا يتصور فيه تفضيل باعتبار الكتابة والقراءة يجوز أن يكون بعض السور أفضل كما ورد في الحديث.

وحقيقة التفضيل أن قراءته أفضل لما أنه أنفع، أو ذكر الله تعالى فيه أكثر.

ثم الكتب قد نسخت بالقرآن تلاوتها وكتابتها وبعض أحكامها.

(والمعراج لرسول الله عليه الصلاة والسلام في اليقظة بشخصه إلى السماء، ثم إلى ما شاء الله تعالى من العلى حقٌ)

أي ثابت بالخبر المشهور، حتى إن منكره يكون مبتدعاً.

وإنكاره وادعاء استحالته إنما يبتنى على أصول الفلاسفة، وإلا فالخرق والالتئام على السموات جائز.

والأجسام كلها متماثلة يصح علىكل ما يصح على الآخر، والله تعالى قادر على الممكنات كلها، فقوله: (في اليقظة) إشارة إلى الرد على من زعم أن المعراج كان في المنام، على ما روي عن معاوية أنه سئل عن المعراج فقال: كانت رؤيا صالحة، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما فقد جسد محمد عليه السلام ليلة المعراج، قد قال تعالى: ((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلى فتنة للناس)).

وأجيب بأن المراد الرؤيا بالعين، والمعنى ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه وكان المعراج للروح والجسد جميعاً.

وقوله: (بشخصه) إشارة إلى الرد على من زعم أنه كان للروح فقط، ولا يخفى أن المعراج في المنام أو بالروح ليس مما ينكر كل الإنكار، والكفرة أنكروا أمر المعراج غاية الإنكار، بل وكثير من المسلمين قد ارتدوا بسبب ذلك.

وقوله: (إلى السماء) إشارة إلى الرد على من زعم أن المعراج في اليقظة لم يكن إلا إلى بيت المقدس على مانطق به الكتاب.

وقوله: (ثم إلى ما شاء الله تعالى) إشارة على اختلاف أقوال السلف، فقيل: إلى الجنة، وقيل: إلى العرش، وقيل: إلى فوق العرش، وقيل: إلى طرف العالم.

فالإسراء وهو من المسجد الحرام إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب، والمعراج من الأرض إلى السماء مشهور، من المساء إلى الجنة أو العرش أو غير ذلك آحاد.

ثم الصحيح أنه عليه السلام إنما رأى ربه بفؤاده لا بعينه.

(وكرامات الأولياء حق)

والولي هو العارف بالله تعالى وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.

وكرامته ظهور أمر خارق للعادة من قبله غير مقارن لدعوى النبوة، فما لا يكون مقروناً بالإيمان والعمل الصالح يكون استدراجاً، وما يكون مقروناً بدعوى النبوة يكون معجزة.

والدليل على حقية الكرامة ما تواتر عن كثير من الصحابة ومن بعدهم بحيث لا يمكن إنكاره خصوصاً الأمر المشترك مطلق خارق للعادة، وإن كانت التفاصيل آحاداً.

وأيضاً الكتاب ناطق بظهورها من مريم ومن صاحب سليمان عليه السلام، وبعد ثبوت الوقوع لا حاجة إلى إثبات الجواز.

ثم أورد كلاماً يشير إلى تفسير الكرامة وإلى تفصيل بعض جزئياته المستبعدة جداً فقال:

(فتظهر الكرامة على طريق نقض العادة للولي من قطع المسافة البعيدة في المدة القليلة) كإتيان صاحب سليمان عليه السلام وهو آصف بن برخيا على الأشهر بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف مع بعد المسافة.

(وظهور الطعام والشراب واللباس عند الحاجة) إليها كم افي حق مريم فإنه قال تعالى: ((لكما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله)).

(والمشي على الماء) كما نقل عن كثير من الأولياء.

(وفي الهواء) كما نقل عن جعفر بن أبي طالب ولقمان السرخسي وغيرهما.

(وكلام الجماد العجماء واندفاع المتوجه من البلاء وكفاية المهم من الأعداء)، أما كلام الجماد فكما روي أنه كان بين يدي سليمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما قصعة فسبحت وسمعا تسبيحها.

وأما كلام العجماء فتكليم الكلب لأصحاب الكهف، وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة إليه وقال: إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث، فقال: سبحان الله بقرة تكلم، فقال النبي عليه السلام: آمنت بهذا)).

(وغير ذلك من الأشياء) مثل رؤية عمر رضي الله عنه وهو على المنبر بالمدينة جيشه بنهاوند حتى إنه قال لأمير جيشه: يا سارية الجبل الجبل تحذيراً له من وراء الجبل لمكر العدو هناك، وسماع سارية كلامه مع بعد المسافة، وكشرب خالد رضي الله عنه السم من غير تضرر به، وكجريان النيل بكتاب عمر رضي الله عنه وأمثال هذا أكثر من أن تحصى.

ولما استدل المعتزلة المنكرون لكرامة الأولياء بأنه لو جاز ظهور خوارق العادات من الأولياء لاشتبه بالمعجزة فلم يتميز النبي من غير النبي أشار إلى الجواب بقوله:

(ويكون ذلك) أي ظهور خوارق العادات من الأولياء أو الولي الذي هو من آحاد الأمة (معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمته لأنه يظهر بها) أي بتلك الكرامة (أنه ولي ولن يكون ولياً إلا وأن يكون محقاً في ديانته وديانته الإقرار) باللسان والتصديق بالقلب (برسالة رسوله) مع الطاعة له في أوامره ونواهيه، حتى لو ادعى هذا الولي الاستقلال بنفسه وعدم المتابعة لم يكن ولياً ولم يظهر ذلك على يده.

والحاصل أن الأمر الخارق للعادة فهو بالنسبة إلى النبي عليه السلام معجزة سواء ظهر ذلك من قبله أو من قبل آحاد من أمته، وبالنسبة إلى الولي كرامة لخلوه عن دعوى نبوة من ظهر ذلك من قبله، فالنبي لا بد من علمه بكونه نبياً، ومن قصده إظهار خوارق العادات ومن حكمه قطعاً بموجب المعجزات بخلاف الولي.

(وأفضل البشر بعد نبينا) والأحسن أن يقال: بعد الأنبياء، لكنه أراد البعدية الزمانية، وليس بعد نبينا نبي، ومع ذلك لا بد من تخصيص عيسى عليه السلام إذ لو أريد كل بشر يوجد بعد نبينا انتقض بعيسى عليه السلام، ولو أريد كل بشر يولد بعد لم يفد التفضيل على الصحابة، ولو أريد كل بشر هو موجود على وجه الأرض لم يفد التفضيل على التابعين ومن عبدهم، ولو أريد كل بشر يوجد على وجه الأرض في الجملة انتقض بعيسى عليه السلام.

(أبو بكر الصديق) الذي صدق النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة من غير تلعثم وتردد وفي المعراج بلا تردد.

(ثم عمر الفاروق) الذي فرق بين الحق والباطل في القضايا والخصومات.

(ثم عثمان ذي النورين) لأن النبي عليه السلام زوجه رقية ولما ماتت رقية زوجه أم كلثوم ولما ماتت قال: لو كان عندي ثالثة لزوجتكها.

(ثم علي المرتضى) من عباد الله وخلص أصحاب رسول الله.

على هذا وجدنا السلف، والظاهر أنه لو لم يكن لهم دليل على ذلك لما حكموا بذلك، وأما نحن فقد وجدنا دلائل الجانبين متعارضة ولم نجد هذه المسألة مما يتعلق به شيء من الأعمال أو يكون التوقف فيه مخلاً بشيء من الواجبات فيهما، وكأن السلف كانوا متوقفين في تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما حيث جعلوا من علامات السنة والجماعة تفضيل الشيخين ومحبة الختنين، والإنصاف أنه إن أريد بالأفضلية كثرة الثواب فللتوقف جهة، وإن أريد كثرة ما يعده ذوو العقول من الفضائل فلا.

(وخلافتهم) أي نيابته عن الرسول في إقامة الدين بحيث يجب على كافة الأمم الاتباع (على هذا الترتيب) أيضاً، يعني أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ثم لعمر ثم لعمان ثم لعلي رضي الله عنهم، وذلك لأن الصحابة قد اجتمعوا يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة واستقر رأيهم بعد المشاورة والمنازعة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وأجمعوا على ذلك وتابعه على رضي الله عنه على رؤوس الأشهاد بد توقف كان منه، ولو لم تكن الخلافة حقاً له لما اتفق عليه الصحابة ولنازعه علي رضي الله عنه كما نازع معاوية ولاحتج عليهم لو كان في حقه نص كما زعمت الشيعة، وكيف يتصور في حق أصحاب رسول الله الاتفاق على الباطل وترك العمل بالنص الوارد.

ثم إن أبا بكر رضي الله لما أيس من حياته دعا عثمان رضي الله عنه وأملى عليه كتاب عهده لعمر رضي الله عنه، فما كتب عثمان ختم الصحيفة وأخرجها إلى الناس وأمرهم أن يبايعوا لمن في الصحيفة فبايعوا حتى مرت بعلي فقال: بايعنا لمن كان فيها وإن كان عمر رضي الله عنه.

وبالجملة وقع الاتفاق على خلافته، ثم استشهد عمر رضي الله عنه وترك الخلافة شوى بين ستة: عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ثم فوض الأمر خمستهم إلى عبد الرحمن بن عوف ورضوا بحكمه، فاختار عثمان وبايعه بمحضر من الصحابة فبايعوه وانقادوا لأوامره ونواهيه وصلوا معه الجمع والأعياد، فكان إجماعاً.

ثم استشهد وترك الأمر مهملاً فاجتمع كبار المهاجرين والأنصار على علي رضي الله عنه والتمسوا منه قبول الخلافة وبايعوه لما كان أفضل أهل عصره وأولاهم بالخلافة، وما وقع من المخالفات والمحاربات لم يكن عن نـزاع في خلافته بل عن خطأ في الاجتهاد، وما وقع من الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة في هذه المسألة وادعاء كل من الفريقين النص في باب الإمامة وإيراد الأسئلة والأجوبة من الجانبين فمذكور في المطولات.

(والخلافة ثلاثون سنة ثم بعدها ملك وأمارة) لقوله عليه السلام: ((الخلاقة بعيد ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوصاً)).

وقد استشهد علي رضي الله عنه على رأس ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعاوية ومن بعده لا يكونون خلفاء بل كانوا ملوكاً وأمراء، وهذا مشكل، لأن أهل الحل والعقد من الأمة قد كانوا متفقين على خلافة الخلفاء العباسية وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز مثلاً، ولعل المراد أن الخلافة الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة وبعدها قد يكون وقد لا يكون.

ثم الإجماع على أن نصب الإمام واجب وإنما الخلاف في أنه هل يجب على الله تعالى أو على الخلق بدليل سمعي أو عقلي.

والمذهب أنه يجب على الخلق سمعاً، لقوله عليه السلام: ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)) ولأن الأمة قد جعلوا أهم المهمات بعد وفاة النبي عليه السلام نصب الإمام حتى قدموه على الدفن، وكذا بعد موت كل إمام، ولأن كثيراً من الواجبات الشرعية يتوقف عليه كما أشار إليه بقوله:

(والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وإقامة الجمع والأعياد وقطع المنازعات الواقعة بين العباد وقبول الشهادات القائمة على الحقوق وتزويج الصغار والصغائر الذين لا أولياء لهم وقسمة الغنائم) ونحو ذلك من الأمور التي لا يتولاها آحاد الأمة.

فإن قيل: لم لا يجوز الاكتفاء بذي شوكة في كل ناحية ؟ ومن أين يجب نصب من له الرياسة العامة ؟

قلنا: لأنه يؤدي إلى منازعات ومخاصمات مفضية إلى اختلال أمر الدين والدنيا كما يشاهد في زماننا هذا.

فإن قيل: فليكتف بذي شوكة له الرياسة العامة إماماً كان أو غير إمام، فإن انتظام الأمر يحصل بذلك كما في عهد الأتراك.

قلنا: نعم يحصل بعض النظام من أمر الدنيا ولكن يختل أمر الدين، وهو المقصود الأهم والعمدة العظمى.

فإن قيل: فعلى ما ذكر من أن مدة الخلافة ثلاثون سنة يكون الزمان بعد الخلفاء الراشدين خالياً عن الإمام فتعصي الأمة كلهم وتكون ميتتهم ميتة جاهلية.

قلنا: قد سبق أن المراد الخلافة الكاملة، ولو سلم فلعل بعدها دور الخلافة ينقضي دون دور الإمامة بناء على أن الإمام أعم، لكن هذا الاصطلاح مما لم نجه للقوم، بل من الشيعة من يزعم أن الخليفة أعم ولهذا يقولون بخلافة الأئمة الثلاثة دون إمامتهم، وأما بعد الخلفاء العباسية فالأمر مشكل.

(ثم ينبغي أن يكون الإمام ظاهراً) ليرجع إليه فيقوم بالمصالح ليحصل ما هو الغرض من نصب الإمام، (لا مختفياً) من أعين الناس خوفاً من الأعداء وما للظلمة من الاستيلاء، (ولا منتظراً) خروجه عند صلاح لزمان وانقطاع مواد الشر والفساد وانحلال نظام أهل الظلم والعناد، لا كما زعمت الشيعة خصوصاً الإمامية منهم أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه محمد القائم المنتظر المهدي وقد اختفى خوفاً من أعدائه وسظهر فيملاً الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ولا امتناع في طول عمره وامتداد أيامه كعيسى والخضر عليهما السلام وغيرهما.

وأنت خبير بأن اختفاء الإمام وعدمه سواء في عدم حصول الأغراض المطلوبة من وجود الإمام، وأن خوفه من الأعداء لا يوجب الاختفاء بحيث لا يوجد منه إلا الاسم، بل غاية الأمر أن يوجب إخفاء دعوى الإمام كما في حق آبائه الذين كانوا ظاهرين على الناس ولا يدعون الإمامة.

وأيضاً عند فساد الزمان واختلاف الآراء واستيلاء الظلمة احتياج الناس إلى الإمام أشد وانقيادهم له أسهل.

(ويكون من قريش ولا يجوز من غيرهم، ولا يختص ببني هاشم) وأولاد علي رضي الله عنه.

يعني يشترط أن يكون الإمام قرشياً لقوله عليه السلام: ((الأئمة من قريش)) وهذا وإن كان خبر واحد لكن لما رواه أبو بكر رضي الله عنه محتجاً به على الأنصار ولم ينكره أحد قصار مجمعاً عليه لم يخالف فيه إلا الخوارج وبعض المعتزلة.

ولا يشترط أن يكون هاشمياً أو علوياً لما ثبت بالدليل من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مع أنهم لم يكونوا من بين هاشم وإن كانوا من قريش فإن قريشاً اسم لأولاد النضر بن كنانة وهاشم هو أبو عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لويء بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نـزار بن معد بن عدنان، فالعلوية والعباسية من بني هاشم، لأن العباس وأبا طالب ابنا عبد المطلب وأبو بكر قرشي لأنه ابن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن لويء، وكذا عمر لأنه ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بنرباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، وكذا عثمان لأنه ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

(ولا يشترط) في الإمام (أن يكون معصوماً) لما مر من الدليل على إمامة أبي بكر مع عدم القطع بعصمته.

وأيضاً الاشتراط هو المحتاج إلى الدليل، وأما في عدم الاشتراط فيكفي عدم دليل الاشتراط.

احتج المخالف بقوله تعالى: ((لا ينال عهدي الظالمين)) وغير المعصوم ظالم فلا يناله عهد الإمامة.

والجواب: المنع فإن الظالم من ارتكب معصية مسقطة للعدالة مع عدم التوبة والإصلاح فغير المعصوم لا يلزم أن يكون ظالماً.

وحقيقة العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد الذنب مع بقاء قدرته واختياره، وهذا معنى قولهم: هي لطف من الله تعالى يحمله على فعل الخير وزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتداء، ولهذا قال الشيخ أبو منصور رحمه الله: العصمة لا تزيل المحنة.

وبهذا يظهر فساد قول من قال: إنها خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، كيف ولو كان الذنب ممتنعاً لما صح تكليفه بترك الذنب ولما كن مثاباً عليه !!

(ولا أن يكون أفضل أهل زمانه) لأن المساوي في الفضيلة بل المفضول الأقل علماً وعملاً ربما كان أعرف بمصالح الإمامة ومفاسدها وأقدر على القيام بمواجبها، خصوصاً إذا كان نصب المفضول ادفع للشر وأبعد عن إثارة الفتنة، ولهذا جعل عمر رضي الله عنه الإمامة شورى بين سنة مع القطع بأن بعضهم أفضل من البعض.

فإن قيل: كيف صح جعل الإمامة شورى بين الستة مع أنه لا يجوز نصب إمامين في زمان واحد ؟

قلنا: غير الجائز هو نصب إمامين مستقلين يجب طاعة كل منهما على الانفراد لما يلزم من ذلك من امتثال أحكام متضادة، وأما في الشورى فالكل بمنـزلة إمام واحد.

(ويشترط أن يكون من أهل الولاية المطلقة الكاملة) أي مسلماً حراً ذكراً عاقلاً بالغاً، إذ ما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، والعبد مشغول بخدمة المولى مستحقر في أعين الناس، والنساء ناقصات عقل ودين، والصبي والمجنون قاصران عن تدبير الأمور والتصرف في مصالح الجمهور.

(سائساً) أي مالكاً للتصرف في أمور المسلمين بقوة رأيه ورويته ومعونة بأسه وشوكته.

(قادراً) بعمله وعدلة وكفايته وشجاعته (على تنفيذ الأحكام وحفظ حدود دار الإسلام وإنصاف المظلوم من الظالم) إذ الإخلال بهذه الأمور مخل بالغرض من نصب الإمام.

(ولا ينعزل الإمام بالفسق) أي بالخروج عن طاعة الله تعالى، (والجور) أي الظلم على عباد الله تعالى، لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين والسلف قد كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم.

ولأن العصمة ليست بشرط للإمامة ابتداء فبقاءً أولى.

وعن الشافعي رحمه الله أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير، وأصل المسألة أن الفاسق ليس من أهل الولاية عند الشافعي رحمه الله، لنه لا ينظر لنفسه فيكف ينظر لغيره، وعند أبي حنيفة رحمه الله هو من أهل الولاية حتى يصح للأب الفاسق تزويج ابنته الصغيرة، والمسطور في كتب الشافعية أن القاضي ينعزل بالفسق بخلاف الإمام، والفرق أن في انعزاله ووجوب نصب غيره إثارة الفتنة لماله من الشوكة بخلاف القاضي، وفي رواية النوادر عن العملاء الثلاثة أنه لا يجوز قضاء الفاسق، وقال بعض المشايخ: إذا قلد الفاسق ابتداء يصح ولو قلد وهو عدل ينعزل بالفسق لأن المقلد اعتمد عدالته فلم يرض بقضائه بدونها، وفي فتاوى قاضي خان: أجمعوا على أنه إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى وأنه إذا أخذ القاضي القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً ولو قضى لا ينفذ قضاؤه ز

(وتجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر) لقوله عليه السلام: ((صلوا خلف كل بر وفاجر))، ولأن علماء الأمة كانوا يصلون خلف الفسقة وأهل الأهواء والمبتدع من غير نكير، وما نقل عن بعض السلف من المنع عن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع فمحمول على الكراهة إذ لا كلام في كراهة الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، وهذا إذا لم يؤد الفسق أو البدعة إلى حد الكفر، وأما إذا أدى فلا كلام في عدم جواز الصلاة.

ثم المعتزلة وإن جعلوا الفاسق غير مؤمن لكنهم يجوزون الصلاة خلفه لما أن شرط الإمام عندهم عدم الكفر لا وجود الإيمان بمعنى التصديق والإقرار والأعمال جميعاً.

(ويصلى على كل بر وفاجر) إذا مات على الإيمان، للإجماع، ولقوله عليه السلام: ((لا تدعوا لصلاة على من مات من أهل القبلة)).

فإن قيل: أمثال هذه المسائل إنما هي من فروع الفقه فلا وجه لإيرادها في أصول الكلام وإن أراد أن اعتقاد حقية ذلك واجب وهذا من الأصول فجميع مسائل الفقه كذلك !

قلنا: إنه لما فرغ عن مقاصد علم الكلام من مباحث الذات والصفات والأفعال والمعاد والنبوة والإمامة على قانون أهل الإسلام وطريق أهل السنة والجماعة، حاول التنبيه على نبذ من المسائل التي يتميز بها أهل السنة من غيرهم مما خلاف فيه المعتزلة أو الشيعة أو الفلاسفة أو الملاحدة أو غيرهم من أهل البدع والأهواء، سواء كانت تلك المسائل من فروع الفقه أو غيرها من الجزئيات المتعلقة بالعقائد.

(ويكف عن ذكر الصحابة إلا بخير) لما روي في الأحاديث الصحيحة من مناقبهم ووجب الكف عن الطعن فيهم، لقوله عليه السلام: ((لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)) ولقوله عليه السلام: ((أكرموا أصحابي فإنهم خياركم)) الحديث، ولقوله عليه السلام: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن أذى الله فيوشك أن يأخذه)).

ثم في مناقب كل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي الحسن والحسين وغيرهم من أكابر الصحابة أحاديث صحيحة.

وما وقع بينهم من المنازعات والمحاربات فله محامل وتأويلات، فسبهم والطعن فيهم إن كان مما يخالف الأدلة القطعية فكفر كقذف عائشة رضي الله عنها، وإلا فبدعة وفسق.

وبالجملة لم ينقل عن السلف المجتهدين والعلماء الصالحين جواز اللعن على معاوية وأعوانه، لأنَّ غاية أمرهم البغي والخروج عن طاعة الإمام الحق، وهو لا يوجب اللعن، وإنما اختلفوا في يزيد بن معاوية، حتى ذكر في الخلاصة وغيرها: أنه لا ينبغي اللعن عليه ولا على الحجَّاج، لأن النبي عليه السلام نهى عن لعن المصلين، ومن كان من أهل القبلة، وما نقل من لعن النبي عليه السلام لبعض من أهل القبلة فلما أنه يعلم من أحوال الناس ما لا يعمله غيره.

وبعضهم أطلق اللعن عليه لما أن كفر حين أمر بقتل الحسين رضي الله عنه، واتفقوا على جواز اللعن على من قتله أو أمر به أو أجازه أو رضي به.

والحقُّ أن رضى يزيد بقتل الحسين واستبشاره بذلك وإهانة أهل بيت النبي عليه السلام مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحاداً، فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه، لعنة الله عليه وأنصاره وأعوانه.

(ونشهد للعشر المبشرة الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام) بالجنة حيث قال عليه السلام: ((أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلى في الجنة وطلحة في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجرح في الجنة)) وكذا نشهد بالجنة لفاطمة والحسن والحسين لما روي في الحديث الصحيح أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وسائر الصحابة لا يذكرون إلا بخير ويرجى لهم أكثر مما يرجى لغيرهم من المؤمنين، ولا نشهد بالجنة أو النار لأحد بعينه، بل نشهد بأن المؤمنين من أهل الجنة والكافرين من أهل النار.

(ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر) لأنه وإن كان زيادة على الكتاب لكنه ثابت بالخبر المشهور.

وسئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن المسح على الخفين فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدته ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، وروى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما.

وقال الحسن البصري: أدركت سبعين نفراً من الصحابة رضي الله عنهم يرون المسح على الخفين.

ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: ما قلت بالمسح حتى جاءني فيه دليل مثل ضور النهار.

وقال الكرخي: إن أخاف الكفر على من لا يرى مسح الخفين، لأن الآثار التي جاءت فيه في حيز التواتر.

وبالجملة من لا يرى المسح على الخفين فهو من أهل البدعة، حتى سئل أنس بن مالك رضي الله عنه عن أهل السنة والجماعة فقال: أن تحب الشيخين ولا تطعن في الختنين وتمسح على الخفين.

(ولا نحرم نبيذ التمر) وهو ينبذ تمر أو زبيب في الماء، فيجعل في إناء من الخزف فيحدث فيه لذع كما للفقاع فكأنه نهى عن ذلك في بدء الإسلام لما كان الجرار أواني الخمور، ثم نسخ فعدم تحريمه من قواعد أهل السنة والجماعة خلافاً للروافض، وهذا بخلاف ما إذا اشتد فصار مسكراً فإن القول بحرمة قليله وكثيره مما ذهب إليه كثير من أهل السنة والجماعة.

(ولا يبلغ الولي درجة الأنبياء) لأن الأنبياء معصومون مأمونون عن خوف الخاتمة مكرمون بالوحي ومشاهدة الملك، مأمورون بتبليغ الأحكام وإرشاد الأنام بعد الاتصاف بكمالات الأولياء، فما نقل عن بعض الكرامية من جواز كون الولي أفضل من النبي كفر وضلال، نعم قد يقع تردد في أن مرتبة النبوة أفضل أم مرتبة الولاية بعد القطع بأن النبي متصف بالمرتبتين وأنه أفضل من الولي الذي ليس بنبـي.

(ولا يصل العبد) ما دام عاقلاً بالغاً (إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي) لعموم الخطابات الواردة في التكاليف وإجماع المجتهدين على ذلك.

وذهب بعض الإباحيين إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة وصفا قلبه واختار الإيمان على الكفر من غير نفاق سقط عنه الأمر والنهي ولا يدخله الله تعالى النار بارتكاب الكبائر وبعضهم إلى أنه يسقط عنه العبادات الظاهرة من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغير ذلك، وتكون عبادته التكفر، وهذا كفر وضلال فإن أكمل الناس في المحبة والإيمان هم الأنبياء خصوصاً حبيب الله تعالى، مع أن التكاليف في حقهم أتم وأكمل، وأما قوله عليه السلام: ((إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب)) فمعناه أنه عصمه من الذنوب فلم يلحقه ضررها.

(والنصوص) من الكتاب والسنة تحمل (على ظواهرها) ما لم يصرف عنها دليل قطعي كما في الآيات التي يشعر ظواهرها بالجهة والجسمية ونحو ذلك، لا يقال: ليست هذه من النص بل من المتشابه، لأنّا نقول: المراد بالنص هاهنا ليس ما يقابل الظاهر والمفسر والمحكم، بل ما يعم أقسام النظم على ما هو المتعارف.

(فالعدول عنها) أي عن الظواهر (إلى معان يدعيها أهل الباطن) وهم الملاحدة وسموا الباطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية (إلحاد) أي ميل وعدول عن الإسلام واتصال واتصاف بكفر، لكونه تكذيباً للنبي عليه السلام فيما علم مجيئه به بالضرورة.

وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص محمولة على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.

(ورد النصوص) بأن ينكر الأحكام التي دلت عليها النصوص القطعية من الكتاب والسنة كحشر الأجساد مثلاً (كفر) لكونه تكذيباً صريحاً لله تعالى ورسوله عليه السلام، فمن قذف عائشة بالزنا كفر.

(واستحلال المعصية) صغيرة كانت أو كبيرة (كفر) إذا ثبت كونا معصية بدليل قطعي، وقد علم ذلك فيما سبق.

(والاستهانة بها كفر، والاستهزاء على الشريعة كفر) لأن ذلك من أمارات التكذيب.

وعلى هذه الأصول يتفرع ما ذكر في الفتاوى من أنه إذا اعتقد الحرام حلالاً فإن كان حرمته لعينه وقد ثبت بدليل قطعي يكفر وغلا فلا بأن تكون حرمته لغيره أو ثبت بدليل ظني.

وبعضهم لم يفرق بين الحرام لعينه ولغيره، فقال: من استحل حراماً قد علم في دين النبي عليه السلام تحريمه كنكاح ذوي المحارم أو شرب الخمر أو أكل ميتة أو دم أو لحم خنـزير من غير ضرورة فكافر، وفعل هذه الأشياء بدون الاستحلال فسق، ومن استحل شرب النبيذ إلى أن يسكر كفر، أما لو قال لحرام: هذا حلال لترويج السلعة أو بحكم الجهل لا يكفر، ولو تمنى أن لا يكون الخمر حراماً أو لا يكون صوم رمضان فرضاً لما يشق عليه لا يكفر، بخلاف ما إذا تمنى أن لا يحرم الزنا وقتل النفس بغير حق فإنه كفر، لأن حرمة هذه الأشياء ثابتة في جميع الأديان، موافقة للحكمة، ومن أراد الخروج عن الحكمة فقد أراد أن يحكم الله بما ليس بحكمة، وهذا جهل منه بربه.

وذكر السرخسي في كتاب الحيض: أنه لو استحل وطء امرأته الحائض يكفر، وفي النوادر: عن محمد رحمه الله أنه لا يكفر، وهو الصحيح.

وفي استحلاله اللواطة بامرأته لا يكفر على الأصح، ومن وصف الله بما لا يليق أو سخر باسم من أسمائه أو بأمر من أوامره أو أنكر وعده ووعيده يكفر.

وكذا لو تمنى أن لا يكون نبي من الأنبياء على قصد استخفاف أو عداوة، وكذا لو ضحك على وجه الرضى لمن تكلم بالكفر، وذكا لو جلس على مكان مرتفع وحوله جماعة يسألونه مسائل ويضحكونه ويضربونه بالوسائد كفروا جميعاً.

وكذا لو أمر رجلاً أن يكفر بالله أو عزم على أن يأمره بكفر، وكذا لو أفتى لامرأة بالكفر لتبين من زوجها، وكذا لو قال عند شرب الخمر أو الزنا بسم الله، وكذا إذا صلى لغير القبلة أو بغير طهارة متعمداً يكفر، وإن وافق ذلك القبلة، وكذا لو أطلق كلمة الكفر استخفافاً لا اعتقاداً إلى غير ذلك من الفروع.

(واليأس من الله تعالى كفر) لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

(والأمن من الله تعالى كفر) إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

فإن قيل: الجزم بأن العاصي يكون في النار يأس من الله تعالى، وبأن المطيع يكون في الجنة أمن من الله فيلزم أن يكون المعتزلي كافراً مطيعاً كان أو عاصياً، لأنه إما آمن أو آيس، ومن قواعد أهل السنة أن لا يكفر أحد من أهل القبلة.

قلنا: هذا ليس بيأس ولا أمن، لأنه على تقدير العصيان لا ييأس أن يوفقه الله تعالى للتوبة والعمل الصالح، وعلى تقدير الطاعة لا يأمن أن يخذله الله فيكتسب المعاصي، وبهذا يظهر الجواب عما قيل: إن المعتزلي إذا ارتكب كبيرة لزم أن يصير كافراً ليأسه من رحمة الله تعالى ولاعتقاده أنه ليس بمؤمن، وذلك لأنا لا نسلم أن اعتقاد استحقاقه النار يستلزم اليأس وأن اعتقاد عدم إيمانه المفسر بمجموع التصديق والإقرار والأعمال بناء على انتفاء الأعمال يوجب الكفر.

هذا والجمع بين قولهم: لا يكفر أحد من أهل القبلة، وقولهم: يكفر من قال بخلق القرآن واستحالة الرؤية أو سب الشيخين أو لعنهما وأمثال ذلك مشكل.

(وتصديق الكاهن بما يخبره عن الغيب كفر) لقوله عليه السلام: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنـزل على محمد عليه السلام)) والكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار ومطالعة علم الغيب، كان في العرب كهنة يدعون معروفة الأمور، فمنهم من كان يزعم أن له رئيساً من الجن وتابعة تلقى إليه الأخبار، ومنهم من كان يدعي أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه.

والمنجم إذا ادعى العلم بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن، وبالجملة العلم بالغيب أمر تفرد به الله تعالى، لا سبيل إليه للعباد إلا بإعلام منه تعالى وإلهام بطريق المعجزة أو الكرامة أو إرشاد إلى استدلال بالأمارات فيما يمكن ذلك فيه، ولهذا ذكر في الفتاوى أن قول القائل عند رؤية هالة القمر: يكون المطر، مدعياً علم الغيب لا بعلامة كفر، والله أعلم.

(والمعدوم ليس بشيء) إن أريد بالشيء الثابت المتحقق على ما ذهب إليه المحققون من أن الشيئية ترادف الوجود والثبوت، والعدم يرادف النفي.

وهذا حكم ضروري لم ينازع فيه إلا المعتزلة القائلون بأن المعدوم الممكن ثابت في الخارج.

وإن أريد أن المعدوم لا يسمى شيئاً فهو بحث لغوي مبني على تفسير الشيء أنه الموجود أو المعدوم أو ما يصح أن يعلم أو يخبر عنه، فالمرجع إلى النقل، وتتبع موارد الاستعمال.

(وفي دعاء الأحياء للأموات وتصدقهم) أي تصدق الأحياء (عنهم) أي عن الأموات (نفع لهم) أي للأموات، خلافاً للمعتزلة تمسكاً بأن القضاء لا يتبدل، ولك نفس مرهونة بما كسبت، والمرء مجزي بعمله لا بعمل غيره.

ولنا ما ورد في الحديث الصحاح من الدعاء للأموات خصوصاً في صلاة الجنازة، وتقد توارثه السلف، فلو لم يكن للأموات نفع فيه لما كان له معنى، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه))، وعن سعد بن عبادة أنه قال: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل ؟ قال: الماء، فحفر بئراً وقال: هذه لأم سعد، وقال عليه السلام: ((الدعاء يرد البلاء، والصدقة تطفئ غضب الرب)) وقال عليه السلام: ((إن العالم والمتعلم إذا مرا على قرية فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين يوماً)) والأحاديث والآثار في هذا الباب أكثر من أن تحصى.

(والله تعالى يجيب الدعوات ويقضي الحاجات) لقوله تعالى: ((ادعوني أستجب لكم)) ولقوله عليه السلام: ((يستجاب للعبد ما لد يدع بإثم أو قطعية رحم ما لم يستعجل)) ولقوله عليه السلام: ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه غليه أن يردهما صفراء)).

واعلم أن العمدة في ذلك صدق النية وخلوص الطوية وحضور القلب، لقوله عليه السلام: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ)).

واختلف المشايخ في أنه هل يجوز أن يقال: يستجاب دعاء الكافر، فمنعه الجمهور لقوله تعالى: ((وما دعاء الكافرين إلا في ضلال)) ولأنه لا يدعو الله تعالى لأنه لا يعرفه.

ولأنه وإن أقرَّ به فلما وصفه بما لا يليق به فقد نقض إقراره.

وما روي في الحديث من أن دعوة المظلوم وإن كن كافراً تستجاب فمحمول على كفران النعمة.

وجوزه بعضهم لقوله تعالى حكاية عن إبليس: ((رب أنظرني إلى يوم يبعثون)) فقال الله تعالى: ((إنك من المنظرين)) وهذه إجابة، وإليه ذهب أبو القاسم الحكيم السمرقندي وأبو النصر الدبوسي، وقال الصدر الشهيد: وبه يفتى.

(وما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة) أي علاماتها (من خروج الدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج ونـزول عيسى عليه السلام من المساء وطلوع الشمس من مغربها فهو حق).

لأنها أمور ممكنة أخبر بها الصادق.

قال حذيفة بن أسيد الغفاري: اطلع رسول الله علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون، قلنا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونـزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.

والأحاديث الصحاح في هذه الأشراط كثيرة جدّاً، فقد روي أحاديث وآثار في تفاصيلها فليطلب من كتب التفسير والسير والتواريخ.

(والمجتهد) في العقليات والشرعيات الأصلية والفرعية (قد يخطئ ويصيب) وذهب بعض الأشاعرة والمعتزلة إلى أن كل مجتهد في المسائل الشرعية الفرعية التي لا قاطع فيها مصيب.

وهذا الاختلاف مبني على اختلافهم في أن لله تعالى في كل حادثة حكماً معيناً أم حكمه في المسائل الاجتهادية ما أدى إليه رأي المجتهد.

وتحقيقُ هذا المقام أنَّ المسألة الاجتهادية إما أن لا يكون لله تعالى فيها حكم معين قبل اجتهاد المجتهد أو يكون، وحينئذ إما أن لا يكون من الله عليه دليل أو يكون، وذلك الدليل إما قطعي أو ظني، فذهب إلى كل احتمال جماعة.

والمختار أن الحكم معين وعليه دليل ظني إن وجده المجتهد أصاب، وإن فقده أخطأ، والمجتهد غير مكلف بإصابته لغموضه وخفائه فلذلك كان المخطئ معذوراً بل مأجوراً، فلا خلاف على هذا المذهب في أن المخطئ ليس بآثم، وإنما الخلاف في أنه مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى الدليل والحكم جميعاً، وإليه ذهب بعض المشايخ، وهو مختار الشيخ أبي منصور، أو انتهاء فقط أي بالنظر إلى الحكم حيث أخطأ فيه وإن أصاب في الدليل حيث أقامه على وجهه مستجمعاً لشرائطه وأركانه فأتى بما كلف به من الاعتبارات وليس عليه الاجتهاديات إقامة الحجة القطعية التي مدلولها حق البتة.

والدليل على أن المجتهد قد يخطئ وجوه:

الأول: قوله تعالى: ((ففهمناها سلميان)) والضمير للحكومة أو الفتيا، ولو كان كل من الاجتهادين صواباً لم كان لتخصيص سليمان بالذكر جهة، لأن كلاً منهما قد أصاب الحكم حينئذ وفهمه.

الثاني: الأحاديث والآثار الدال على ترديد الاجتهاد بين الصواب والخطأ، بحيث صارت متواترة المعنى، قال عليه السلام: ((إن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة)) وفي حديث آخر جعل للمصيب أجرين وللمخطئ أجراً واحداً، وعن ابن مسعود: إن أصبت فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان، وقد اشتهر تخطئة الصحابة بعضهم بعضاً في الاجتهادات.

الثالث: القياس مظهر لا مثبت، فالثابت بالقياس ثابت بالنص معنى، وقد أجمعوا على أن الحق فيما ثبت بالنص واحد لا غير.

الرابع: أنه لا تفرقة في العمومات الواردة في شريعة نبينا عليه السلام بين الأشخاص، فلو كان كل مجتهد مصيباً لزم اتصاف الفعل الواحد بالمتنافيين من الحظر والإباحة أو الصحة والفساد أو الوجوب وعدمه، وتمام تحقيق هذه الأدلة والجواب عن تمسكات المخالفين يطلب من كتابنا التلويح شرح التنقيح.

(ورسل البشر أفضل من رسل الملائكة، ورسل الملائكة أفضل من عامة البشر، وعامة البشر أفضل من عامة الملائكة).

أما تفضيل رسل الملائكة على عامة البشر فبالإجماع، بل بالضرورة.

وأما تفضيل رسل البشر على رسل الملائكة وعامة البشر على عامة الملائكة فلوجوه:

الأول: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التعظيم والتكريم، بدليل قوله تعالى حكاية: ((أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ)) ((وأنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)) ومقتضى الحكمة الأمر للأدنى بالسجود للأعلى دون العكس.

الثاني: أن كل واحد من أهل اللسان يفهم من قوله تعالى: ((وعلم آدم الأسماء كلها)) الآية أن القصد منه إلى تفضيل آدم على الملائكة وبيان زيادة علمه واستحقاقه التعظيم والتكريم.

الثالث: قوله تعالى: ((إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين)) والملائكة من جملة العالم، وقد خصَّ من ذلك بالإجماع عدم تفضيل عامة البشر على رسل الملائكة، فبقي معمولاً به فيما عدا ذلك، ولا خفاء في أن هذه المسألة ظنية يُكتفى فيها بالأدلة الظنية.

الرابع: أن الإنسان يحصل الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة وكسب الكمالات مع الشواغل والصوارف أشق وأدخل في الإخلاص، فيكون أفضل.

وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة، وتمسكوا بوجوه:

الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالفعل، مبرآت عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولى والصورة، قوية على الأفعال العجيبة، علامة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط.

والجواب: أن مبنى ذلك على أصول الفلاسفة دون الإسلامية.

الثاني: أن الأنبياء مع كونه أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم، بدليل قوله تعالى: ((علمه شديد القوى)) وقوله تعالى: ((نـزل به الروح الأمين)) ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم.

والجواب: أن التعلم من الله تعالى والملائكة إنما هم مبلغون.

الثالث: أنه قد اضطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء وما ذلك إلى لتقدمهم في الشرف والرتبة.

والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود، أو لأن وجودهم أخفى، فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى.

الرابع: قوله تعالى: ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون)) فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من عيسى عليه السلام، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير، ثم لا قائل بالفضل بين عيسى عليه السلام وغيره من الأنبياء.

والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع من أن يكون عبداً من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابناً له سبحانه، لأنه مجرد لا أب له، وقال تعالى: ((ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى)) بخلاف سائر عباد الله من بني آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فالترقي والعلو إما هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دِلالةَ على أفضلية الملائكة، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

([1])  قال الإمام شهاب الدين القرافي في الاستبصار في مدركات الأبصار: ((قاعدة وتنبيه: اعلم أن فيك أموراً مختلفة، فتجد نفسك قد أدركت البعيد، وتجد فيك شيئاً يقول: هذا المرئي البعيد أصغر من هذا البعيد، وتجد فيك شيئاً ثالثاً يقول: هذا الحكم بالصغر كذب وإنما هو كبير، فالأول الحس، والثاني الوهم، والثالث العقل. فأصل الإدراك الحس، والغلط للوهم، والتحقيق للعقل، هذا يكون عندك معلوماً في جميع المرئيات. وما يقال: (الحس يغلط) فليس بصحيح، إنما الغالط الوهم، فاعلم ذلك)).