Bismillah al-Rahman al-Rahim
Al-Hamdulillahi Rabbil ‘Alamin
Wa salatu wa salamu ‘ala sayyid al mursalin
Welcome to our first text for collective “social annotation”. We will be focusing on the broader questions of
“what is knowledge?”
“how do we come to know what we know?”
“can we know anything with certainty?”
We will also focus on more particular questions related to Islamic Epistemology:
“Is there an Islamic Epistemology or multiple Epistemologies?”
“Are al-Taftazani’s and al-Sanusi’s Epistemologies the same or is there a difference between ‘aadah and hissi, and wad’i ilahi and khabr al-sadiq?”
“How do these two scholar’s epistemology/-ies differ from Ibn Sina’s? From Ibn Taymiah’s? From….?”
Additional guiding questions:
Please select this text and put your suggested guiding questions in the comment, I’ll add them to the main page once collected.
Please use your Hypothesis account to annotate. This will be our test run; so please let me know of suggestions and issues as we develop the best possible interface for our discussions.
Ways to annotate:
- Type your comments in the annotation
- Paste a link directly into the text box (the link tool didn’t work for me)
- Paste an image (use the image link tool)
- Paste a Youtube link directly into the text box.
- Record a Youtube video comment (use a private channel if you want to keep it private) and paste the Youtube link.
- Audio comment? I’ll look into this.
Below, please find the text of Sharh al-Taftazani’s second chapter with commentaries of al-Khayali, al-Siyulkuti, and al-Bajuri. For the time being, you can navigate the text by searching (قال الشارح) for al-Taftazani, and (قال الخيالي) and , (قال السيالكوتي) and (قال الباجوري) respectively. The text of al-Nasafi is in red.
2. THE CAUSES OF KNOWLEDGE
وأسبابُ العلمِ
قال الشارح: (وأسْبَابُ العِلْمِ) وهو صِفَةٌ يتجلى بها المذكورُ لمَنْ قامت هي به، أي يتضح ويظهر ما يذكر، ويمكن أن يعبر عنه موجوداً كان أو معدوماً، فيشمل إدراك الحواس وإدراك العقل من التصورات والتصديقات اليقينية وغير اليقينية، بخلاف قولهم: صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، فإنَّه وإنْ كان شاملاً لإدراك الحواس بناء على عدم التقييد بالمعاني، وللتصورات بناء على أنها لا نقائض لها على ما زعموا، لكنه لا يشمل غير اليَقِينِيَّات من التصديقات، هذا ولكن ينبغي أن يحمل التجلِّي على الانكشاف التام الذي لا يشمل الظن، لأنَّ العلم عندهم مقابل للظن.
قال الخيالي:
قوله: (و يمكن أن يعبر عنه) إشارة إلى أن المذكور من الذكر- بالكسر- وهو ما يكون باللسان، وإنما لم يجعله من المضموم، وهو ما يكون بالقلب، وإن صح ذكره في تعريف العلم لعمومه مثل الظن والجهل حملا للفظ على الشائع المتبادر.
قوله: (فيشتمل إدراك الحواس) لكن عده علما يخالف العرف واللغة، فإن البهائم ليست من أولي العلم فيهما.
قوله: (لا يحتمل النقيض) أي نقيض التمييز في التصور كما هو الظاهر والاحتمال لمتعلقه، وإنما وصف التمييز به مجازا، ثم التمييز في التصور الصورة، ومتعلقه الماهية المتصورة، وفي التصديق: الإثبات والنفي ومتعلقه الطرفإن، والعلم بهذا المعنى ينقسم بأنه إن خلا عن الحكم بأن لم يوجب إياه فتصور وإلا فتصديق.
قوله: (بناء على عدم التقديم بالمعاني) فإن المعاني ما ليست من الأعيان المحسوسة بالحس الظاهر فخرج الإحساسات، لكن يرد عليهم أنهم صرحوا بأن الجزئيات العينية تدرك علما، كإدراك زيد قبل رؤيته وإحساسا كإدراكه عند الرؤية ومقتضى التعريف أن لا تعلم تلك الجزئيات.
وغاية ما يتكلف أن يقال: مثل زيد إذا أخذ على وجه جزئي فعين، وعلى وجه كلي فمعنى، ولا يدرك قبل الرؤية إلا على وجه كلي، هذا والأمر في إدراكه بعد الغيبة عن الحواس مشكل.
قوله: (بناء على أنها لا نقائض لها…إلخ) أي لتميزها الذي هو الصورة، فلا يرد عليه أن التصور غير التمييز والمعتبر في العلم عدم احتمال نقيض التمييز فلا يصح البناء المذكور ومن ههنا قيل المراد بالنقيض نقيض الصفة وقد يجاب بأن عدم نقيض التمييز فرع عدم نقيض التصور فيصح البناء المذكور لكن لا يخفى أن دعوى الفرعية مما لا ثبت له، فإن قلت كل متصور لا يحتمل غير صورته الحاصلة فلو سلم أن للتصور نقيضا فمتعلقه لا يحتمل نقيضه فلا معنى للبناء على عدم النقيض، قلت: هذا إنما هو في المتصور بالكنه لا في المتصور بالوجه، فإنه لو فرض أن اللاضاحك بالفعل نقيض الضاحك بالفعل، فلا شك أن الإنسان المتصور بأحدهما يحتمل أن يتصور بالآخر، على أن بناء شيء على شيء في الواقع لا ينافي في وجود مبني آخر له التقدير.
قوله: (على ما زعموا) فيه تضعيف قولهم: “لأنه يبطل كثيرا من قواعد المنطق” مثل قولهم: “نقيضا المتساويين متساويان”، وعكس النقيض أخذُ نقيض الموضوع محمولا وبالعكس، والتحقيق أنه إن فسر النقيضان بالمتمانعين لذاتهما لا يكون للتصور نقيض؛ إذ لا تمانع بين التصورات بدون اعتبار النسبة، وإن فسر بالمتنافيين لذاتهما كان له نقيض، ومن ههنا قيل: نقيض كل شيء رفعه؛ أي: سواء كان رفعه في نفسه أو رفعه عن غيره، والأشهر هو الأول وقول المنطقيين محمول على المجاز، وأيضا يلزم منه أن يكون جميع التصورات علما، مع أن المطابقة شرط في العلم وبعض التصورات غير مطابق، كما إذا رأينا حجرا من بعيد فحصل منه صورة الإنسان. وأجيب عن هذا بأن تلك الصورة صورة الإنسان وتصور له ومطابق له، والخطأ في الحكم بأن هذه الصورة صورة لذلك المرئي، هذا هو المشهور بين الجمهور، ويرد عليه أنه فرق بين العلم بالوجه والعلم بالشيء من ذلك الوجه، فالمتصور في المثال المذكور هو الشبح، والصورة الذهنية آلة لملاحظته فتدبر فإنه دقيق.
قال السيالكوتي:
قوله: (وإن صح ذكره إلى آخره) يعني: وإن صح ذكر الذكر المضموم في تعريف العلم لعدم اختصاصه باليقين، بل هو شامل للظن والجهل المركب كما أن العلم المعرف ههنا كذلك، وما قاله الفاضل المحشي في توجيه هذه العبارة من أنه إشارة إلى رد ما قيل: لو جعل المذكور من الذكر بالضم يلزم تعريف الشيء بنفسه لأنه بمعنى العلم، فلا يجوز التعريف به، فأجاب بأن الذكر بالضم أعم من العلم لتناوله الظن والجهل المركب؛ لأن كل واحد منهما يحصل في القلب كما أن العلم يحصل في القلب، فجاز التعريف به ليس بشيء، إذ لا معنى لتوهم الدور لأن الذكر بالمعنى اللغوي والعلم المعرف بالمعنى العرفي، على أنه إذا كان المذكور عامًّا والعلم خاصًّا يجب أن يحمل التجلي على الانكشاف التام ليكون التعريف بالمساوي، فلا معنى لقول الشارح: أي يتضح ويظهر، فإنه تعميم للتجلي بحيث يشمل التام وغيره، ويدل عليه قوله: لكنه ينبغي أن يحمل التجلي اهـ.
قوله: (حملاً…إلخ) علة لقوله: “وإنما لم يجعله من المضموم”، وفي شرح المقاصد ما يشعر بأنه من الذكر المضموم حيث قال: أي صفة ينكشف بها ما يذكر ويلتفت إليه، لكن الشارح قال بعده: وقد يتوهم أن المراد بالمذكور المعلوم إلا أنه ترك ذكر المعلوم تفاديًا عن الدور انتهى. ولا يخفى أن قوله: “وقد يتوهم” يدل على أنه ليس من الذكر المضموم، فلا بد أن يقال: إن نسبة التوهم ليس لأجل أنه جعل المذكور بمعنى المعلوم بل لأجل توهم أن ذكر المعلوم يستلزم الدور وأن تغير اللفظ يدفعه، وأما ما قاله الفاضل الجلبي: من أن بين ما ذكره الشارح ههنا وبين ما ذكره في شرح المقاصد تدافعًا ظاهرًا؛ حيث جعل المذكور فيه من الذكر المضموم، فليس بشيء لأن اختيار توجيه في كتاب وآخر في كتاب آخر ليس من التدافع في شيء.
قوله: (لكن عدها علمًا يخالف العرف واللغة) نقل عنه ولا يمكن الفرق في الإدراك الحسي بين البهائم وغيرها وجعل الإحساس من العقلاء علمًا كما يشعر به كلمة “من” في قوله: “لمن قامت هي به” غير مفيد لأنه يرجع إلى مجرد تحكم واصطلاح وانتهى. ويمكن أن يقال: إن العلم المنفي عن البهائم هو العلم الغير الإحساسي، أما العلم الإحساسي فهو ثابت لها، فلا مخالفة وقيل المراد بإدراك الحواس إدراك العقل بالحواس لا نفس الإحساس بدليل قولهم: المدرك إنما هو العقل وبدليل أنه سيجيء أن الحواس إنما هي آلات للإدراك، فلا يرد المخالفة.
قوله: (أي نقيض التمييز) فيكون التقدير صفة توجب تمييزًا لا يحتمل متعلقه نقيض التمييز، والمعنى أنه أمر حقيقي قائم بمحله؛ أعني: النفس يوجب له أن يميز الشيء عما عداه تمييزًا لا يحتمل ذلك الشيء المتعلق نقيض ذلك التمييز، فلا بد من اعتبار المحل لأن التمييز الذي أوجبه الصفة إنما هو صفة له، فإن المتميز ظاهرًا هي النفس، والصفة آلة للتمييز، ولذا قيل: توجب تمييزًا ولم يقل تميز تمييزًا، ولا بد من اعتبار المتعلق، فإن تمييزه إنما هو لشيء يتعلق به وهو الذي لا يحتمل نقيض التمييز، فقوله: صفة يتناول العلم وغيره من الصفات كالحياة والسواد وغيرهما، وبقوله: توجب تمييزًا خرج من الحد الصفات التي توجب لمحلها التمييز فقط لا التمييز، وهي ما عدا الصفات الإدراكية، فإن القدرة مثلًا توجب أن يكون محلها متميزًا عن العاجز لا أن يكون محلها مميزًا للشيء، بخلاف الصفات الإدراكية فإنها توجب لمحلها التمييز للأشياء كما توجب التمييز عن الأشياء، وبقوله: لا يحتمل النقيض أي لا يحتمل نقيض التمييز بوجه من الوجوه، خرج الظن والشك والوهم والجهل المركب والتقليد، فإن الظن والشك والوهم توجب لمحلها تمييزًا يحتمل النقيض في الحال، والجهل المركب والتقليد يوجبان تمييزًا يحتمل نقيضًا في المآل، أما في الجهل فلأن الواقع في نفس الأمر خلافه، فيجوز أن يطلع عليه فيما بعد، وأما في التقليد فلعدم استناده إلى موجب من حس أو بديهية أو عادة أو برهان، فيجوز أن يزول بتقليد آخر، ثم إن كان المعرف العلم الشامل لعلم الواجب وغيره يجب أن يترك الإيجاب المفهوم من قوله: توجب علمًا سواء كان بطريق السببية كما في علم الواجب أو بطريق العادة كما في علم الخلق، وإن كان المعرف علم الخلق يجب تخصيصها بالإيجاب العادي على ما هو المذهب من استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداء، فالمعنى أن العلم صفة قائمة بالنفس يخلقها الله تعالى عقيب تعلقها بالشيء توجب أن تكون النفس مميزًا له تمييزًا لا يحتمل النقيض، قال بعض الفضلاء: فيه أن إخراج الشك والوهم من تعريف العلم لا يعرف وجهه لأن كلًّا منهما تصور على ما بين في محله، والتصور داخل في التعريف بناء على أنه لا نقيض له أصلًا، فلا وجه لإخراجه بل لا وجه لصحته أصلًا، قلت: الشك والوهم من حيث إنه تصور للنسبة من حيث هي هي لا نقيض له، وهما بهذا الاعتبار داخلان في العلم، وأما باعتبار أنه يلاحظ في كل منهما النسبة مع كل واحد من النفي والإثبات على سبيل التجويز المساوي أو المرجوح، ولذا يحصل التردد والاضطراب فله نقيض، فإن النسبة من حيث إنه يتعلق بها الإثبات يناقضها من حيث إنه يتعلق بها النفي، وهما بهذا الاعتبار خارجان عن العلم، صرح بهذين الاعتبارين السيد السند قدس سره في حاشية شرح مختصر الأصول.
قوله: (كما هو الظاهر) لأنه الأسبق إلى الفهم؛ لأنه مذكور صريحًا ولأنه موافق لما قالوا: إن اعتقاد الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا علم، ومع احتمال أنه لا يكون كذا احتمالًا مرجوحًا ظن، وفيه إشارة إلى جواز وجه آخر لكنه غير ظاهر بأن يراد نقيض المتعلق ويكون المراد بالتمييز المعنى المصدري؛ أعني: الكشف والإيضاح، فالمعنى صفة توجب لمحلها ان يكشف لمتعلقها بحيث لا يحتمل المتعلق نقيضه، وحينئذ تكون الصفة نفس الصورة والنفي والإثبات لا ما يوجبها، أو يكون المراد بالتمييز الصورة والنفي والإثبات، وحينئذ تكون الصفة ما يوجبها ولا يخفى ما فيه؛ لأن الشيء لا يكون محتملًا لنقيضه أصلًا إذ الواقع لا يكون إلا أحدهما، فلا وجه لذكره إلا أن يقال: المتعلق وإن لم يكن محتملًا لنقيضه في نفس الأمر لكن يحتمله عند المدرك بأن يحصل كل منهما بدل الآخر، فكل واحد من التصور والتصديق صفة توجب كشفًا وإيضاحًا لا يحتمل متعلقه نقيضه عند المدرك، أما في التصور فلانتفاء النقيض، وأما في التصديق فلأن متعلقه؛ أعني: وقوع النسبة مثلًا في نفس الأمر له نقيض هو اللاوقوع فيه، فإذا لم يكن التصديق؛ أعني: إدراك الوقوع أو اللاوقوع جازمًا مطابقًا مأخوذًا من حس أو بديهة أو عادة أو برهان احتمل متعلقه؛ أعني: الوقوع مثلا لنقيضه وهو اللاوقوع إذا كان بجميع الشرائط المأخوذة لا يكون متعلقه محتملًا لنقيضه أصلًا لا في الحال ولا في المآل، فيكون متعلق التصديق على هذا التقدير وقوع النسبة أو لاوقوعها لا الطرفين؛ إذ لا معنى لاحتمالهما نقيض نفسهما، وهذا؛ أعني: حمل الاحتمال على حصول أحدهما بدل الأخر مع أن المتبادر من احتمال الشيء الآخر أنه يجوز أن يتصف به كما في الاعتقاد الظني، فإن طرفيه يجوز أن يتصف به وبنقيضه، وهو وجه عدم ظهور هذا الوجه، ويحتمل أن يراد نقيض الصفة، وسيجيء تحريره إن شاء الله تعالى.
قوله: (وعدم الاحتمال صفة لمتعلقه…إلخ) يعني أن ضمير الفاعل المستتر في لا يحتمل راجع إلى المتعلق الدال عليه لفظ التمييز، فإن التمييز إنما يكون لشيء معين، وإنما لم يكن راجعًا إلى نفس التمييز لأنه إن كان المراد به المعنى المصدري فلا نقيض له أصلًا لا في التصور ولا في التصديق وإن كان ما به التمييز؛ أعني: الصورة والنفي والإثبات فلا معنى لاحتماله نقيض نفسه إلا أن تتكلف بمثل ما مرّ أو بأن المراد ورود كل منهما بدل الأخر على متعلقه، فحينئذٍ يرجع إلى احتمال المتعلق لهما مع مخالفته لما اشتهر من أن اعتقاد الشيء كذا مع العلم بأنه لا يكون إلا كذا علم، ومع احتمال أنه لا يكون كذا ظن، فإنه صريح في أن المتعلق؛ أعني: الشيء محتمل.
قوله: (وصف به التمييز مجازًا) وصفًا للمتعلق اسم فاعل بصفة المتعلق اسم مفعول.
قوله: (ثم التمييز…إلخ) يعني أنه إذا كان المراد بالنقيض نقيض التمييز فالمراد بالتمييز ما به التمييز أي الأمر الذي به تمييز النفس للشيء لا المعنى المصدري؛ أعني: كون النفس مميزًا، إذ ليس له نقيض يحتمله المتعلق لا في التصور ولا في التصديق وهو ظاهر، وذلك لأن الأمر في التصور الصورة، وفي التصديق النفي والإثبات، مثلًا إذا تعلق علمنا بماهية الإنسان حصل عند النفس صورة مطابقة لها نقيض لها أصلًا بها تميزها عما عداها، وإذا تعلق علمنا بأن العالم حادث حصل عندها إثبات أحد الطرفين للآخر بحيث تميزها عما عداها لكنه قد يكون مطابقًا جازمًا مأخوذًا من بديهة أو حس أو دليل، فلا يحتمل النقيض؛ أعني: النفي، وقد لا يكون فيحتمله، فخلاصة تعريف العلم بأنه أمر قائم بالنفس يوجب لها أمرًا به تميز الشيء عما عداه بحيث لا يحتمل ذلك الشيء نقيض ذلك الأمر، ويرد عليه أمور: الأول أنه يلزم أن لا يكون العلم نفس الصورة والنفي والإثبات بل ما يوجبها، مثلًا لا يكون العلم بالإنسان صورة الحاصلة عندها بل ما يوجب تلك الصورة ضرورة، والثاني أنه يلزم أن لا يكون التصور والتصديق قسمي العلم؛ لأن التصور على ما قالوا هو الصورة الحاصلة والتصديق هو النفي والإثبات، والثالث أن القول بالصورة فرع الوجود الذهني والمعرفون للعلم بهذا التعريف ينكرونه، والرابع أن إرادة الصورة من التمييز خلاف للظاهر، والخامس أن النفي والإثبات ليسا بنقيضين لارتفاعهما عند الشك، أقول: ويمكن الجواب عن الأول بأن المعرفين للعلم بهذا التعريف يلتزمون بأن العلم ليس نفس الصورة والنفي والإثبات، فإنهم يقولون: إنه صفة حقيقية ذات إضافة يخلقها الله تعالى بعد استعمال العقل أو الحواس أو الخبر الصادق، تستتبع انكشاف الأشياء إذا تعلقت بها كما أن القدرة والسمع والبصر كذلك، ولذا كتب المحشي في هذا المقام: والعلم ليس نفس الصورة بل صفة توجبها، وما هو المشهور من العلم هو الصورة الحاصلة في النفس فهو مذهب الفلاسفة القائلين بانطباع الأشياء في النفس وهم ينفونه، وعن الثاني بأنه إن أراد بقوله: إنه يلزم أن لا يكون التصور والتصديق قسمي العلم أن لا يكون العلم منقسمًا إليهما بالذات فمسلم، إذ لا ضرر في ذلك، وإن أراد أنه يلزم أن لا يكون منقسمًا إليهما أصلًا فهو ممنوع، فإن العلم باعتبار إيجابه النفي والإثبات تصديق وباعتبار عدم إيجابه لشيء منهما تصور، أشار المحشي إلى ذلك بقوله: والعلم بهذا المعنى ينقسم…إلخ. وأما التصور والتصديق ليس إلا نفس الصورة والنفي والإثبات، فقد عرفت أنه مخترع الفلاسفة، وعن الثالث بأن المراد بالصورة الشبه والمثال الشبيه بالمتخيل في المرآة، وأين هذا من الوجود الذهني؟ فإن مرادهم بالوجود الذهني أمر يشارك الوجود الخارجي في تمام الماهية ويماثله، وعن الرابع بأنه مبني على المساهلة والاعتماد على فهم السامع للقطع بأن المحتمل للنقيض هو التمييز بمعنى الصورة والنفي والإثبات دون المعنى المصدري، وعن الخامس بأن المراد بالنفي والاثبات المعنى اللغوي وهو إثبات أحد الطرفين للآخر وعدم إثبات أحدهما للاخر، ولذا جعلوا متعلقهما الطرفين لا إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعه على ما هو مصطلح الفلاسفة، تأمل في هذا المقام فإنه من مطارح الأذكياء.
قوله: (ومتعلقه الطرفان) هكذا وقع في عبارة السيد السند قدس سره في حاشية شرح مختصر الأصول، والظاهر أن المراد به المعنى اللغوي وهو إنما يتعلق بالطرفين؛ أعني: المثبت والمثبت له، وأما كون متعلقهما النسبة أو الوقوع أو اللاوقوع أو المجموع فمن مصطلحات أهل المنطق وتدقيقاتهم، والمشايخ يتحاشون عن ذلك.
قوله: (والعلم بهذا المعنى ينقسم…إلخ) جواب سؤال وهو أن العلم على هذا التقدير لا يكون منقسمًا إلى التصور والتصديق، وقد سبق تحريرهما.
قوله: (فان المعاني ليست…إلخ) دليل لقوله: بناء على عدم…إلخ. يعني أن شمول التعريف لإدراك الحواس مبني على أنه لم يقيد بالمعاني بخلاف ما لو قيد، ويقال بأنه صفة توجب تمييزًا بين المعاني لا يحتمل النقيض، فإنه لا يشمله لأن المعاني ههنا ما يقابل الأعيان، واعلم أن التقييد بالمعاني وعدمه مبني على أن إدراك الحواس هل هو قسم من العلم أم لا؟ فمن قال: إنه قسم منه كالشيخ الأشعري ومتابعيه ترك قيد المعاني فيدخل فيه الإحساس، ومن لم يقل: إنه علم بل هو إدراك مخالف بالماهية للعلم يحصل بالحواس ذكر قيد المعاني وأراد بها ما يقابل الأمور المحسوسة بالحس الظاهر، ثم إن منهم من نفى الحواس الباطنة وقال: إن النفس مدركة للجزئيات المعنوية، فلم يقيد المعاني بالكلية، ومنهم من أثبتها فقيدها بها إخراجا لإدراك الحواس الباطنة، فإنه إدراك للمعاني الجزئية، ويسمى ذلك الإدراك تخيلًا وتوهمًا.
قوله: (لكن يرد عليهم…إلخ) يعني يرد على من زاد قيد المعاني أنهم صرحوا بأن الجزئيات العينية المحسوسة بالحس الظاهر قد تدرك علمًا بأن تدرك بجميع العوارض اللاحقة لها بحيث يمتاز عن كل ما عداها بدون حضورها موادها عن الحس كما إذا علم زيدًا قبل رؤيته بعوارض مشخصة له بحيث يمتاز عن جميع ما عداه، وقد تدرك إحساسًا بأن تدرك مكيفة باللواحق والعوارض المادية مع حضور المواد عند الحس كإدراك زيد عند رؤيته، والمدرك على كلا التقديرين الجزئي المحسوس مع أنه يلزم على هذا التعريف أن لا تدرك الجزئيات العينية علمًا لأنه لا يوجب تمييزًا بين المعاني بل بين الأعيان المحسوسة.
قوله: (وغاية ما يتكلف…إلخ) حاصل الجواب أن الأمر المدرك بدون إحضاره عند الحس معنى لا عين لأن إدراكه بهذا الاعبتار على وجه كلي إذ هو بمشخصات كلية يجوز العقل اشتراكها بين كثيرين لعدم ملاحظة خصوصية المادة، لكن انحصر في الخارج في فرد واحد، فهو إدراك الأمر كلي انحصر في فرد واحد فلا يكون إدراكًا للجزئي المحسوس، بخلاف إدراكه بإحضاره عند الحس، فإنه على وجه جزئي، فهو إدراك العين المحسوس.
قوله: (والأمر في إدراكه…إلخ) يعني الأمر على من زاد قيد المعاني في إدراك العين المحسوس بعد غيبوبته عن الحس الظاهر مشكل، إذ ليس إدراكه إحساسًا لغيبوبته عن الحس، ولا علمًا لأنه إدراك العين المحسوس على وجه جزئي ضرورة أنه إدراك المشخصات ملحوظة معها خصوصية المحل كما في الإحساس، مثلًا الصورة الحاصلة من زيد عند النفس بعد غيبوبته عن البصر إدراك له وآلة لملاحظته بحيث يمتنع الاشتراك فيها، ولا يمكن أن يقال: إنه تخيل أو توهم لأن من أطلق قيد المعاني لا يقول بالحواس الباطنة، وإلا لانتقض تعريف العلم بهما، قال المحشي المدقق: المدرك أولًا وبالذات بعد الغيبوبة عن الحواس أمر خيالي يصح تعلق العلم به، وليس من الأعيان بل من المعاني، لكن لمطابقته لأمر خارجي وكونه وسيلة إلى معرفته اشتبه الحال، أقول: فيه بحث إذ لا يخفى على ذوي بصيرة أن المدرك هو ما تعلق به العلم وأوجب تمييزه عما عداه، فالأمر الخيالي إنما يكون مدركًا إذا أوجب صفة العلم تمييزه بأن حصل صورته عند المدرك، وفيما نحن فيه ليس كذلك لأن كلامنا إنما هو في صورة هي آلة لملاحظة العين الغائب عن الحواس لا في الصورة الملحوظة بالذات حتى يكون مدركًا، وكأنه لم يفرق بين ماهية الإدراك والمدرك فأجاب بما أجاب.
قوله: (أي لتمييزها الذي هو الصورة…إلخ) يعني أن الكلام بتقدير المضاف، فالتصور صفة توجب تمييزًا وهو الصورة لمتعلقها الذي هو الماهية المتصورة بحيث لا تحتمل الماهية المتصورة نقيض تلك الصورة، فلا يرد أن التصور غير التمييز، إذ هو صفة موجبة له على ما مرّ، والمعتبر في تعريف العلم عدم احتمال المتعلق لنقيض التمييز لا لنقيض الصفة، فلا يصح بناء إدخال التصورات في تعريف العلم على أنه لا نقيض لها، قال الشارح في شرح الشرح: معنى قوله: لا نقيض للتصور أنه لا نقيض لمتعلقه يعني الماهية المتصورة، وهذا مبني على أن يكون المراد بالنقيض نقيض المتعلق، وقد مر تحقيقه.
قوله: (ومن ههنا…إلخ) أي ومن ورود الاعتراض ظاهرًا لو أريد نقيض التمييز، قيل: المراد بالنقيض نقيض الصفة، وقوله: لا يحتمل صفة للصفة لا للتمييز، وضمير لا يحتمل راجع إلى المتعلق، فالمعنى صفة توجب تمييزًا لا يختمل متعلقها نقيض تلك الصفة، فالتصور حينئذ نفس الصورة لا ما يوجبها، والتمييز بالمعنى المصدري وهو الكشف والإيضاح، ولا شك أنه يصح البناء المذكور لأن التصور صفة توجب كشف الماهية المتصورة بحيث لا يحتمل تلك الماهية نقيض ذلك التصور إذ لا نقيض له على ما زعموا لكن لا يخفى أنه خلاف الظاهر إذ الظاهر أن يكون لا يحتمل صفة للتمييز ومخالف لتعريف العلم عند القائلين بأنه من باب الإضافة حيث قالوا: هو تمييز لا يحتمل النقيض، فإنه لا يمكن أن يراد فيه نقيض الصفة.
قوله: (وقد يجاب) أي قد يجاب عن اعتراض عدم صحة البناء المذكور بدون أن يكون الكلام على تقدير المضاف أو أن يكون المراد نقيض الصفة بأن عدم نقيض التمييز فرع عدم نقيض التصور، فإذا لم يكن لنفس التصور نقيض لا يكون لتمييزه الذي يوجبه نقيض.
قوله: (لكنه لا يخفى…إلخ) يعني ادعاء أن عدم نقيض التمييز فرع عدم نقيض التصور أمر لا دليل عليه ألا ترى أن في التصديق نقيضًا للتمييز ولا نقيض له، وقد يقال: إن عدم نقيض المفهوم المتصور وعدم نقيض التصور وعدم نقيض التمييز أمور متلازمة لا يتصور الانفكاك بينها، فعدم النقيض لواحد منها يستلزم عدم نقيض الآخر، أقول: ادعاء التلازم أيضًا لا بد له من دليل، ودعوى البداهة غير مسموعة.
قوله: (إن قلت…إلخ) اعتراض آخر على قوله: بناء، وحاصله أن شمول تعريف العلم للتصورات كما يصح باعتبار أنها لا نقائض لها كذلك يصح باعتبار أنها غير محتملة لنقائضها لأن كل متصور لا يحتمل غير صورته الحاصلة، فعلى تقدير تسليم أن للتصورات نقيضًا يصح شمول تعريف العلم للتصورات لكونها غير محتملة لها، فلا وجه لبناء شموله للتصورات على أنها لا نقائض لها.
قوله: (فلو سلم أن للتصور نقيضًا) أي لتمييز التصور لما مر,
قوله: (قلت…إلخ) وحاصله أن شمول تعريف العلم للتصورات بناء على أنها غير محتملة للنقائض إنما يتم في التصورات بالكنه، إذ كل متصور بالكنه لا يحتمل غير صورته الخاصة، لما أنه لا يمكن تعدد حقيقة الشيء، وأما في التصور بالوجه فلا، إذ يمكن أن يكون لشيء واحد لوازم متعددة فكما يمكن إحضاره بأحدها يمكن إحضاره بالآخر، بخلاف بنائه على أنها لا نقائض لها فإنه شامل للتصور بالكنه وبالوجه.
قوله: (على أن…إلخ) علاوة على تقدير تسليم أن كل متصور بالكنه أو بالوجه لا يحتمل غير صورته الحاصلة، وحاصله أن بناء دخول التصورات على أنه لا نقائض لها إنما هو بحسب الواقع على زعمهم، وهو لا ينافي أن يكون لذلك الدخول مبنى آخر هو عدم الاحتمال للنقيض بحسب التقدير والفرض، فيجوز أن يكون مبناه بحسب الواقع عدم النقيض، وبحسب الفرض عدم الاحتمال، وللفاضل الجبلي في تحرير هذا الكلام ما قد بلغ في نهاية البعد عن المرام، وهو يزعم أنه نهاية تحقيق المقام.
قوله (لأنه يبطل الكثير من قواعد المنطق…إلخ) عد قولهم عكس النقيض جعل نقيض…إلخ. من قواعد المنطق لا يخلو عن تسامح، لأن القاعدة قضية كلية والتعريف ليس كذلك، وأما قولهم نقيضا المتساويين متساويان فهو قاعدة بلا مرية لصدق التعريف عليه، وعده في شرح المطالع من القواعد.
قوله: (والتحقيق…إلخ) هذا التحقيق مستفاد من كلام السيد السند قدس سره، وحاصله إن فسر النقيضان بالأمرين المتمانعين بالذات أي الأمرين اللذين يتمانعان ويتدافعان بحيث يقتضي لذاته تحقق أحدهما في نفس الأمر انتفاء الآخر فيه وبالعكس كالإيجاب والسلب، فإنه إذا تحقق الإيجاب بين الشيئين انتفى السلب وبالعكس لا يكون للتصور أي الصورة نقيض، إذ لا يستلزم تحقق صورة انتفاء الأخرى، فإن صورتي الإنسان واللاإنسان كلتاهما حاصلتان لا تدافع بينهما إلا إذا اعتبر نسبتهما إلى شيء فإنه حينئذ يحصل قضيتان متنافيتان صدقًا فقط إن لم يجعل السلب راجعًا إلى نسبة الإنسان إلى شيء بل اعتبر جزءًا منه، وإن جعل راجعًا إليها كانتا متنافيتين صدقًا وكذبًا، وكذا الحال في التصورات التقييدية والإنشائية لا تدافع بينهما إلا بملاحظة وقوع تلك النسبة وارتفاعها أو بالاعتبارين المذكورين في المفردين، فإن قلت: إن مفهوم نسبة الإنسان إلى زيد ومفهوم سلبها عنه كل منهما من قببل التصور، وبينهما تنافٍ صدقًا وكذبًا، فيكون كل منهما نقيضًا للآخر بالمعنى المتعارف للنقيض فقد تحقق النقيض للتصورات أيضًا، والجوب أن كلًّا منهما إن لوحظ من حيث إنه آلة ورابطة بين الطرفين فالتناقض بينهما عين التناقض في القضايا، وإن لوحظ من حيث إنه مفهوم من المفهومات وحمل على زيد كقولك زيد منسوب إليه الإنسان وليس ينسب إليه الإنسان فهو راجع أيضًا إلى تناقض القضايا لأن قولك: زيد منسوب إليه الإنسان معناه زيد إنسان، لا فرق بينهما إلا أنه اعتبر نسبة الإنسان إليه ثانيًا، وحمل عليه وقس عليه السلب، وإن فسر النقيضان بالأمرين المتنافيين أي الأمرين اللذين يكون كل منهما ينافي الآخر لذاته سواء كان تمانع في التحقق أو الانتفاء كما في القضايا أو مجرد تباعد في المفهوم بأنه إذا قيس أحدهما بالآخر كان ذلك أشد بعدًا مما سواه كان للتصور نقيض كالإنسان واللاإنسان وذلك ظاهر.
قوله: (ومن ههنا…إلخ) أي من تفسير النقيضين بالمتنافيين قيل: نقيض كل شيء رفعه، ذكر السيد الشريف قدس سره في حاشية شرح المطالع أن المفهوم المفرد إذا اعتبر في نفسه لم يتصور له نقيض إلا بأن يضم إليه معنى كلمة النفي فيحصل مفهوم آخر في غاية البعد عنه ويسمى رفع المفهوم في نفسه، وإذا اعتبر صدق المفهوم على شيء فنقيض ذلك المفهوم بهذا الاعتبار سلبه أي سلب صدقه ورفعه عما اعتبر صدقه عليه، والأول نقيض بمعنى العدول، والثاني بمعنى السلب انتهى كلامه، فعلم من هذا أن النقيض في التصورات متحقق بقسميه؛ أعني: رفعه في نفسه ورفعه عن شيء بالاعتبارين، وأما في التصديقات فلا يتحقق فيها إلا القسم الأول إذ لا يمكن اعتبار صدقها أو حملها على شيء، وأن معنى قوله: نقيض كل شيء رفعه سواء كان رفعه في نفسه أو رفعه عن شيء أنه إن اعتبر ذلك الشيء في نفسه كان نقيضه رفعه في نفسه وإن اعتبر صدقه على شيء كان نقيضه رفعه عن ذلك الشيء، قال المحشي المدقق: فيه مناقشة من وجهين: الأول أنه لا يصدق على نقيض السلب، الثاني أن قوله: أو رفعه عن شيء يقتضي أن يكون رفع الضاحك عن الإنسان مثلًا نقيض الضاحك مع أنه ليس كذلك بل هو نقيض لإثباته انتهى كلامه، ويمكن الجواب أما عن الأول فبأنه يجوز أن يكون إطلاقالنقيض على الإيجاب باعتبار أنه لازم مساوٍ لنقيض السلب؛ أعني: سلب السلب، ويؤيده ما قالوا من أن نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية مع أن نقيضه رفع الإيجاب الكلي، وما صرحوا في بحث القضايا الموجهة من أن النقيض عندنا أعم من أن يكون رفعًا لذلك الشيء أو لازمًا مساويًا له، وإذا كان النقيض حقيقة هو رفع ذلك الشيء، فالأوجه أن يقال: رفع كل شيء على ما وقع في عبارة السيد السند قدس سره في حاشية شرح مختصر الأصول، وأما عن الثاني فلما عرفت من أن المراد أنه إذا اعتبر الشيء في نفسه كان نقيضه رفعه في نفسه، وإذا اعتبر من حيث صدقه على شيء كان نقيضه رفعه عن ذلك الشيء إلا أن كلا من قسمي النقيض متحقق بالنظر إلى اعتباره في نفسه.
قوله: (وقول المنطقيين محمول على المجاز) أي قول المنطقيين من إثبات النقائض للتصورات محمول على المجاز باعتبار أنه لو اعتبرت النسبة بينهما حصل التدافع بينهما، أما في الصدق والكذب أو في الصدق فقط على ما عرفت، ولذا عرفوا التناقض باختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي لذاته صدق أحدهما كذب الأخرى.
قوله: (وأيضًا يلزم…إلخ) عطف على قوله: يبطل كثيرًا…إلخ. ووجه آخر لبيان ضعف قولهم: إنه لا نقائض للتصورات، وحاصله أنه إن لم يكن للتصورات نقائض يدخل جميع التصورات في تعريف العلم مع عدم صدق العلم عليه لأن المطابقة معتبرة في العلم ولامطابقه في بعض التصورات، فلا يكون التعريف مانعًا.
قوله: (قوله وأجيب…إلخ) هذا ما أفاده سيد المحققين في مواضع من كتبه، وحاصله أن الصور الإنسانية المرتسمة الناشئة من ذلك الشبح علم تصوري للإنسان وآله لملاحظته ومطابق له بحيث لايحتمل غير تلك الصورة في الواقع، فلا خطأ في الصورة لمطابقتها لمعلومها، وإنما الخطأ في الحكم المقارن لهذا التصور، وهو أن هذه الصورة صورة لذلك المرئي الذي هو الحجر، وههنا سؤال مشهور وهو أن مدار المطابقة إما الشيء الذي ينشأ منه هذه الصورة أو الشيء الذي كانت تلك الصورة صورة له، فإن كان المدار الأول يلزم جريان المطابقة واللامطابقة في الصورة التصورية من غير ملاحظة الحكم والالتفات إليه، إذ لا شك أن الصور المنتزعة من الإنسان مثلًا قد تكون مطابقة له وقد لاتكون بدون ملاحظة الحكم، وإن كان المدار الثاني يلزم أن لا يتصف التصديق بعدم المطابقة أيضًا إذ كل صورة تصديقية لا تكون إلا مطابقة لما هي صورة له، فإن الصورة التصديقية كقولنا: العالم مستغن عن المؤثر مطابقة لما هي صورة له؛ أعني: ثبوت الاستغناء عن المؤثر للعالم، ويمكن الجواب بأن الصورة التصويرية والتصديقية وإن كانت مطابقة لمعلومها لكن معلوم كل صورة تصورية واقع في نفس الأمر ضرورة أنه لا تمانع بين المعلومات التصورية، ألا ترى أن كل متصور فهو ماهية من الماهيات في نفسها مع قطع النظر عن فرض العقل إنما لممتنع المفروض وجودها وأوصافها، فيكون كل صورة تصورية مطابقة للواقع، فلا يتصف بعدم المطابقة أصلًا بخلاف معلوم الصورة التصديقية، فإنه قد يكون واقعًا في نفس الأمر كما في قولنا: العالم حادث مثلًا، وقد لا يكون واقعًا كما في قولنا العالم قديم ضرورة تحقق الممانعة بالذات بين المعلومات التصديقية، فالصورة التصديقية قد تكون مطابقة للواقع وقد لا تكون، ألا ترى أنا إذا رأينا حجرًا وحصل منه الصورة الحجرية وحكمنا بأن هذه الصورة لذلك المرئي كان كل من الصورة التصورية والتصديقية مطابقًا لما في نفس الأمر ضرورة أن كلا المعلومين واقع فيه، وإذا رأينا حجرًا وحصل منه الصورة الإنسانية وحكمنا عليه بذلك الحكم فالصورةالتصورية مطابقة لما في نفس الأمر وهو الماهية الإنسانية، والصورة التصديقية غير مطابقة له لعدم معلوميته فيه وهو ثبوت تلك الصورة للحجر، فالحاصل أن الصورة التصديقية تتصف بالمطابقة وعدم المطابقة لما في نفس الأمر، والصورة التصورية دائمًا متصفة بمطابقتها له، تأمل فإنه دقيق.
قوله: (وإنما الخطأ في الحكم) أي إنما الخطأ في الحكم المقارن لذلك التصور، فإن الحكم بأن الصورة الناشئة من الشيء صورة له قد صار ملكة للنفس، فإذا كانت تلك الصورة صورة لما نشأت منه في نفس الأمر يكون حكمه مطابقًا لما في نفس الأمر، وإذا لم يكن صورة له في نفس الأمر لا يكون مطابقًا له، وهذا معنى تحقق المطابقة واللامطابقة في الحكم مع مطابقة الصورة لما هي صورة له في الصورتين، وبما ذكرنا اندفع ما قيل أن الحكم بأن هذه الصورة صورة لذلك المرئي فرع الحكم بالفعل، ومن البين أن لا حكم فيه بالفعل بل لايمكن الحكم وإلا لزم التسلسل لأنه إنما يلزم التسلسل لو كان الحكم الحاصل بواسطة تلك الملكة حكمًا صريحًا ملتفتًا إليه بالذات يفصل فيه جميع ما اعتبر فيه من التصورات، والرجوع إلى الوجدان يكذب ذلك.
قوله: (ويرد عليه أنه فرق…إلخ) حاصله أن كون تلك الصورة تصورًا وإدرا كًا للإنسان موقوف على أن يكون العلم بالوجه عين العلم بالشيء من ذلك الوجه حتى يكون العلم بالشبح من وجه الإنسان عين العلم بالإنسان الذي هو وجهه، لكن الفرق ثابت فإن معنى العلم بالوجه هو أن يحصل في الذهن صورة تكون آلة لملاحظة ذلك الوجه، فالوجه معلوم والحاصل في الذهن صورته، معنى العلم بالشيء من ذلك الوجه أن يكون ذلك الوجه آله لملاحظته، فالحاصل في الذهن نفس ذلك الوجه، والمعلوم بواسطتها ذلك الشيء، فالعلم بالوجه في المثال المذكور؛ أعني: العلم بالإنسان وإن كان مطابقًا لكن العلم بالشيء من ذلك الوجه ليس بمطابق، والمقصود في المثال المذكور هو هذا، إذ المتصور هو الشبح، والصورة الإنسانية آلة لملاحظته، أجيب بأنه إن أراد بأن المتصور هو الشبح أنه متصور من حيث الحجرية فهو باطل بالضرورة، إذ الصورة المذكورة آلة لملاحظة فرد من أفراد الإنسان دون الحجر، فكيف يكون الحجر متصورًا به؟ وإن أراد أنه متصور بذلك الوجه من حيث الإنسانية فلا خطأ في تلك الصورة؛ إذ هي مطابق لمتصوره، وإنما الخطأ في أن هذه الصورة آلة لملاحظة ذلك الشبح المرئي، وأن ذلك الشبح فرد من أفراد الإنسان، نقل عنه، *توضيحه بأنا إذا رأينا شبحًا من بعيد وهو في الواقع حجر فحصل منه في أذهاننا صورة الإنسان فاعتقدنا أنه إنسان فربما نتوجه إلى ذلك الشبح بوصف الإنسانية ونجعله عنوانًا بناءً على ذلك الاعتقاد ونحكم على ذلك بأنه قابل للعلم والفهم مثلًا، فالمحكوم عليه في هذا الحكم الوارد على المأخوذ بهذا العنوان معلوم لنا بهذا الوصف بلا شبهة، وصورة الإنسان آلة لملاحظة المحكوم عليه؛ أعني: الشبح ووجه لذلك الشبح، والشبح معلوم لنا من حيث ذلك الوجه، وقد تقرر الفرق بين العلم بالوجه وهو ههنا العلم بمفهوم الإنسان الذي هو آلة لملاحظة الشبح وبين العلم بالشيء من ذلك الوجه وهو ههنا العلم بالشبح من حيث إنه مفهوم الإنسان، ولا شك أن العلم بالشبح الذي هو الحجر في الواقع بوصف الإنسانية غير مطابق، وهكذا الحال في قولهم: الماهية المجردة عن العوارض الذهنية والخارجية موجودة في الذهن، واللامعلوم لا يعقل واللاشيء كلي وأمثال ذلك، انتهى كلامه، وحاصله أنه بعد حصول صورة الإنسان من الشبح واعتقادنا أنه إنسان نحكم عليه بأنه قابل للعلم مثلًا، والمحكوم عليه لا بد أن يكون متصورًا لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، وليس معلومًا إلا بوصف الإنسانية، فثبت أن الحجر متصور بوصف الإنسانية وهو علم غير مطابق لمعلومه، ولايمكن أن يقال: إن المعلوم هو الحجر من حيث إنه إنسان لأنه حينئذ يكون المعلوم هو الإنسان، فلا يكون فرق بين العلم بالشبح بالوجه الذي هو الإنسان ههنا وبين اللعلم بالشيئ بذلك الوجه، وعلى هذا ظهر أن المعلوم هو الشبح من حيث إنه حجر لا من حيث إنه إنسان، واندفع الجواب المذكور، فإنه مبني على عدم الفرق بين العلم بالشيء بالوجه وبين العلم بالشيء من ذلك الوجه، وتحقيق الجواب أنا إذا سلمنا أنه بعد حصول صورة الإنسان من الشبح واعتقادنا أنه إنسان لأجل اشتباه الحال على الحس بواسطة المشاكلة بين الإنسان والحجر نجعل الوصف المذكور عنوانًا ونحكم عليه، لكن المعتبر في اتصاف أفراد الموضوع بالوصف العنواني هو الاتصاف بالفعل بحسب الاعتقاد على ما هو التحقق، والشبح المذكور وإن كان حجرًا بحسب نفس الأمر لكنه إنسان بحسب الاعتقاد، فيجوز أن تكون الصورة الإنسانية آلة لملاحظة الإنسان الذي هو حجر في الواقع، ويكون معنى الحكم عليه أن الأمر الذي اعتقد أنه متصف بالإنسانية موصوف بكونه قابل العلم والفهم، فيكون التصور مطابقًا لمتصوره الذي هو الإنسان المفروض، ومع ذلك يكون المحكوم عليه هو الحجر لأنه حجر في نفس الأمر، والخطأ إنما هو في الاعتقاد بأن ذلك الحجر إنسان الذي هو ناشئ من عدم امتياز الحس بين الأمور المتشاكلة، وقد يجاب بوجهين آخرين: أحدهما سلمنا أن المحكوم عليه هو الحجر لكنه معلوم بالوجه المطابق، ودعوى أنه ليس معلومًا لنا إلا بوصف الإنسانية في حيز المنع غايته أن ذلك الوجه غير مشعور به، وذلك لا يوجب انتفاءه في نفس الأمر، ولا يخفى أنه نوع مكابرة، وثانيهما أن المرئي من بعيد هو الهوية المشتركة بين الواجب والجوهر والعرض على ما سيجيء في بحث الرؤية، والصورة الإنسانية ليست غير مطابقلها لأن الوجه الأخص لا يباين الأعم، ولايخفى أنه مع عدم تمامه في نفسه غير مفيد لأن عدم المطابقة متحققة.
قال الباجوري:
قوله: (وأسباب العلم…إلخ) لما ذكر أن حقائق الأشياء ثابتة، وأن العلم بها متحقق، خلافا للسوفسطائية في إنكارهم لذلك لتمسكهم بالطعن في الحس وبداهة العقل والنظر المتفرع عنهما، عقب ذلك بذكر أن الحس والعقل من أسباب العلم، فقال: “وأسباب العلم…إلخ” إشارة إلى إثبات السببين اللذين طعنوا فيهما، مع زيادة سبب ثالث مبالغة في تصحيح قول أهل الحق وإنما لم يقل: “وأسبابه…إلخ” بالضمير؛ بل قال: “وأسباب العلم…إلخ” بالاسم الظاهر لئلا يتوهم عود الضمير غلى العلم المتعلق بحقائق الأشياء مع أن المراد بيان أسباب مطلق العلم وخرج بإضافة الأسباب إلى العلم، علم الله إذ لا سبب له وحينئذ فلا حاجة لقول المصنف للخلق إلا أن يقال إنه تأكيد لما علم من الإضافة، فالمراد بكون الأشياء الآتية أسباب العلم، أن العلم يحصل عقبها عادة من غير تولد ولا إيجاب، خلافا لمن زعم ذلك.
قوله: (وهو…إلخ) عرف العلم بناء على القول بأنه يعرَّف خلافا لمن قال بأنه لا يعرف؛ إما لأنه بديهي لا يحتاج إلى التعريف، أو لأنه يتعذر تعريفه فإنه لا يمكن تلخيص العبارة الكاشفة عن ماهيته. وذكر الشارح تعريفين من تعاريفه؛ لكونهما أحسن ما قيل في تعريفه، والأول أحسن من الثاني، كما يؤخذ من كلام الشارح. وكل من هذين التعريفين مبني على أن العلم من مقولة الكيف، فيكون صفة نفسانية، وهو الراجح كما تقدم. وقيل: إنه من قبيل الإضافة وعليه فيعرف بتجلي المذكور أو بالتمييز الذي لا يحتمل النقيض، وكلام المصنف محتمل للقولين.
قوله: (صفة) جنس دخل فيه جميع الصفات.
وقوله: (يتجلى بها) فصل أول خرج به الوجود والحياة ونحوهما، مما هو شرط في التجلي لا سبب، وخرج به أيضا القدرة والإرادة؛ لأنهما ليسا من صفات التجلي.
وقوله: (المذكور) فصل ثان خرج به السمع والبصر؛ لأن كلا منهم صفة يتجلى بها الموجود فقط لا المذكور الشامل للموجود والمعدوم.
وقوله: (لمن قامت به) فصل ثالث خرج به الكلام؛ لأنه صفة يتجلى بها المذكور لا لمن قامت به بل للمخاطب.
قوله: ( أي يتضح) يعني اتضاحا مطلقا سواء كان تاما أو غير تام، بدليل إدخال التصديقات غير اليقينة في التعريف.
وقوله: (يظهر) عطف تفسير.
قوله: (ما يذكر) أي: ما يمكن أن يذكر فالذكر بحسب الإمكان لا بالفعل أخذا مما بعده، والمراد ما يذكر داله.
قوله: (ويمكن أن يعبر عنه) أشار بذلك إلى أن المذكور من الذكر، بكسر الذال المعجمة، وهو ما يكون باللسان، وإنما لم نجعله من الذكر بضمها وهو ما يكون بالقلب؛ حملا على الشائع المتبادر، وإن صح ذكر المضموم في تعريف العلم لعدم اختصاصه باليقين؛ لأنه عام لمثل الظن والجهل المركب كالتقليد. كما أن العلم المعرَّف ههنا كذلك، فالتعريف إذا ذكر فيه المضموم يكون مسايا للمعرف كما إذا ذكر فيه المكسور، وبعضهم جعل المعرف خاصا باليقين بخلاف الذكر بالضم فإنه يشمل مثل الظن والجهل المركب كالتقليد، وقصد بذلك الرد على ما قيل: من أنه لو ذكر المضموم في التعريف لزم تعريف الشيء بنفسه؛ لأنه بمعنى العلم فلا يصح التعريف به واعترض عبد الحكيم: بأنه لو كان المعرف خاصا لوجب أن يحمل التجلي على الاتضاح التام مع إن الشارح عممه بقوله “أي يتضح ويظهر” فإن غرضه به التعميم بدليل قوله فيما يأتي “لكن ينبغي أن يحمل التجلي…إلخ”. هذا وفي شرح المقاصد ما يشعر بأن المذكور من الذكر المضموم ونص عبارته “أي صفة ينكشف بها ما يذكر ويلتفت إليه”. ولا تنافي بين ما ذكره هنا وما ذكره في شرح المقاصد وزعمه الفاضل الجلبي؛ لأن اختيار توجيه في كتاب وتوجيه آخر في كتاب آخر ليس من التنافي في شيء.
قوله: (موجودا كان أو معدوما) أي سواء كان ما يذكر ويمكن أن يعبر عنه موجودا أو معدوما، ولا فرق في الموجود بين أن يكون قديما أو حادثا، ولا فرق في المعدوم أيضا بين أن يكون ممتنعا أو ممكنا.
قوله: (فيشمل..إلخ) تفريع على التفسير الذي ذكره بقوله “أي يتضح ويظهر” لأنه المقصود به التعميم كما سبق، والضمير المستتر في “يشمل” عائد على التعريف المذكور.
قوله: (إدراك الحواس) أي إدراك النفس للصور المحسوسة بواسطة الحواس، فالنفس هي المدركة، والحواس إنما هي آلة في الإدراك.
وقوله: (وإدراك العقل) أي إدراك النفس للمعاني الكلية والجزئية عند أهل السنة بواسطة العقل، فالنفس هي المدركة والعقل إنما هو آلة في الإدراك كما هو التحقيق. واعترض عد إدراك الحواس علما بأنه يخالف العرف واللغة؛ لأن إدراك الحواس ثابت للبهائم وليست من أولي العلم عرفا ولا لغة، ولا يقال نجعل إدراك الحواس من العقلاء علما بخلافه في البهائم كما يشير إليه كلمة “من” في قوله: “لمن قامت به” لأنا نقول ذلك محض تحكم؛ ولهذا نقل عن الأشعري أنه رجع عن القول بأن إدراك الحواس علم إلى القول بأنه ليس علما، بل هو نوع من الإدراك ممتاز عن العلم. قال عبد الحكيم: “ويمكن أن يقال: إن العلم المنفي عن البهائم عرفا ولغة هو العلم غير الإحساسي، وأما العلم الإحساسي فهو ثابت لها لغة وعرفا فلا مخالفة.”
قوله: (من…إلخ) بيان للإدراكين؛ أعني: إدراك الحواس وإدراك العقل.
وقوله: (التصورات) راجع لهما.
وقوله: (والتصديقات) راجع لإدراك العقل فقط.
وقوله: (اليقينية وغير اليقينية) راجع للتصديقات فقط، إن قلنا بأن التصورات لا نقائض لها وهو التحقيق، أو راجع للتصورات أيضا، إن قلنا بأن لها نقائض وهو رأي الشارح. فعلى الأول: لا تكون إلا يقينية، وعلى الثاني: تكون يقينية وغير يقينية. ومثال اليقينية من التصديقات أن تقول: العالم متغير، وكل متغير حادث. ومثال غير اليقينية منها أن تقول: زيد يطوف في الليل بالسلاح، وكل من كان كذلك فهو سارق. وهذا صريح في أن الظن يسمى علما، ومثله الجهل المركب والتقليد، لكن قال صاحب المواقف: تسمية الظن والجهل المركب والتقليد علما يخالف العرف واللغة والشرع.
قوله: (بخلاف قولهم…إلخ) أي حال كونه ملتبسا بخلاف قولهم…إلخ، فهو حال من الضمير في قوله: “فيشتمل…إلخ”. وإنما كان ملتبسا بخلاف قولهم المذكور؛ لأن قولهم “صفة توجب…إلخ” لا يشتمل التصديقات غير اليقينية كما سيذكره الشارح. وبحث في ذلك بأن ترجيح التعريف السابق على هذا التعريف بالشمول المذكور بما يوجب المرجوحية لا الأرجحية؛ لما علمته من كلام صاحب المواقف. والضمير في قولهم: للقائلين بهذا التعريف، وهم الأصولين كابن الحاجب حتى قال: إنه أصح الحدود.
قوله: (صفة) جنس يدخل فيه جميع الصفات.
وقوله: (توجب تمييزا) فصل أول يخرج به ما لا يوجب تمييزا من الصفات: كالقدرة للقادر والبياض للأبيض والشجاعة للشجاعة، فإنها لا توجب لمحلها أن يكون مميز الشيء عما عداه، وإن أوجبت له أن يكون متميزا عما عداه.
وقوله: (لا يحتمل النقيض) فصل ثان يخرج به الظن والشك والوهم وكذا الجهل المركب والتقليد، فإن الظن والشكل والوهم توجب تمييزا يحتمل النقيض في الحال، والجهل المركب والتقليد يوجبان تمييزا يحتمل النقيص في المآل. أما في الجهل المركب؛ فلأنه خلاف ما في نفس الأمر فيجوز أن يطلع على ما هو الواقع فيما بعد. وأما في التقليد؛ فلأنه يجوز أن يزول بتشكيك مشكك؛ لعدم استناده إلى موجب من حس أو بداهة أو عادة أو برهان. ونظر بعض الفضلاء في إخراج الشك والوهم من تعريف العلم بأن كلا منهما تصور، والتعريف شامل للتصورات بناء على أنه لا نقائض لها، فلا وجه لإخراجهما، وأجاب عبد الحكيم: بأن كلا من الشك والوهم له حيثيتان: فمن حيث إنه تصور للنسبة من حيث هي هي لا نقيض له، وهما من هذه الحيثية داخلان في العلم، ومن حيث إنه يلاحظ فيه النسبة مع واحد من النفي والإثبات على سبيل التجويز المساوي أو المرجوح، فلا يدخلان في هذه الحيثية في العلم.
قوله: (توجب تمييزا) أي تستلزم لمحلها وهو النفس تمييز الشيء عما عداه، فالمراد بالإيجاب الاستلزام لا التأثير؛ لاستناد جميع الكائنات إلى الله تعالى.
وقوله: (لا يحتمل النقيض) أي نقيض التمييز كما هو الظاهر، وعدم الاحتمال وصف لمتعلقه وهو الشيء الذي ميزته النفس عما عداه. وإنما وصف التمييز به مجازا، من وصف المتعلق- بالكسر- بوصف المتعلق- بالفتح- والمراد بالتمييز: ما به التمييز، وهو الصورة في التصور: كصورة حيوان ناطق التي بها تميز النفس ماهية الإنسان المجملة عما عداها. والإثبات والنفي في التصديق كإثبات الحدوث للعالم، ونفي القدم عن العالم الذين بهما تميز النفسُ الطرفين عما عداهما. فمتعلق التمييز في التصور الماهية المتصورة ومتعلقه في التصديق الطرفان. وحاصل المعنى: إن العلم صفة تستلزم للنفس صورة في التصور، بتلك الصورة تميز النفس الماهية المجملة عما عداها، بحيث لا تحتمل هذه الماهية نقيض تلك الصورة، وإثباتا في التصديق الإيجابي بهذا الإثبات تميز النفس الطرفين عما عداهما يحيث لا يحتملان نقيض ذلك الإثبات، ونفيا في التصديق السلبي بهذا النفي تميز النفس الطرفين عما عداهما بحيث لا يحتملان نقيض ذلك النفي. وقد عرفت أن المراد نقيض التمييز كما هو الظاهر، ويجوز وجه آخر لكنه خلاف الظاهر، وهو أن المراد نقيض المتعلق، ويحتمل أن يكون المراد نقيض الصفة، وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. لا يقال يلزم على هذا التعريف أن التصور والتصديق ليسا قسمي العلم؛ لأن التصور هو الصورة الحاصلة، والتصديق هو النفي والإثبات؛ لأنا نقول العلم بهذا المعنى ينقسم إلى تصور وإلى تصديق؛ لأنه إن خلي عن الحكم بأن لم يوجب إثباتا ولا نفيا فتصور وإلا فتصديق. وأما كون التصور ليس إلا نفس الصورة، وكون التصديق ليس إلا نفس الإثبات والنفي فهو مخترع الفلاسفة. فإن قيل: يلزم على هذا التعريف أن العلم ليس نفس الصورة في التصور، بل ما يوجبها وليس نفس الإثبات والنفي في التصديق، بل ما يوجبهما، مع أن المشهور أن العلم هو نفس الصورة في التصور، ونفس الإثبات والنفي في التصديق. أجيب بأن المعرفين للعلم بهذا التعريف يلتزمون أن العلم ليس نفس الصورة والإثبات والنفي، بل هو صفة توجب ذلك، وما هو المشهور من أن العلم هو الصورة الحاصة فمذهب الفلاسفة القائلين بانطباع الأشياء في النفس، والمعرفون للعلم بهذا التعريف ينفونه.
قوله: (فإنه…إلخ) علة لقوله “بخلاف قولهم…إلخ” والضمير لقولهم المذكور، وخبر إن قوله الآتي “لكنه لا يشتمل…إلخ”.
قوله: (وإن كان شاملا…إلخ) الواو للحال.
وقوله: (لإدراك الحواس) أي إدراك الحواس الظاهرة للجزئيات: كبياض زيد، وسواد عمرو، وحرارة هذه النار، وبرودة هذا الماء.
قوله: (بناءً على عدم التقييد بالمعاني) أي حال كون الشمول المذكور مبنيا على عدم التقييد في التعريف بالمعاني، بأن يراد تميزا بين الأشياء سواء كانت معاني أو أعيانا محسوسة، فلا فرق بين أن يكون التمييز لمعنى من بين المعاني أو لعين من بين الأعيان، بخلافه على التقييد بالمعاني بأن يراد تمييزا بين المعاني، فإن التعريف لا يكون شاملا لإدراك الحواس؛ لأن المعاني ما ليست من الأعيان المحسوسة بالحس الظاهر، فخرج الإحساسات والتقييد بالمعاني وعدم التقييد بها مبنيان على الخلاف في إدراك الحواس للأعيان المحسوسة هل هو قسم من العلم أم لا؟ فمن قال إنه قسم من العلم ترك التقييد بالمعاني، ومن قال بأنه ليس قسما من العلم بل مباين له، قيد بالمعاني، لكن يرد على من قيد بالمعاني أن مقتضى التعريف على التقييد المذكور: أن الجزئيات العينية لا تعلم أصلا وإنما تحس، مع أنهم صرحوا بأنها قد تدرك علما، بأن تدرك بالصفات العارضة لها كالطول والعرض والبياض ونحوها، بحيث تمتاز عن كل ما عداها بدون حضور موادها عند الحس، كإدراك زيد بصفاته العارضة له بحيث يمتاز عن جميع ما عداه قبل رؤيته. وقد تدرك إحساسا بأن تدرك بالصفات المذكورة مع حضور موادها عند الحس: كإدراك زيد بصفاته المذكورة عند رؤيته، وغاية ما يتكلف في الجواب أن يقال: الأمر المدرك بدون إحضاره عند الحس معنى لا عين، ومع إحضاره عند الحس عين لا معنى؛ لأن إدراكه بدون إحضاره عند الحس إنما هو بعوارض كلية يجوّز العقل اشتراكها بين كثيرين؛ لعدم ملاحظة خصوصية المادة. وإن انحصرت في فرد واحد في الخارج، فهو إدراك لأمر كلي، وهو ذات موصوفة بكذا وكذا من العوارض، والأمر الكلي معنى من المعاني، وإدراكه مع إحضاره عند الحس إنما هو بعوارض جزئية لا يجوّز العقل اشتراكها بين كثيرين؛ لملاحظة خصوصية المادة، فهو إدراك لأمر جزئي وهو الذات المعينة بمشخصاتها الجزئية. فمثل زيد إذا أخذ على وجه جزئي: فعين، وعلى وجه كلي: فمعنى، ولا يدرك قبل الرؤية إلا على وجه كلي. هذا والأمر في إدراك الجزئي المحسوس بعد غيبته عن الحس مشكل على من قيد بالمعاني؛ لأن هذا الإدراك ليس إحساسا لغيبه الجزئي عن الحس، ولا علما لملاحظة خصوصية المحل. وأجاب المحشي المدقق بأن المدرك أولًا، بعد الغيبة عن الحس، أمر خيالي يصح تعلق العلم به وليس من الأعيان، بل من المعاني؛ لكن لمطابقته الأمر الخارجي اشتبه الحال. وبحث فيه العلامة عبد الحكيم بأن المدرك هو ما أوجب العلم تمييزه بحيث تحصل صورته عند المدرِك، والأمر الخيالي ليس كذلك حتى يكون مدركا. وكأن المجيب لم يفرق بين ما به الإدراك والمدرك، فأجاب بما أجاب. ثم إن من قيد بالمعاني، منهم من قيدها بالكلية، ومنهم من لم يقيدها بها، والتقييد وعدمه مبنيان على الخلاف في ثبوت الحواس الباطنة وعدم ثبوتها. فمن أثبتها قيد المعاني بالكلية؛ لإخراج إدراك المعاني الجزئية بالحواس الباطنة المسمى بالتخيل والتوهم، ومن لم يثبتها لم يقيد المعاني بالكلية بل يجعلها شاملة للكلية والجزئية؛ لأن النفس تدرك كلا منهما.
قوله: (والتصورات) أي وشاملا للتصورات، فهو عطف على مدخول اللام في قوله “وإن كان شاملا لإدراك الحواس”.
قوله: (بناء على أنها لا نقائض لها) أي حال كون شموله للتصورات مبنيا على أنها لا نقائض لها أي للتصورات. ويرد عليه أن التصور غير التمييز، فنقيض التصور غير نقيض التمييز. والمعتبر في تعريف العلم عدم احتمال المتعلق لنقيض التمييز لا لنقيض التصور، وحينئذ فلا يصح بناء شمول التعريف للتصورات على عدم نقائضها، ومن ههنا قيل المراد بالنقيض في التعريف نقيض الصفة لا نقيض التمييز، حتى يرد ذلك وعليه يكون المراد من الصفة بالنسبة للتصور الصورة نفسها لا ما يوجبها، والمراد من التمييز معناه المصدري لا الصورة.
وقوله: (لا يحتمل النقيض) نعت للصفة والضمير في “يحتمل” راجع لمتعلقها. فمعنى التعريف على هذا صفة توجب للنفس كشفا للشيء عما عداه من الأشياء، بحيث لا يحتمل ذلك الشيء نقيض الصفة، وحينئذ يصح البناء المذكور؛ لأن التصور صفة توجب للنفس كشفا للماهية المتصورة عما عداها من الماهيات، بحيث لا تحتمل تلك الماهية نقيض ذلك التصور. وفيه أن هذا وإن أمكن في هذا التعريف، لا يمكن في تعريف القائلين بأن العلم من قبيل النسب والإضافات حيث قالوا: هو تمييز لا يحتمل النقيض، فإنه لا يمكن أن يراد فيه بالنقيض نقيض الصفة، بل يتعين أن يراد فيه به نقيض التمييز. وأجيب عن أصل الإيراد بأن عدم نقيض التصور يستلزم عدم نقيض التمييز، فيكون عدم نقيض التمييز فرعا عن عدم نقيض التصور، وحينئذ يصح البناء باعتبار اللازم والفرع. لكن لا يخفى أن دعوى الفرعية والاستلزام مما لا ثبت له؛ أي: دليل عليه، فالأولى أن يجعل قوله: “لا نقائض لها” على تقدير مضاف أي لا نقائض لتمييزها الذي هو الصورة، وحينئذ يصح البناء المذكور؛ لأن التصور صفة توجب للنفس تمييزا أي صورة، لا يحتمل متعلقه نقيض التمييز الذي هو تلك الصورة. لا يقال نفي احتمال النقيض يقتضي وجود النقيض، فكيف يكون التعريف شاملا للتصوران بناء على أنها لا نقائض لها؛ لأنا نقول إن قوله “لا يحتمل النقيض” سالبة تصدق بنفي الموضوع، فحينئذ يصح شمول التعريف للتصورات بناء على أنها لا نقائض لها. فإن قيل لو سلم أن للتصورات نقائض، أي لتمييزها كما هو الأولى في الجواب، فمتعلقه لا يحتمل نقيض تمييزها؛ لأن كل متصور لا يحتمل غير صورته الحاصلة في الذهن، وحينئذ فلا معنى لبناء شمول التعريف للتصورات على أنها لا نقائض لها؛ لأنه كما يشملها باعتبار أنها لا نقائض لها يشملها باعتبار أن لها نقائض؛ لما علمت من أن متعلق تمييزها لا يحتمل نقيضها أي: نقيض تمييزها؛ لأن كل متصور لا يحتمل غير صورته الحاصلة في الذهن. أجيب بأن شمول التعريف للتصورات بناء على عدم احتمال المتعلق لنقيض التمييز بتقدير أن لها نقائض، إنما يتم في التصورات بالكنه؛ إذ كل متصور بالكنه لا يحتمل غير صورته الحاصلة لا في التصورات بالوجه. فإنه لو فرض أن اللاضاحك بالفعل نقيض الضاحك بالفعل فلا شك أن الإنسان المتصور بأحدهما يحتمل أن يتصور بالآخر، فهو محتمل للنقيض بخلاف شمول التعريف للتصورات بناء على أنها لا نقائض لها، فإنه يتم في التصورات بالكنه وفي التصورات بالوجه؛ إذ المتعلق لا يحتمل نقيض التمييز في كل منهما لعدم النقيض، على أن بناء شيء على شيء في الواقع لا ينافي وجود مبنى آخر له في التقدير. فبناء شمول التعريف للتصورات على أنه لا نقائض لها في الواقع على زعمهم، لا ينافي أن لذلك الشمول مبنى آخر في التقدير، وهو عدم احتمال النقيض على تقدير أن لها نقائض، فيجوز أن يكون مبناه عدم النقيض في الواقع على زعمهم، وأن يكون مبناه في التقدير عدم احتمال النقيض على تقدير النقيض. وقد أبعد الفاضل الجلبي عن المرام في تحرير هذا الكلام.
قوله: (على ما زعموا) أي حال كون قولنا لا نقائض لها كائنا على ما زعموا وفي هذا تضعيف لقولهم عنده؛ لأنه لا يبطل كثير من كلام المنطقيان مثل قولهم: نقيضا المتساويين متساويان، فنقيضا بشر وإنسان وهما لا بشر ولا إنسان متساويان، وقولهم: عكس النقيض أخذ نقيض الموضوع محمولا وبالعكس. فعكس النقيض في قولهم: كل إنسان حيوان: كلما ليس بحيوان ليس بإنسان، وقولهم: نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص؛ فلا حيوان الذي هو نقيض حيوان أخص منه لا إنسان الذي هو نقيض الإنسان. ولا شك أن المتساويين والموضوع والمحمول والأعم والأخص من قبيل التصور، وقد جعلوا لها نقائض، فقولهم بأن التصورات لا نقائض لها مبطل لذلك، وأيضا يلزم من قولهم المذكور أن يكون جميع التصورات علما، لأنها لا تحتمل النقيض لعدم النقيض على زعمهم مع أن العلم يشترط فيه المطابقة للمعلوم وبعض التصورات غير مطابق للمتصور. كما إذا رأينا جحرا من بعيد فحصل منه صورة إنسان، فإن هذا التصور غير مطابق للمتصور، وحينئذ فتعريف العلم على ما زعموا يكون غير مانع. والتحقيق أنه إن فسر النقيضان بالمتمانعين لذاتهما، أي المتدافعين بالنظر لذاتهما، بحيث إنه إذا تحقق أحدهما في نفس الأمر انتفى الآخر فيه كالإيجاب والسلب بين الشيئين، فإنه إذا تحقق الإيجاب بينهما في نفس الأمر انتفى السلب بينهما فيه وبالعكس، لا يكون للتصور نقيض؛ إذ لا تمانع بين التصورات بدون اعتبار النسبة إلى شيء. فتصور إنسان وتصور لا إنسان حاصلان في نفس الأمر، فلا تمانع بينهما فيه بدون اعتبار النسبة إلى شيء. وأما إن اعتبرت نسبتهما إلى شيء كزيد خرجا من التصور إلى التصديق؛ لأنه يحصل نسبتهما إلى ذلك قضيتان متنافيان وهما: زيد إنسان، زيد لا إنسان. وهما متمانعان لذاتهما، وإن فسر النقيضان بالمتنافيين لذاتهما أي الأمرين المتباعدين بالنظر لذاتهما سواء كان ذلك في التحقق والانتفاء، أو في المفهوم كان للتصور نقيض؛ لأن التناقض بهذا المعنى موجود في التصور. ومن ههنا؛ أعني: تفسير النقيضين بالمتنافيين لذاتهما. قيل: نقيض كل شيء رفعه، أي سواء كان رفعه في نفسه أو رفعه عن شيء. فالأول: كرفع الإنسان بقولنا: لا إنسان، ورفع الإيجاب في قولنا: زيد قائم بالسلب في قولنا: زيد ليس بقائم، فهو جار في التصور والتصديق. والثاني: كرفع الإنسان عن الجحر فهو خاص بالتصور؛ لأن التصديق لا يمكن اعتبار صدقه على شيء حتى يكون فيه الرفع عن الشيء. والأشهر هو الأول من هذين التفسيرين، فيكون ما زعموه من أن التصورات لا نقائض لها هو الحق. وأجيب عن الاعتراض الأول بأن قول المنطقيين محمول على المجاز، باعتبار أنه إذا لوحظت نسبة الصورتين إلى شيء حصل قضيتان متناقضتان صدقا وكذبا كما سبق. ولذا عرفوا التناقض باختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي صدق إحداهما كذب الأخرى. وعن الاعتراض الثاني بأنا لا نسلم أن بعض التصورات غير مطابق. والصورة في المثال السابق علم تصوري للإنسان وهي مطابقة له بحيث لا يحتمل غير تلك الصورة في الواقع، والخطأ في الحكم بأن هذه الصورة لهذا المرئي الذي هو الحجر، فالصورة التصويرية مطابقة دائما. وأما التصديق فقد يطابق كما لو رأينا جحرا من بعيد فحصل منه صورة إنسان، فالصورة التصويرية مطابقة لمتصورها وهو الإنسان. والحكم بأن هذه الصورة لهذا المرئي غير مطابق، هذا هو المشهور بين الجمهور. ويرد عليه أنه فرق بين العلم بالوجه وهو العلم بالإنسان، وبين العلم بالشيء من ذلك الوجه وهو العلم بالحجر بصورة الإنسان، وكلامنا في الثاني لا الأول. فالمتصور في المثال المذكور هو الشبح، والصورة الذهنية آلة لملاحظته فهي غير مطابقة للمتصور. وأجيب عن هذا الإيراد بأن المتصور هو الشبح، من حيث إنه إنسان في اعتقادنا أنه إنسان. وأما الصورة التصويرية فلا خطأ فيها لمطابقتها للإنسان، فالشبح وإن كان حجرا في نفس الأمر إنسان في اعتقادنا، والخطأ راجع إلى هذا لا إلى الصورة التصويرية فتأمل.
قوله: (لكنه لا يشتمل…إلخ) خبر إن في قوله: “فإن…إلخ” كما تقدم.
وقوله: (غير اليقينيات من التصديقات) أي كالتصديقات الظنية والاعتقادية الصادقة بالتقليد إن كانت مطابقة للواقع، وبالجهل المركب إن كانت مخالفة للواقع.
قوله: (هذا ولكن ينبغي…إلخ) أي هذا ما قيل ولكن ينبغي…إلخ. فما تقدم نقله الشارح عن غيره ثم استدرك عليه بما سيذكره، فاندفع ما قد يتوهم من منافاة هذا لما تقدم.
قوله: (أن يحمل التجلي) أي في قولهم “صفة يتجلى بها…إلخ” وهو التعريف الأول.
وقوله: (على الانكشاف التام) أي دون الناقص.
وقوله: (الذي لا يشمل الظن) أي والتقليد والجهل المركب.
قوله: (لأن العلم…إلخ) علة لقوله “ينبغي…إلخ”.
وقوله: (عندهم) أي عند الأصوليين.
وقوله: (مقابل الظن) أي: والتقليد والجهل المركب كما تقدم.
للخلقِ ثلاثةٌ: الحواسُّ السليمةُ، والخبرُ الصادقُ، والعقلُ.
قال الشارح: (للخَلْقِ) أي المخلوق، من الملك والإنس والجن، بخلاف علم الخالق تعالى؛ فإنه لذاته لا لسبب من الأسباب. (ثَلاثَةٌ: الحَوَاسُّ السَّلِيمَةُ، وَالخَبَرُ الصَّادِقُ، وَالعَقْلُ) بحكم الاستقراء. ووجه الضبط: أن السبب إن كان من خارج فالخبر الصادق، وإلا: فإن كان آلة غير المدرك فالحواس، وإلافالعقل.
قال الخيالي:
قوله: (فإنه لذاته) أي ذاته تعالى كاف في حصول علمه وتعلقه بالمعلومات بلا حاجة إلى شيء يفضي إلى العلم وتعلقه.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي ذاته كاف…إلخ) فسر قوله: لذاته بهذا إشارة إلى أن ليس المراد بأن علمه لذاته أنه يترتب على ذاته الانكشاف والتميز من غير توسط صفة زائدة على ذاته كما ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة، ثم قيد الكفاية بقوله: بلا حاجة إلى شيء يفضي إلى العلم، وتعلقه المستفاد من قول الشارح: لا بسبب من الأسباب إشارة إلى أن معنى الكفاية أنه لا يحتاج في العلم وتعلقه إلى سبب مفض، لا أنه لا يحتاج إلى شيء أصلًا، وبهذا اندفع المناقشة التي أوردها بعض الفضلاء من أن كفاية الذات في تعلق العلم محل خدشة، إذ التعلق نسبة تتوقف على المنتسبين وهما العالم والمعلوم ههنا لأن توقفه على المعلوم إنما هو لكونه متعلقًا له لا أنه سبب مفض إليه، فيصح أن ذاته كاف في تعلقه بمعنى عدم الاحتياج إلى سبب مفض وإن كان يحتاج إلى متعلق.
قال الباجوري:
قوله: (للخلق) أي حال كون العلم ثابتا للخلق، والمراد بالخلق جميع المخلوقات المعتبرين، كما أشار إليه الشارح بقوله “من الملك…إلخ”.
قوله: (أي للمخلوق) أشار بذلك إلى أن الخلق، وإن كان مصدرا في الأصل بمعنى المخلوق مجازا مرسلا، والعلاقة التعلق، لكنه صار بعد ذلك حقيقة عرفية؛ ولذلك أتى الشارح في تفسيره بأي دون يعني.
قوله: (من الملك…إلخ) بيان للخلق المفسر بالمخلوق، وكان الأولى تقديم الإنس على الملك؛ لأن نوع الإنس أفضل من نوع الملك على الراجح.
قوله: (بخلاف علم الخالق تعالى) ظاهره أن علم الخالق خرج بقول المصنف: للخلق، وقد عرفت أنه خرج بالإضافة في قوله “وأسباب العلم” فقوله “للخلق” تأكيد.
قوله: (فإنه لذاته) أي فإن علم الخالق لذاته تعالى، فذاته كاف في حصول علمه وتعلقه بالمعلومات كما يستفاد من قول الشارح، لا لسبب من الأسباب. وبهذا اندفعت المناقشة التي أوردها بعض الفضلاء من أن كفاية الذات في تعلق العلم محل خدشة؛ إذ التعلق نسبة بين العالم والمعلوم؛ لأن توقفه على المعلوم إنما هو كونه متعلقا له؛ لأنه سبب مفض إليه. واعلم أن قوله “فإنه لذاته” مبني على طريقة الأعاجم، ومنهم الشارح وهي أن صفات المعاني ممكنة بذاتها، قديمة لذاته تعالى، فتكون ليست قديمة قدما ذاتيا وهو عدم المسبوقية بالغير؛ لأنها مسبوقة بالذات على هذه الطريقة فإن الذات اقتضتها. نعم هي قديمة قدما زمانيا وهو عدم المسبوقية بالعدم؛ لأنها لا أول لها ولا استحالة في قدم المممكن، إذا كان قديما بذات القديم. وطريقة غير الأعاجم كالسنوسي ومن تبعه أن صفات المعاني قديمة بذاتها فتكون قديمة قدما ذاتيا، كما أنها قديمة قدما زمانيا، وهذا هو الحق؛ لأن القول بإمكانها يلزمهم القول بإمكان أضدادها ولا يخفى ما فيه من القباحة، وقد عُد ذلك من نزغات السعد.
قوله: (لا لسبب من الأسباب) أي فلا أسباب له.
قوله: (ثلاثة) استفيد منه الحصر، كما سيشير إليه الشارح؛ لأن الاقتصار على الشيء في مقام بيان أسباب العلم يفيد حصرها في الثلاثة، وأتى بها مجملة ثم مفصلة؛ فإنه أجملها بقوله “ثلاثة” ثم فصلها بقوله “الحواس السليمة…إلخ”؛ لأن ذكر الشيء مجملا ثم مفصلا أوقع في النفس لتشوفها إليه.
قوله: (الحواس السليمة) قيدها بالسليمة؛ لأن غير السليمة كما في الأحول والصفراوي لا يوثق بمفاده، فلا يكون سببا للعلم. وجمع الحواس ليوافق قوله فيما يأتي: “والحواس خمس”.
قوله: (والخبر الصادق) أي مع العلم بصدقه وإلا فلا يفيد العلم وقيده بالصادق؛ لأن الكاذب ليس سببا للعلم. لا يقال أن الأمر والنهي الصادرين من الشارع يفيد أن العلم بالوجوب والحرمة، مع أن كلا منهما ليس خبرا؛ لأنا نقول المفيد للعلم بالوجوب والحرمة الخبر الضمني. فإن الأمر يستلزم الحكم بأن المأمور به واجب، والنهي يستلزم الحكم بأن المنهي عنه حرام، وحينئذ فالمراد بالخبر ما يشتمل الصريحي والضمني. وأفرد الخبر ليوافق قوله فيما يأتي: “والخبر الصادق…إلخ”.
قوله: (والعقل) أي السليم من نحو خبل وعته، فلو قيده بذلك لكان أولى؛ لأن غير السليم مما ذكر لا يفيد العلم.
قوله: (بحكم الاستقراء) بيان لمسند الحصر، فالمعنى أن حصر أسباب العلم في الثلاثة المذكورة ثبت بحكم الاستقراء لا بحكم العقل، فيكون الحصر المذكور حصرا استقرائيا لا حصرا عقليا، و”الاستقراء”: هو التتبع للأفراد ثم إن كان لجميع الأفراد فهو تام وإلا فهو ناقص. وفي قوله: “بحكم الاستقراء” استعارة مكنية حيث شبه الاستقراء بحاكم تشبيها مضمرا في النفس، وطوى لفظ المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الحكم فهو تخييل.
قوله: (ووجه الضبط…إلخ) توضيح للاستقراء والمراد من الضبط الحصر.
وقوله: (إن السبب) أي: سبب العلم.
وقوله: (إن كان من خارج) أي عمن قام به العلم.
وقوله: (فالخبر الصادق) أي فهو الخبر الصادق.
وقوله: (وإلا فإن كان…إلخ) أي وإلا يكن السبب من خارج، بأن كان من داخل بحيث يكون له تعلق تام بمن قام به العلم فإن كان…إلخ.
وقوله: (آلة غير المدرك) أي آلة للإدراك غير المدرك الذي هو العقل.
وقوله: (فالحواس) أي فإنها آلة للإدراك، وليست مدركة، لكن هذا قد ينافيه ما سبق من قوله “فيشتمل إدراك الحواس” فإنه يقتضي أنها مدركة إلا أن يحمل ما سبق على التجوز.
وقوله: (وإلا فالعقل) أي وإلا يكن السبب الداخل آلة غير المدرك، بأن كان غير آلة وهو المدرك. فالنفي منصب على المقيد والقيد معا لا على القيد فقط، وإن كان ذلك هو الغالب فيما إذا دخل النفي على مقيد بقيد؛ لأنه لو كان منصبا هنا على القيد فقط، لاقتضى أن العقل آلة ومدرك وفيه تناف، وإن أجيب عنه بأن في جعله مدركا تسمح؛ إذ المدرك حقيقة النفس، وإنما هو آلة للإدراك.
فإن قيل.
قال الشارح: فإن قيل: السببُ المؤثر في العلوم كلها هو الله تعالى، لأنها بخلقه وإيجاده من غير تأثير للحاسة. والخبر الصادق والعقل والسبب الظاهري كالنار للإحراق هو العقل لا غير، وإنما الحواس والأخبار آلات وطرق في الإدراك. والسببُ المفضي في الجملة بأن يخلقَ الله فينا العلم معه بطريق جري العادة ليشمل المدرك كالعقل والآلة كالحس والطريق كالخبر لا ينحصر في الثلاثة، بل هاهنا أشياء أخر، مثل: الوجدان والحدس والتجربة ونظر العقل بمعنى ترتيب المبادي والمقدمات.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل…إلخ) هذا سؤال وارد على قول المصنف “وأسباب العلم ثلاثة”، وحاصله أنه إن أراد السبب المؤثر فهو الله تعالى، فلا وجه لعد شيء من الثلاثة سببا للعلم، وإن أراد السبب الظاهري فهو العقل فقط، فلا وجه لذكر الحواس السليمة والخبر الصادق، وإن أراد السبب المفضي في الجملة على أي وجه كان فلا ينحصر في الثلاثة، وبالجملة فالسبب له معان ثلاثة لا يصلح شيء منها أن يكون مراد المصنف.
قوله: (السبب المؤثر في العلوم كلها هو الله تعالى) أي وحينئذ فلا وجه لعد شيء من الثلاثة سببا للعلم وفي إطلاق السبب على الله تعالى مؤاخذة؛ لأن أسماءه تعالى توقيفية إلا أن يقال إنه درج على طريقة من يجوز إطلاق ما لم يرد إذا لم يوهم نقصا.
قوله: (لأنها بخلقه وإيجاده) أي لأن العلوم حاصلة بخلقه تعالى إياها وإيجاده لها، وهذه علة للحكم بأن الله تعالى هو المؤثر فيها، وهو غير العلة؛ لأن المراد بها كون العلوم بخلقه وإيجاده في نفس الأمر. وبهذا اندفع ما قيل فيه أن هذه العلة عين المدعى.
وقوله: (من غير تأثير للحاسة والخبر والعقل) أي وإذا انتفى التأثير عنها فلا يصح جعلها أسبابا للعلم بالمعنى المذكور.
قوله: (والسبب الظاهري) أي للعلوم كلها. والمراد بالسبب الظاهري ما يعد سببا لظاهر الحال لا الحقيقة.
وقوله: (كالنار للإحراق) تنظير للسبب الظاهري للعلوم، فكما أن النار سبب ظاهري للإحراق، كذلك العقل سبب ظاهري للعلوم والتنظير تام، إن كان العلم من مقولة الفعل؛ لأن المتسبب عن كل من النار والعقل حينئذ فعل وغير تام، إن كان من مقولة الانفعال أو الكيف وهو التحقيق؛ لأن المتسبب عن النار فعل وعن العقل، إما انفعال أو كيف.
وقوله: (هو العقل) أي وحينئذ فلا وجه لذكر الحواس السليمة والخبر الصادق.
وقوله: (لا غير) تأكيد للحصر المستفاد من تعريف طرفي الجملة، سيما مع الإتيان بضمير الفصل.
قوله: (وإنما الحواس والأخبار آلات وطرق) فيه لف ونشر مرتب، فقوله آلات راجع لكل منهما وفي معنى اللام، وعبر بفي إشارة إلى أن تعلق الإدراك بتلك الآلات والطرق كتعلق الظرف بالمظروف لشدة تعلقه بها.
قوله: (والسبب المفضي) مبتدأ خبره قوله فيما يأتي: “لا ينحصر في الثلاثة”. والمراد بالسبب المفضي: السبب المؤدي للعلم؛ أي: الموصل له. وقوله: (في الجملة) أي بأي وجه كان من كونه مدركا أو طريقا أو أكثر.
قوله: (بأن يخلق الله تعالى العلم…إلخ) بيان لكونه مفضيا.
وقوله: (بطريقة جري العادة) أي لا بطريق الإيجاب فيجوز تخلفه.
قوله: (ليشمل المدرك…إلخ) علة لمحذوف، والتقدير: ويعتبر السبب المفضي في الجملة ليشمل المدرك…إلخ.
قوله: (كالعقل الكاف) استقصائية وكذا الآتية فيما بعده.
وقوله: (والآلة) عطف على المدرك، وكذا قوله: (والطريق).
قوله: (لا ينحصر في الثلاثة) أي وحينئذ فلا وجه للحصر فيها.
قوله: (بل ههنا) أي في هذا المقام.
وقوله: (أشياء أخر) أي تصلح أن تكون أسبابا مفضية للعلم.
قوله: (مثل…إلخ) علم منه عدم الحصر في المذكورات أيضا بل هناك غيرها كالحواس الباطنة التي أثبتها الحكماء.
قوله: (الوجدان) هو قوة باطنية يدرك بها الشخص الأحوال القائمة بنفسه كالجوع والعطش.
وقوله: (والحدس) هو ظهور المبادئ والمطالب للعقل دفعة واحدة، كما في العلم بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، فإن سببه الحدس بالمعنى المذكور؛ وبيان ذلك أن جرم القمر أسود، لكنه إذا بعد عن الشمس وقابلها حصل له نور من نور الشمس، وكلما زاد البعد والمقابلة زاد النور. فالبعد والمقابلة شيئا فشيئا هي المبادئ، وكون نور القمر مستفادا من نور الشمس هي المطالب. فإذا شوهدت تلك المبادئ والمطالب وظهرت للعقل، حصل العلم بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس.
وقوله: (والتجربة) هي تكرر ترتب شيء على شيء آخر، كتكرر ترتب الإسهال على شرب السقمونيا.
وقوله: (ونظر العقل) إن قيل لا حاجة لذكر النظر في الأشياء الزائدة على الثلاثة التي ذكرها المصنف؛ لأن من جملتها العقل وهو شامل لما إذا كان بنظر أولا، أجيب بأن المتبادر منه عند الإطلاق كما هنا، كونه سببا بدون نظر كما في البديهيات.
قوله: (بمعنى ترتيب المبادئ والمقدمات) أي لا بمعنى الفكر الذي هو حركة النفس في المعقولات، والمراد بالمبادئ الأمور المعلومة الموصلة إلى المجهول التصوري. وتلك الأمور: هي الكليات الخمس، وترتيبها: كأن يقدم الجنس على الفصل ويحتمل أن المراد بها الأمور المعلومة الموصلة إلى المجهول، تصوريا كان أو تصديقيا، فتكون المبادئ صادقة بالمعلومات التصورية والتصديقية. والمراد بالمقدمات: الأمور المعلومة الموصلة إلى المجهول التصديقي، وهي المعلومات التصديقية، وترتيبها: كأن تقدم الصغرى على الكبرى، وعطفها على المبادئ من عطف المغاير على الاحتمال الأول في المبادئ، ومن عطف الخاص على العام على الاحتمال الثاني فيها.
قلنا:
قال الشارح: قلنا: هذا على عادة المشايخ في الاقتصار على المقاصد، والإعراض عن تدقيقات الفلاسفة، فإنهم لمَّا وَجَدُوا بعض الإدراكات حاصلة عقيب استعمال الحواس الظاهرة التي لا شك فيها، سواء كانت من ذوي العقول أو غيرهم، جعلوا الحواسَّ أحدَ الأسباب.ولما كان معظم المعلومات الدينية مستفاداً من الخبر الصَّادِقِ جعلوا مسبباً آخر.ولما لم يثبت عندهم الحواس الباطنة المسماة بالحِسِّ المُشْترَك والوَهْم وغير ذلك ولم يتعلق لهم غرض بتفاصيل الحدسيات والتجريبات والبديهيات والنظريات، وكان مرجعُ الكُلِّ إلى العقل جعلوه سبباً ثالثاً يفضي إلى العلم بمجرد التفات أو انضمام حدس أو تجربة أو ترتيب مقدمات، فجعلوا السبب في العلم بأن لنا جوعاً وعطشاً، وأن الكل أعظم من الجزء، وأن نور القمر مستفاد من الشمس، وأن السقمونيا مسهل، وأن العالم حادث، هو العقل، وإن كان في البعض باستعانة الحس.
قال الخيالي:
قوله: (قلنا هذا على عادة المشايخ) حاصله اختيار الشق الأخير وبيان وجه الحصر.
قوله: (عن تدقيقات الفلاسفة) أي: فيما لا يفتقر إليه، فإن دأبهم تضييع أوقاتهم فيما لا يعنيهم.
قوله: (لما وجدوا بعض الإدراكات…إلخ) يعني أن الحس لظهوره وعمومه يستحق أن يعد أحد أسباب العلم الإنساني فقوله: “سواء كانت…إلخ” إشارة إلى عمومه.
قال السيالكوتي:
قوله: (اختيار للشق الأخير) وهو أن المراد بالسبب السبب المفضي في الجملة.
قوله: (أي فيما لا يفتقر إليه) إنما قال ذلك لأن لهم أيضًا تدقيقات لكن ذلك فيما يفتقر إليه وهو المسائل الشرعية التي تبنى عليها السعادة الدنيوية والأخروية.
قوله: (يعني أن…إلخ) رد لمولى زاده حيث قال: إنه جعل الحواس المجردة عن العقل كحواس البهائم سببًا للعلم.
قال الباجوري:
قوله: (قلنا…إلخ) حاصله اختيار الشق الأخير وهو السبب المفضي في الجملة، مع بيان وجه الحصر وهو أن المراد المقاصد من الأسباب دون التي ترجع إلى غيرها جريا على عادة المشايخ.
قوله: (هذا على عادة المشايخ) أي حصر أسباب العلم في الثلاثة المذكورة جار على ما اعتاده المشايخ، وهم المتقدمون من أهل السنة، فاسم الإشارة راجع للحصر في الثلاثة، والعادة بمعنى المعتاد.
وقوله: (في الاقتصار على المقاصد) بيان للعادة بمعنى المعتاد فـ”في” بمعنى البيانية والمراد بالمقاصد الأمور المقصودة دون غيرها.
قوله: (والإعراض عن تدقيقات الفلاسفة) أي فيما لا يفتقر إليه، فإن دأبهم تضييع أوقاتهم فيما لا يعنيهم، وأما ما يفتقر إليه من تدقيقاتهم في المسائل الشرعية فلا يعرضون عنها. وأشار بذلك إلى أنه لم يذكر الحواس الباطنة التي أثبتها الحكماء؛ لإعراض المشايخ عن تدقيقات الفلاسفة التي لا حاجة إليها.
قوله: (فإنهم…إلخ) غرضه بذلك كون الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل هي المقاصد دون غيرها، والضمير للمشايخ.
قوله: (لما وجدوا بعض الإدراكات…إلخ) يعني أن الحواس لظهورها وعدم الشك فيها كما أشار لذلك بقوله “الظاهرة التي لا شك فيها” ولعمومها كما أشار لذلك بقوله “سواء كانت…إلخ” جعلته أحد الأسباب. وبحث فيه بأنه لا دخل لعموم الحواس لغير ذوي العقول في جعلها أحد أسباب العلم للإنسان. وأجيب بأن المراد عمومه في جميع أفراد ذوي العقول الحاصل في ضمن العموم المذكور.
قوله: (حاصلة) المناسب أن يقول حاصلا نظرا للفظ البعض، إلا أن يقال إنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه.
قوله: (عقب استعمال الحواس) أي عقب صرفها في مدركاتها: كصرف حاسة البصر في المبصرات وحاسة السمع في المسموعات وهكذا. قوله: (الظاهرة) بخلاف الباطنة.
وقوله: (التي لا شك فيها) ليس احترازا عن الظاهرة التي فيها شك بل هو احتراز عن الباطنة، فإن فيها الشك فيكون تأكيدا للظاهرة.
قوله: (سواء كانت من ذوي العقول) أي الذين هم الإنس والجن والملائكة.
وقوله: (أو غيرهم) أي كالبهائم.
قوله: (جعلوا الحواس…إلخ) جواب لما.
قوله: (ولما كان…إلخ) يعني أن الخبر الصادق لاستفادة معظم العلوم الدينية منه جعل سببا آخر.
وقوله: (معظم المعلومات الدينية) أي كالحشر والنشر والميزان إلى غير ذلك من المسائل الكلامية، وكوجوب الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك من المسائل الفقهية وقيد بالمعظم؛ لأن غير المعظم مستفاد من العقل وهو ما كان دليله عقليا كصفات الله الثابتة بالدليل العقلي.
قوله: (مستفادا من الخبر الصادق) أي كالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قوله: (جعلوه…إلخ) جواب لما.
قوله: (ولما لم تثبت عندهم…إلخ) يعني أن العقل؛ لكونه يرجع إليه، ما زادوه على الثلاثة التي ذكرها المصنف جعل سببا ثالثا.
قوله: (الحواس الباطنة) أي التي أثبتها الحكماء حيث زعموا أن الدماغ ثلاثة بطون، أعظمها البطن الأول: وهو الذي مقدم الدماغ، ثم البطن الثالث: وهو الذي في مؤخر الدماغ، ثم البطن الثاني: وهو الذي في وسطه، فجعلوا في البطن الأول قوتين. الأول: الحس المشترك، وهي قوة ترسم فيها صور الجزئيات المحسوسة بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، فالحس المشترك بمنزلة حوض يصب فيه خمس أنابيب؛ لأن جميع ما أدركته الحواس الخمس الظاهرة تورده عليه؛ ولذلك سمي بالحس المشترك. والثانية: الخيال، وهي قوة تحفظ الصور التي أدركها الحس المشترك، فالخيال كالخزانة للحس المشترك، وجعلوا في البطن الثالث قوتين أيضا، الأولى: الوهم وهي قوة تدرك المعاني الجزئية المنتزعة من الصور المحسوسة كعداوة زيد وصداقة عمرو، والثانية: الحافظة وهي قوة تحفظ تلك المعاني، فالحافظة كالخزانة للوهم، وجعلوا في البطن الثاني قوة واحدة، وهي المتصرفة وتسمى المتخيلة وهي قوة تتصرف في الصور التي تأخذها من الحس المشترك، وفي المعاني التي تأخذها من الوهم بالتركيب والتفريق: كأن نركب رأس حمار على جثة زيد، وأن تفرق أجزاء ذات عمرو بعضها عن بعض وهكذا دائما، فلا تسكن نوما ولا يقظة. فتحصل من هذا أن شأن كل من الخيال والحافظة، الحفظ. وشأن كل من الحس المشترك والوهم، الإدراك، لكن الحس المشترك يدرك الصور المحسوسة، والوهم يدرك المعاني الجزئية المنتزعة من تلك الصور. وشأن المتصرفة التركيب والتحليل وأشار بعضهم لهذه القوى مع العقل في بيت فقال:
امنع شريكك عن خيالك وانصرف***عن وهمه واحفظ لذلك واعقلا
لكن هذه الحواس لم تثبت عند المشايخ؛ لأن أدلة الحكماء التي أثبتوها بها لم تتم عندهم.
قوله: (المسماة بالحس المشترك والوهم) صرح بهما؛ لأنهما المدركان عندهم بخلاف بقية الحواس الباطنة.
وقوله: (وغير ذلك) أي الذي هو الخيال والحافظة والمتخيلة.
قوله: (ولم يتعلق لهم غرض…إلخ) عطف على قوله: “لم يثبت عندهم…إلخ”.
وقوله: (بتفاصيل…إلخ) أي وأما أصل المذكورات فلابد منه، وكان الأولى أن يزيد الوجدانيات؛ لأنه ذكر الوجدان فيما سبق، وسيذكر ما يرجع إليه بقوله” بأن لنا جوعا وعطشا”.
قوله: (الحدسيات) أي العلوم المستفادة بالحدس.
وقوله: (والتجريبات) أي العلوم المستفادة بالتجربة.
وقوله: (والبديهيات) أي العلوم المستفادة بالبداهة.
وقوله: (والنظريات) أي العلوم المستفادة من النظر.
قوله: (وكان مرجع الكل إلى العقل) ظاهره أن ذلك راجع لكل من الحواس الباطنة على تقدير ثبوتها والحدسيات وما ذكر بعدها. ويحتمل أنه راجع للحدسيات وما ذكر بعدها فقط؛ لعدم ثبوت الحواس الباطنة حتى يكون مرجعها إلى العقل.
قوله: (جعلوه…إلخ) جواب لما، فالمعنى: لما لم تثبت عندهم الحواس الباطنة مع عدم التعلق بتفاصيل المذكورات، جعلوا العقل سببا ثالثا وتركوا الحواس الباطنة لعدم ثبوتها، واكتفوا بالعقل عن الحدس والتجربة والبداهة والنظر؛ لرجوعها إليه، فحينئذ يكون المراد بالعلم المسبب عن العقل: مطلق العلم الشامل للعلم الحاصل بالبداهة وبالوجدان والحدس والتجربة والنظر، لا خصوص العلم الحاصل بالبداهة، كما هو مقتضى السؤال السابق.
قوله: (يفضي إلى العلم) أي: يؤدي إليه.
وقوله: (بمجرد التفات) أي: في البديهيات.
وقوله: (أو بانضمام حدس) أي: في الحدسيات.
وقوله: (أو تجربة) أي: في التجريبات.
وقوله: (أو ترتيب مقدمات) أي في النظريات وكان الأولى أن يقول: “أو وجدان” أي في الوجدانيات.
قوله: (فجعلوا السبب…إلخ) قصد بهذا التمثيل إيضاح ما قاله من أنهم جعلوا السبب في المذكورات هو العقل.
قوله: (بأن لنا جوعا وعطشا) راجع للوجدانيات.
وقوله: (وأن الكل أعظم من الجزء) راجع للبديهيات.
وقوله: (وأن نور القمر مستفاد من نور الشمس) راجع للحدسيات.
وقوله: (وأن السقمونيا مسهل للصفراء) راجع للتجريبات.
وقوله: (وأن العلم حادث) راجع للنظريات.
قوله: (هو العقل) في محل النصب على أنه مفعول ثان لجعلوا.
قوله: (وإن كان في البعض باستعانة من الحس) أي: كالحدسيات، فإنه لابد من مشاهدة بعد القمر عن الشمس ومقابلته لها حتى يحكم العقل بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس، وكالتجريبات فإنه لابد من مشاهدة التكرر حتى يحكم العقل بأن الدواء الفلاني ينفع في الداء الفلاني.
فالحواسُّ خمسٌ: السمعُ، والبصرُ،
قال الشارح: (فالحَوَاسُّ) جمع حاسة، بمعنى القوة الحساسة (خمْسٌ)، بمعنى أن العقل حاكم بالضرورة بوجودها، وأما الحواسُّ الباطنة التي ثبتها الفلاسفة فلا تتم دلائلها على الأصول الإسلامية. (السَّمْعُ)، وهو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ، يدرك بها الأصوات بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية الصوت إلى الصماخ، بمعنى أن الله تعالى يخلق الإدراك في النفس عند ذلك. (والبَصَرُ)، وهو قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في الدماغ ثم تفترقان فتتأديان إلى العينين، يدرك بها الأضواء والألوان أو الأشكال والمقادير والحركات والحسن والقبح وغير ذلك مما يخلق الله تعالى إدراكها في النفس عند استعمال العبد تلك القوة.
قال الخيالي:
قوله: (فلا تتم دلائلها) فإنها مبنية على أن النفس لا تدرك الجزئيات المادية بالذات، وعلى أن الواحد لا يكون مبدأ لأثرين والكل باطل في الإسلام.
قوله: (يتلاقيان) إشارة إلى أنهما لا يتقاطعان على هيئة الصليب، بل يتصل العصب الأيمن بالأيسر ثم ينفذ الأيمن إلى العين اليمنى والأيسر إلى اليسرى.
قوله: (والحركات) لا يقال الحركة من الأعراض النسبية فكيف تدرك بالحس؟ لأنا نقول الحركة من الموجودات الخارجية بالاتفاق، ولزوم النسبة لها لا ينافي إدراكها بالحس، وما يقال: إن الحس إذا شاهد الجسم في المكانين في الآنين أدرك العقل منه الكونين وهو الحركة واللمس، لا يدركه في مكان فلا يدرك الحركة فليس بشيء؛ لأنه إدراك الشيء بواسطة إحساس الآخر ومثله لا يعد محسوسا وإلا يلزم أن يكون العمى محسوسا لتأدية الإحساس بشكل الأعمى إلى إدراك عماه.
قال السيالكوتي:
قوله: (فإنها مبنية على أن النفس…إلخ) اتفق المحققون على أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس الناطقة، وأن نسبة الإدراك إلى قواها كنسبة القطع إلى السكين، واختلفوا في أن صور الجزئيات المادية ترتسم فيها أو في آلاتها، فذهب جماعة إلى أن النفس ترتسم فيها صور الكليات ولا ترتسم فيها صور الجزئيات المادية، وإنما ارتسامها في آلاتها بناء على أنها بسيطة مجردة، وتكيفها بالصورة الجزئية ينافي بساطتها، فإدراك النفس للجزئيات ارتسامها في آلاتها، وليس هناك ارتسامان ارتسام بالذات في الآلات وارتسام بالواسطة في النفس الناطقة على ما توهم، وذهب جماعة إلى أن جميع الصور الكلية والجزئية إنما ترتسم في النفس الناطقة؛ لأنها المدركة للأشياء إلا أن إدراكها للجزئيات المادية بواسطة لا بذاتها، وذلك لا ينافي ارتسام الصور فيها، غاية ما في الباب أن الحواس ظرف لذلك الارتسام، مثلًا ما لم تفتح البصر لم يدرك الجزئي المبصر ولم ترتسم فيها صورته وإذا فتحت ارتسمت، وهذا هو الحق، فمن ذهب إلى الأول أثبت الحواس الباطنة ضرورة أنه لا بد لارتسام الجزئيات المادية المحسوسة بعد غيبوبتها وغير المحسوسة المنتزعة عنها من محال، ومن ذهب إلى الثاني نفاها.
قوله: (وعلى أن الواحد…إلخ) إذ على تقدير ثبوت أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد وأن الجزئيات لا ترتسم في النفس يلزمه القول بالحواس الباطنة لأن وجود الآثار المختلفة من اجتماع صور المحسوسات وحفظها وإدراك معاني الجزئيات وحفظها وتفصيلها وتركيبها يقتضي أن يكون لكل منها مصدر غير النفس، وهو الحس المشترك والخيال والوهم والحافظة والمتصرفة، وأما على تقدير بطلانها فيجوز أن تكون النفس الناطقة مبدأ لتلك الآثار المختلفة فلا حاجة إلى إثباتها.
قوله: (فيه إشارة) أي في قوله: يتلاقيان ثم يفترقان، فإن التلاقي والافتراق يشعران بعدم التقاطع وإن كان التلاقي متحققًا في صورة التقاطع أيضًا إذ المناسب حينئذ أن يقول: يتقاطعان فيتأديان إلى العينين بدون ذكر الافتراق كما لا يخفى، اعلم أنه بين في علم التشريح أنه قد نبتت من جانبي مقدم الدماغ من تحت محل الشم عصبتان مجوفتان متقاربتان حتى اتصلتا وصار تجويفهما واحدًا ثم تباعدتا إلى أن اتصلتا بالعينين، وذلك التجويف الذي في الملتقى أودع فيه القوة الباصرة، وتسمى مجمع النورين، واختلفوا في أن اتصالهما بطريق التقاطع بدون الانطباق بأن يتصل العصب الأيسر بالعين اليمنى والأيمن باليسرى فيحدث صورة الصليب، وهو أن يتقاطع خطان ويذهب كل منهما إلى جانب الآخر، أو بطريق التلاقي والانطباق كهيئة الدالين اللذين محدب كل منهما متصل بمحدب الآخر، فيتصل الأيمن بالعين اليمنى والأيسر باليسرى، والأكثرون ذهبوا إلى الأول، واختاره الشارح في شرح المقاصد.
قوله: (لايقال الحركة…إلخ) حاصله أن الحركة من الأعراض النسبية، فإنها هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبته إلى المكان، والمتكلمون أنكروا الأعراض النسبية وقالوا: إنها أمور اعتبارية ليس لها تحقق في الخارج أصلًا، فكيف تدرك بالحس إذ الإدراك الحسي فرع الوجود الخارجي؟ قال الفاضل المحشي: وفيه بحث لأن الاجتماع والافتراق والاتصال كلها من الأعراض النسبية مع أنهم قد عدوها من المبصرات فكون الشيء من الأعراض النسبية لا ينافي كونه من المبصرات، ولا يخفى أنه لا يدفع الاعتراض.
قوله: (لأنا نقول…إلخ) يعني أن المتكلمين وإن أنكروا وجود الأعراض النسبية لكنهم اعترفوا بوجود الحركة، إذ قد اتفقوا على أن وجود الأين منها، وسموه بالكون وقسموه بالحركة والسكون والاجتماع والافتراق، وقالوا: وجوده ضروري بشهادة الحس وكذا أنواعه الأربعة، إذ حاصلها عائد إلى الكون، والمميزات أمور اعتبارية لا حقيقية متنوعة نحو كونه مسبوقًا بكون آخر أو غير مسبوق، ونحو إمكان تخلل ثالث بينهما أو عدمه كما في الافتراق والاجتماع كذا في المواقف.
قوله: (ولزوم النسبة…إلخ) يعني أن لزوم النسبة والإضافة إلى المكانين والآنيين لها لا ينافي أن تكون الحركة المتصفة بها محسوسًا لجواز اتصاف الأمور المحسوسة بالأمور العدمية كاتصاف ذات الأعمى بالعمى، اعلم أنه قد اختلف في الأكوان، فقال بعضهم: إنها محسوسة ومن أنكر الأكوان فقد كابر حسه ومقتضى عقله، وقال بعضهم: إنها غير محسوسة، فإنا لا نشاهد إلا المتحرك والساكن والمجتمعين والمفترقين، وأما وصف الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فلا، فجعل الحركات من قبيل المبصرات إنما يصح على أحد المذهبين.
قوله: (ومايقال…إلخ) قائله مولانا صلاح الدينالرومي، أي ما يقال في توجيه قوله: والحركات ليندفع الاعتراض المذكور من أن معنى كون الحركة مبصرة أنه يحصل بعد مشاهدة الجسم في مكانين إدراك الحركة لا أنها نفسها مشاهدة فليس بشيء لأن إدراك الشيء كالحركة مثلًا بواسطة إحساس الآخر كالجسم لا يسمى إحساسًا، ولا يسمى ذلك الشيء المدرك محسوسًا وإلا لزم أن يعد العمى من المبصرات؛ لأنه يحصل بعد مشاهدة الأعمى أو إدراك عماه مع أنه نفي صرف فضلًا عن أن يكون محسوسًا، والضمير في قوله: وهو الحركة إما راجع إلى مجموع الكونين أو إلى الكون المذكور في ضمن الكونين، وأما قوله: واللمس لا يدرك الجسم…إلخ فمن تتمة ما يقال ودفع الاعتراض ويرد عليه، وهو أن يقال يلزم مما ذكرتم من معنى كون الحركة مبصرة أن تكون الحركة ملموسة أيضًا لأنه يحصل بعد ملامسة الجسم إدراك الحركة، فإن من لمس شيئًا متحرًكا مغمضًا عينيه أدرك حركته، ولذا ذهب الجبائي إلى أن الحركة والسكون مدركان بحاسة البصر واللمس، وحاصل الدفع أن اللمس لا يدرك الجسم في مكان ولا يقدر على بيان كيفية تمكنه بل يدرك وصوله إلى الملمس، فإذا تجدد الوصول اشتبه الحال بتجدد الحركة التي هي الكون في المكانين، بخلاف البصر فإنه يدرك الجسم في المكان ويقدر على بيان كيفية تمكنه، فيحصل منه إدراك الكونين، ولا يخفى أنه ليس بشيء؛ لأن إدراك الحركة بعد ملامسة الجسم المتحرك أمر ظاهر سواء قلنا بإدراك اللمس للجسم في مكان أو لا، فعلى هذا قوله: فلا يدرك الحركة على صيغة المجهول أي لا يحصل إدراك الحركة بسببه، أو على صيغة المعلوم والضمير للمس؛ أي: لا يكون سببًا لإدراكه، أو للعقل، وفي بعض النسخ: والحس لا يدركه في مكان…إلخ، فحينئذ يكون بيانًا لقوله أدرك العقل منه الحركة يعني إنما قلنا: أدرك العقل منه الكونين وهو الحركة؛ إذ الحس لا يدرك كون الجسم في مكان فلا يدرك الحس الحركة التي هي الكون المخصوص، فعلى هذا قوله: لا يدركه في مكان على حذف المضاف؛ أي: لا يدرك كون الجسم في مكان، والضمير في قوله: ومثله راجع إلى الشيء؛ يعني: الشيء المدرك بواسطة إحساس الآخر لا يعد محسوسًا كما لا يعد إدراكه إحساسًا.
قال الباجوري:
قوله: (فالحواس…إلخ) أي: إذا أردت تفصيل ما ذكر فالحواس…إلخ، فالفاء فاء الفصيحة وإنما لم يقيد هنا بالسليمة؛ لأن الحواس خمس وإن لم تكن سليمة.
قوله: (جمع حاسة بمعنى القوة الحساسة) أي لا بمعنى النفس ذات الإحساس. أشار بذلك إلى أن حاسة ليست اسم فاعل من الإحساس، بل هو اسم للقوة الحساسة، وبذلك اندفع ما يقال: كان الصواب أن يقول المصنف فالمُحِسَّات…إلخ، ويقول الشارح: جمع مُحِسَّة بمعنى القوة ذات الإحساس؛ لأن الماضي أحَسَّ، وحاصل الدفع أنه ليس المراد اسم الفاعل حتى يرد ما ذكر.
قوله: (خمس) خبر عن الحواس وهو يفيد حصر الحواس في الخمس؛ لأن الاقتصار على الشيء في مقام البيان يفيد الحصر.
قوله: (بمعنى أن العقل…إلخ) القصد به تصحيح حصر الحواس في الخمس؛ لأنه يبطله الحواس الباطنة التي يثبتها الفلاسفة. فأفاد الشارح أن الحصر في الخمس بالنظر للتي حكم العقل بالضرورة بوجودها وهي الحواس الظاهرة. فقوله: (بمعنى أن العقل…إلخ) يرجع لتقييد الموضوع وهو الحواس لا لتقييد المحمول وهو خمس كما هو ظاهر صنيعه؛ لأن تقييد المحمول بذلك لا ينفع في تصحيح الحصر وإنما ينفع فيه تقييد الموضوع به. فالمعنى: حال كون الحواس ملتبسة بمعنى أن العقل…إلخ. ولو قال الشارح عقب قول المصنف: فالحواس أي التي حكم العقل بالضرورة بوجودها لكان أولى.
قوله: (حاكم بالضرورة بوجودها) أي لظهورها والباء الأولى: للملابسة، والثانية: للتعدية، فليس في كلامه تعلق حرفي جر بمعنى واحد بعامل واحد.
قوله: (وأما الحواس الباطنة…إلخ) كان مقتضى المقابلة أن يقول بخلاف الحواس التي لم يحكم العقل بالضرورة بوجودها وهي الحواس الباطنة. قوله: (التي تثبتها الفلاسفة) أي دون جمهور المتكلمين.
قوله: (فلا تتم دلائلها…إلخ) أي لأنها مبنية على أن النفس لا تدرك الجزئيات المادية بالذات؛ وذلك لأن النفس مجردة عندهم. فلو أدركت الجزئيات المادية لكانت محلا للصور الجسمانية، فتكون أيضا جسمانية، هذا خلف ومبنية على أن الواحد لا يكون مبدأ لأثرين؛ وذلك لأنهم اعتقدوا أن الواحد لا يصدر عنه الأواحد. فلما تعددت الآثار التي هي إدراك الصور الجزئية وحفظها، وإدراك المعاني الجزئية وحفظها، والتصرف فيها، أثبتوا تلك الحواس ليكون كل واحدة له أثر من تلك الآثار، والكل باطل في الإسلام؛ لأن أهل الإسلام يقولون لا نسلم أن النفس مجردة، ولو سلمنا أنها مجردة لا نسلم أنها لو أدركت الجزئيات المادية، لكانت محلا للصور الجسمانية، ولو سلمنا ذلك لا نسلم أنها تكون حينئذ جسمانية، ويقولون: لا نسلم أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإنه تعالى واحد وقد صدر عنه عندنا آثار متعددة لا نهاية لها.
قوله: (على الأصول الإسلامية) أي القواعد المنسوبة إلى الإسلام لقول أهله بها، فقد قالوا: إن النفس تدرك الكليات والجزئيات لكن العقل آلة لإدراك الكليات، والحواس الظاهرة آلة لإدراك الجزئيات، وقالوا: أيضا إن الواحد يكون مبدأ لآثار كثيرة كيف لا يكون مبدأ لآثار كثيرة والموجودات الممكنة كلها مستندة إليه سبحانه وتعالى.
قوله: (السمع) بدأ به؛ لأن سببيته للعلم أكثر من البواقي.
قوله: (وهي قوة مودعة في العصب…إلخ) المراد بالقوة معنى قائم بغيره ومعنى كونها مودعة في العصب أنها موضوعة فيه.
وقوله: (المفروش في مُقَعَّر الصماخ) أي في باطنه، فإن الصماخ خرق الأذن وهو كالقبة له مُقَعَّرٌ وهو باطنه ومحدَّبٌ وهو ظاهره، والعصب مفروش في مُقَعَّده كالجلدة المفروشة على رأس الطبل.
قوله: (تدرك بها الأصوات) أي تدرك النفس بسببها الأصوات وكان الأولى أن يقول: “وما يتعلق بها”؛ إذ كيفيات الصوت من الحسن والقبح وغير ذلك مدركة بها أيضا.
قوله: (طريق وصول الهواء…إلخ) متعلق بتدرك وإضافة طريق لما بعده بيانية؛ أي: تدرك بطريق هو وصول الهواء…إلخ. والمتبادر من كلام الشارح حيث قال “بطريق وصول الهواء…إلخ” أن الهواء الذي يتكيف بكيفية الصوت هواء واحد يخرق الأهوية، ويصل إلى باطن الصماخ، وهو أحد القولين. وثانيهما: أن الهواء المذكور أهوية متعددة، فيتكيف الهواء الأول بتلك الكيفية ثم الهواء الذي يليه وهكذا حتى يصل إلى الهواء الراكد في الصماخ، لكن كل هواء إنما يتكيف بمثل الكيفية القائمة بالمجاور له لا بها نفسها؛ لأنها عرض والعرض لا ينتقل عن محله إلى غيره.
قوله: (المتكيف بكيفية الصوت) أي: المتصف بكيفية هي الصوت فالإضافة للبيان؛ لأن الصوت عرض وقد تقدم أن الكيفية عرض، والعرض لا يقوم بالعرض، فالصوت هو نفس الكيفية، وهذه الكيفية يخلقها الله تعالى عند التكلم أو عند حصول الفزع أو القلع عند أهل السنة، خلافا للحكماء القائلين بأنها بتأثير القرع والقلع لا بخلق الله تعالى.
قوله: (إلى الصماخ) متعلق بوصول وهو على تقدير مضاف، أي إلى مقعر الصماخ.
قوله: (بمعنى أن الله تعالى…إلخ) راجع لقوله “تدرك بها الأصوات” أي حال كونه ملتبسا بمعنى: أن الله تعالى…إلخ، لا بمعنى أن القوة المذكورة أثرت الإدراك عند الوصول المذكور كما يقول بذلك المعتزلة، ولا بمعنى أن القوة تصير النفس مستعدة؛ لأن يفيض الفاعل عليها الإدراك كما يقول بذلك الفلاسفة. والحق خلاف المذهبين وكذا يقال فيما يأتي.
قوله: (يخلق الإدراك في النفس عند ذلك) أي يخلق إدراك الأصوات في النفس الناطقة عند الوصول المذكور، لكن بطريق جري العادة الإلهية فيجوز تخلف ذلك؛ لما علمت من أنه بطريق جري العادة.
قوله: (والبصر) ثنى به لأنه يلي السمع في السببية للعلم.
قوله: (وهي قوة مودعة في العصبتين) المراد بالقوة معنى قائم بغيره ،والمراد بكونها مودعة في العصبتين أنها موضوعة فيهما وهما في مقدم الدماغ. وقوله: (المجوفتين) أي كتجويف الدالين.
وقوله: (اللتين تتلاقيان ثم تفترقان) أي تجتمعان في مقدم الدماغ ثم ترجعان، بحيث يكونان كهيئة دالين محدب كل منهما إلى محدب الأخرى. هكذا: >< ففيه إشارة إلى أنهما لا يتقاطعان على هيئة الصليب بل يتصل العصب الأيمن بالأيسر، ثم ينفذ الأيمن إلى العين اليمنى، والأيسر إلى اليسرى وهذا مذهب جاليونوس، وذهب أكثر الحكماء إلى أنهما يتقاطعان تقاطعا صليبيا وصورته هكذا: قال بعضهم: وعبارة الشارح صالحة للمذهبين.أ.ه. لكن المتبادر منها المذهب الأول.
قوله: (فتتأديان إلى العينين) أي تتصلان بهما بدون تقاطع صليبي، كما هو قول جاليونوس الذي جرى عليه الشارح أو به، كما هو قول أكثر الحكماء.
قوله: (تدرك بها) أي تدرك النفس بسببها الأضواء، أي كضوء الشمس وضوء القمر.
وقوله: (والألوان) أي كالبياض والسواد.
وقوله: (والأشكال) أي كشكل الدائرة والكرة، والشكل هو الهيئة الحاصلة للسطح.
وقوله: (والمقادير) أي كالطول والعرض والمقدار كم متصل قارّ الذات، ثم إن قبل القسمة في جهة واحدة فهو الخط وهو الامتداد الطولي القائم بالجسم الطبيعي، وإن قبلها في جهتين فهو السطح، وهو مجموع الامتداد الطولي والامتداد العرضي القائمين بالجسم الطبيعي، وإن قبلها في الجهات الثلاث فهو الجسم التعليمي، وهو مجموع الامتدادات الثلاثة: الطولي والعرضي والعمقي القائمة بالجسم الطبيعي. وخرج بالكم الكيف: كالبياض، وبالمتصل المنفصل: كالاثنين، وبقارّ الذات غير قارّ الذات: كالزمان، فلا يسمى شيء من ذلك مقدارا. وجعل الأشكال والمقادير من المبصرات ظاهر على كلام الحكماء؛ لأنهما من الأعراض وهي عندهم موجودة في الخارج، وأما على كلام المتكلمين فغير ظاهر؛ لأنهما من الأمور الاعتبارية وهي عندهم غير موجودة في الخارج. اللهم إلا أن يقال إنه أراد بالأشكال والمقادير الأجزاء الجوهرية وهي موجودة في الخارج.
قوله: (والحركات) والمشهور أن الحركة كونان في آنين في مكانين، وقيل: إنها الكون الأول في المكان الثاني لا يقال الحركة من الأعراض النسبية؛ لأنها هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبته إلى الزمان والمكان، فيكف تدرك بالحس، مع أن المتكلمين أنكروا وجود الأعراض النسبية في الخارج، والإدراك بالحس فرع الوجود الخارجي؛ لأنا نقول الحركة من الموجودات الخارجية بالاتفاق بين الحكماء والمتكلمين؛ لأنها قسم من الأين الذي اتفق المتكلمون والحكماء على وجوده بأقسامه الأربعة التي هي: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فالحكماء يقولون: إن الأعراض النسبية أمور وجودية، والمتكلمون يقولون: إنها أمور اعتبارية لكنهم يستثنون منها الأين الذي من أقسامه: الحركة ولزوم النسبة لها؛ لكونها هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبته إلى الزمان والمكان لا ينافي إدراكها بالحس؛ لجواز اتصاف الأمور المحسوسة بالأمور العدمية كاتصاف الأعمى بالعمى. وقال بعضهم في توجيه كلام الشارح: إن الحس إذا شاهد الجسم في مكانين، أدرك العقل منه الكونين وهو الحركة فمعنى كون الحركات محسوسة أنها تدرك بالعقل بعد مشاهدة الحس للجسم في مكانين، فورد عليه أن من لمس الجسم في مكانين أدرك العقل منه الكونين وهو الحركة، فيلزم على هذا التوجيه أن تكون الحركة ملموسة، فدفع ذلك بأن اللمس لا يدرك الجسم في مكان فلا يدرك الحركة. ورد هذا التوجيه بأنه ليس بشيء؛ لأن الحركات مدركة عليه بواسطة إحساس الجسم، ومثل ذلك لا يعد محسوسا، وإلا لزم أن يكون العمى محسوسا؛ لتأدية الإحساس بشكل الأعمى إلى إدراك عماه، فإن الحس إذا شاهد شكل الأعمى أدرك العقل عماه، مع أنه عدمٌ صِرفٌ، فيكف يكون محسوسا؟ وبالجملة ففي كون الحركة محسوسة، ومثلها السكون والاجتماع والافتراق مذهبان. أحدهما: أنها محسوسة؛ لأنها موجودة في الخارج باتفاق المتكلمين والحكماء وثانيهما: أنها غير محسوسة؛ لأنا لا نشاهد إلا المتحرك والساكن والمجتمعين والمفترقين، وأما الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فلا نشاهدها. وهذا هو الأقرب، وإن كان كلام العلامة الخيالي مبنيا على الأول.
قوله: (والحسن والقبيح) أي المتصف بهما الشخص. والأول: عبارة عن مجموع الشكل واللون المتناسبين. والثاني: عبارة عن مجموع الشكل واللون غير المتناسبين.
قوله: (وغير ذلك مما يخلق الله تعالى إدراكها…إلخ) وغير ما ذكر من المدركات التي يخلق الله تعالى إدراكها…إلخ: كالافتراق والاجتماع والسكون والظلمة والضحك والبكاء والطلاقة والعبوسة والقلة والكثرة إلى غير ذلك، وأشار بقوله “مما يخلق الله تعالى إدراكها” أن حصول الإدراك المذكور بمحض خلق الله تعالى من غير توقف على انطباع صورة وخروج شعاع وغير ذلك.
وقوله: (عند استعمال العبد تلك القوة) أي عند صرفه لها في هذه الأمور.
والشمُّ، والذوقُ، واللمسُ
قال الشارح: (والشَّمُّ)، وهو قوة مودعةٌ في الزائدتين الناتئتين من مقدم الدماغ الشبهتين بحلمتي الثدي، تدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم. (والذوق) وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم بمخالطة الرطوبة اللعابية التي في الفم بالمطعوم ووصولها إلى العصب). (واللَّمْسُّ)، وهي قوة مثبتةٌ في جميع البدن يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ونحو ذلك عند التماس والاتصال به.
قال الباجوري:
قوله: (والشم) ثلث به؛ لأنه يلي البصر في سببيته للعلم.
قوله: (وهي قوة مودعة في الزائدتين…إلخ) أي معنى موضوع في العصبتين الزائدتين…إلخ.
وقوله: (الناتئتين) بتاء مثناة فوقية بعد الألف التي بعد النون ثم همزة ثم تاء مثناة فوقية ثم ياء مثناة تحتية: أي المرتفعتين من النتوء، وهو الارتفاع. وفي بعض النسخ “النابتتين” بباء موحدة بعد الألف التي بعد النون ثم مثناة فوقية ثم مثلها ثم ياء مثناة تحتية، أي: الخارجتين من النبات وهو الخروج.
وقوله: ( في مقدم الدماغ) أي عند منتهى أصل قصبة الأنف.
وقوله: (الشبيهين بحلمتي الثدي) كان الأولى أن يقول: “الشبيهتين بحلمتي الثديين” إذ كل ثدي إنما له حلمة واحدة لا حلمتان، وأجيب بأن المراد جنس الثدي الصادق بالاثنين.
قوله: (تدرك بها) أي تدرك النفس بسببها بمعنى أن الله يخلق الإدراك في النفس. وسكت الشارح عن التنبيه على ذلك هنا وفيما بعده من الذوق واللمس؛ استغناء بما ذكره في السمع والبصر.
وقوله: (الروائح) أي كرائحة المسك ورائحة العنبر.
قوله: (بطريق وصول الهواء…إلخ) متعلق بتدرك، وإضافة طريق لما بعده بيانية، أي: بطريق هو وصول الهواء…إلخ. والمتبادر من كلام الشارح حيث قال “بطريق وصول الهواء…إلخ” أن الهواء الذي يتكيف بكيفية ذي الرائحة هواء واحد يخرق الأهوية ويصل إلى الخيشوم، وهو أحد قولين كما تقدم. وقال بعضهم: لا يخلو الهواء المجاور لذي الرائحة عن مداخلة أجزاء كثيرة متخللة فيه، فيحمل الهواء تلك الأجزاء إلى أن يوصلها إلى الخيشوم، وعلى هذا فالهواء ليس متكيفا بكيفية ذي الرائحة؛ لأنها ليست قائمة به بل بالأجزاء المذكورة والحق ما تقدم. قوله: (المتكيف بكيفية ذي الرائحة) أي المتصف بكيفية صاحب الرائحة، ولابد من تقدير مضاف أي بمثل كيفية ذلك؛ لأن الكيفية عرض، وهو لا ينتقل عن محله إلى غيره كما تقدم.
قوله: (إلى الخيشوم) أي أقصى الأنف أو مجمع الزائدتين المذكورتين.
قوله: (والذوق) أي القوة الذائقة.
قوله: (وهي قوة منبثة في العصب…إلخ) أي معنى منتشر في العصب…إلخ، وعدل هنا وفي تفسير اللمس عن قوله “مودعة” كما قال فيما سبق؛ إشارة إلى انبساط القوة الذائقة في العصب المذكور، وانبساط اللمس في جميع البدن دون بقية الحواس.
قوله: (المفروش على جرم اللسان) أي المجعول على سطحه الأعلى، ومن هذا يؤخذ أنه لا يدرك بما تحت اللسان؛ لعدم وجود القوة فيه. قوله: (تدرك بها) أي تدرك النفس بسببها، بمعنى أن الله يخلق الإدراك في النفس كما تقدم.
وقوله: (الطعوم) أي كالحلاوة والمرارة والطَعم بفتح الطاء والكيفية القائمة بالمطعوم، وأما الطُعم بضم الطاء فهو المطعوم.
قوله: (بمخالطة الرطوبة…إلخ) متعلق بتدرك والباء سببية، فالرطوبة المذكورة هنا بمنزلة الهواء في الشم، فتتكيف بكيفية المطعوم وتصل إلى العصب المذكور أو تتحلل أجزاء من المطعوم في تلك الرطوبة، وتحملها إلى أن توصلها إلى ذلك العصب على قياس ما قيل في الشم.
وقوله: (التي في الفم) صفة كاشفة، وفائدتها الإشارة إلى أن الرطوبة المذكورة ليست في محل مخصوص من الفم.
وقوله: (بالمطعوم) متعلق بمخالطة بمعنى الاختلاط.
قوله: (ووصولها…إلخ) عطف على مخالطة.
وقوله: (إلى العصب) أي العصب المذكور وهو المفروش على جرم اللسان. فـ”أل” للعهد الذكري.
قوله: (واللمس) أي القوة اللامسة.
قوله: (وهي قوة منبثة) أي معنى منتشر.
وقوله: (في جميع البدن) أي جميع ظاهره وكذا باطنه إلا الكليتين والرئة والطحال والكبد والعظم. والحكمة في كون هذه القوة منبثة في جميع البدن، حفظه عما يتضرر به من الحر والبرد وغيرهما.
قوله: (تدرك بها) أي تدرك النفس بسببها بمعنى: أن الله يخلق الإدراك في النفس كما تقدم.
وقوله: (الحرارة) أي كحرارة النار.
و(البرودة) أي كبرودة الماء.
وقوله: (والرطوبة) أي كرطوبة العجين.
وقوله: (واليبوسة) أي كيبوسة الحجر.
وقوله: (ونحو ذلك) أي كالليونة والصلابة والنعومة والخشونة واللطافة والكثافة.
قوله: (عند التماس والاتصال به) أي عند تماس الملوس واتصاله بالبدن. ولما كان التماس يشعر بالقصد، عطف عليه الاتصال عطف تفسير، سواء كان الاتصال على وجه القصد أم لا. ولا يرد أنه قد تدرك حرارة النار عند القرب منها بدون التماس والاتصال؛ لأن الحرارة المدركة في هذه الصورة حرارة الهواء المجاور للنار، وقد حصل التماس والاتصال بينه وبين البدن.
وبكل حاسةٍ منها يُوقف على ما وُضِعَت هي له: كالسمعِ، والذوقِ، والشمِّ
قال الشارح: (وبكُلِّ حَاسَّةٍ مِنهَا)، أي الحواس الخمس (يُوقَفُ) أي يطلع (عَلَى مَا وُضِعَتْ هِيَ) أي تلك الحاسة (لَهُ). يعني أن الله تعالى قد خَلَقَ كُلاَّ من تلك الحواس لإدراك أشياء مخصوصة، كالسمع للأصوات والذوق للمطعوم والشم للروائح، لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى.وأما أنه هل يجوز أو يمتنع ذلك ؟ ففيه خلاف، والحقُّ الجَوَاز، لما أن ذلك بمحضِ خلق الله من غير تأثير للحواس، فلا يمتنع أن يخلق الله عقيب صرف الباصرة إدراك الأصوات مثلاً. فإن قيل: أليست الذائقة تُدرَكُ بها حلاوة الشيء وحرارته معاً ؟ قلنا: لا، بل الحلاوة تدرك بالذوق، والحرارة باللمس الموجود في الفم واللسان.
قال الخيالي:
قوله: (لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى) إشارة إلى أن تقديم قوله: “بكل حاسة” على متعلقه؛ أعني: قوله: ” يوقف” للاختصاص.
قال السيالكوتي:
قوله: (إشارة إلى تقديم قوله…إلخ) كما بين في علم المعاني من أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص، قال المحشي المدقق: المستفاد من التقديم المذكور هو أنه يدرك ما وضع كل حاسة له بها، لا بغيرها لا، ما ذكر من أنه لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى على ما لا يخفى، والفرق ظاهر لكنهما متلازمان.
قال الباجوري:
قوله: (وبكل حاسة منه…إلخ) تقديم قوله “بكل حاسة” على متعلقه؛ أعني: قوله “يوقف” للاختصاص كما يشير له قول الشارح “لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى” لكن لا يخفى أن المستفاد من كلام المصنف: قصر إدراك ما وضعت الحاسة له على تلك الحاسة، فلا يتعداها إلى غيرها من الحواس؛ لأن معناه أنه يدرك ما وضعت كل حاسة له بها لا بغيرها. والمستفاد من كلام الشارح: قصر الحاسة على إدراك ما وضعت له فلا تتعداه إلى غيره من إدراك ما وضعت له، وهما متلازمان.
قوله: (أي من الحواس الخمس) أي الظاهرة فإنها المذكورة في كلامه.
قوله: (يوقف) من باب الأفعال فهو من قولهم: أوقفت فلانا على كذا أي أطلعته عليه، كما أشار إليه الشارح بقوله “أي يطلع” وحينئذ يكون المعنى: وبكل حاسة من تلك الحواس يطلع المولى من وجدت فيه على ما وضعت له، أي: يخلق فيه إدراكه بها فالمراد بالاطلاع خلق الإدراك.
وقوله: (على ما وضعت هي…إلخ) أي: على معنى خلقت هي…إلخ، أو على المعنى الذي خلقت هي…إلخ. فما: نكرة موصوفة واقعة على معنى، أو اسم موصول بمعنى الذي، وتكون حينئذ صفة لموصوف محذوف. وإنما أبرز الضمير لجريان الصفة أو الصلة على غير من هي له. والمراد بالوضع: الخلق، كما يعلم من كلام الشارح.
وقوله: (أي تلك الحاسة) أشار بذلك إلى أن الضمير عائد على المضاف إليه؛ جريا على ما اشتهر من أن الضمير يعود على المضاف، ما لم يكن لفظ كل أو بعض، فيعود على المضاف إليه. فما قاله بعضهم من أنه عائد على كل؛ لأن المحدث عنه، مخالف لما اشتهر.
وقوله: (له) أي لإدراكه فهو على حذف مضاف كما أشار إليه الشارح.
قوله: (يعني أن الله تعالى قد خلق…إلخ) لما كان في كلام المصنف غموض وخفاء، أتى الشارح بـ”يعني”. وإنما لم يصرح المصنف بإسناد ذلك لله تعالى؛ للعلم بأنه الموجد لكل فعل.
وقوله: (لإدراك أشياء مخصوصة) أي كالأصوات بالنسبة للسمع والملموسات بالنسبة للمس والطعوم بالنسبة للذوق وهكذا.
وقوله: (كالسمع للأصوات) أي كالسمع لإدراك الأصوات.
وقوله: (والذوق للطعوم) أي والذوق المخلوق لإدراك الطعوم.
وقوله: (والشم للروائح) أي والشم المخلوق لإدراك الروائح.
قوله: (لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى) أي لا يدرك بحاسة من الحواس ما يدرك بالحاسة الأخرى، فلا يدرك بالذوق ما يدرك بالسمع وهكذا. والمنفى إنما هو وقوع الإدراك المذكور بحسب ما جرت به العادة الإلهية بدليل قوله: “وأما أنه هل يجوز…إلخ”. وقد تقدم أنه أشار بقوله “لا يدرك بها ما يدرك بالحاسة الأخرى” إلى أن تقديم قول المصنف بكل حاسة على متعلقه؛ أعني: قوله: “يوقف” للاختصاص، وقد عرفت ما فيه.
قوله: (وأما أنه هل يجوز أو يمتنع ذلك) أي في هذا في الوقوع بحسب ما جرت به العادة الإلهية، وأما أنه هل يجوز عقلا أو يمتنع عقلا أن يدرك بحاسة من الحواس ما يدرك بالأخرى.
وقوله: (ففيه خلاف) أي ففي جواب هذا الاستفهام خلاف، وجمهور الحكماء على الامتناع.
قوله: (والحق الجواز) أي عقلا وهو الذي عليه جمهور المتكلمين، ولكون الحق الجواز قال المصنف: “وبكل حاسة منها يوقف…إلخ” ولم يقل: “يمكن أن يوقف…إلخ”؛ لئلا يلزم حصر الإمكان مع أن الحق الجواز كما علمت.
قوله: (لما أن ذلك…إلخ) علة لقوله “والحق الجواز” و”ما” زائدة للتأكيد، واسم الإشارة للإدراك المذكور.
وقوله: (بمحض خلق الله تعالى) أي بخلقه المحض أي الخالص الذي لا يشوبه تأثير من الغير. فقوله “من غير تأثير…إلخ” توضيح لقوله “بمحض خلق الله”.
قوله: (من غير تأثير للحواس) أي على وجه الإيجاد كما هو رأي المعتزلة، ولا على وجه الإعداد كما هو رأي الفلاسفة.
قوله: (فلا يمتنع أن يخلق الله تعالى…إلخ) مفرع على قوله: “والحق الجواز” مع تعليله المذكور.
قوله: (فإن قيل…إلخ) حاصل هذا السؤال: منع الحصر في كلام المصنف وفي كلام الشارح؛ لأن الذائقة تدرك حلاوة الشيء وحرارته معا، فقد أدركت ما أدركته قوة اللمس.
قوله: (أليست الذائقة…إلخ) يحتمل أن يكون الاستفهام للتقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرف، ويحتمل أن يكون للإنكار وهو للنفي، ونفي النفي إثبات. فالمعنى على الأول: أقر بما تعرف وهو أن الذائقة تدرك حلاوة الشيء وحرارته معا، وعلى الثاني: ثبت أن الذائقة تدرك حلاوة الشيء وحرارته معا.
قوله: (قلنا…إلخ) حاصل هذا الجواب: عدم تسليم أن الذائقة تدرك حلاوة الشيء وحرارته معا، فقوله: “لا” أي لا نسلم أن الذائقة تدرك حلاوة الشيء وحرارته معا.
وقوله: (بل الحلاوة تدرك بالذوق والحرارة باللمس) أي فكل من الحلاوة والحرارة يدرك بحاسته.
وقوله: (الموجود في الفم واللسان) أي لما مر من أن “اللمس قوة منبثة في جميع البدن” أي في جميع ظاهره وأكثر باطنه على ما سبق.
والخبرُ الصادقُ
قال الشارح: (والخَبَرُ الصَّادِقُ) أي: المطابق للواقع، فإن الخبر كلامٌ يكون لنسبته خارج تطابقه تلك النسبة فيكون صادقاً، أو لا تطابقه فيكون كاذباً، فالصدق والكذب على هذا من أوصاف الخبر، وقد يقالان بمعنى الإخبار عن الشيء على ما هو به، ولا على ما هو به، أي الإعلام بنسبة تامة تطابق الواقع أو لا تطابقه، فيكونان من صفات المخبر فمن ههنا يقع في بعض الكتب “الخبر الصادق” بالوصف، وفي بعضها “خبر الصادق” بالإضافة.
قال الخيالي:
قوله: (فإن الخبر كلام) أي: مركب تام فلا نقض بمثل زيد الفاضل.
قوله: (بمعنى الإخبار عن الشيء على ما هو به) أي: على وجه ذلك الشيء متلبس بذلك الوجه، والمراد: بالشيء، إما النسبة وهو الأوفق للمعنى، فحينئذ كلمة “ما” عبارة عن الإثبات والنفي، وإما الموضوع، وهو الأوفق للفظ، فإن المخبر عنه هو الموضوع، ويقال: أخبرت عن زيد ف”ما” عبارة عن ثبوت المحمول أو انتفائه والشارح اختار الأول في شرح المفتاح وإليه يشير قوله: ههنا أي: الإعلام بنسبة.
قال السيالكوتي:
قوله: (أي مركب تام…إلخ) يعني ليس المراد من الكلام ما هو المستعمل في الأنام والمتبادر عند الخواص والعوام؛ أعني: ما يتكلم به، بل المراد ما هو مصطلح النحاة؛ أعني: ما تضمن كلمتين بالإسناد، وإلا لزم أن يكون المركب التقييدي خبرًا إذ يصدق عليه أنه كلام لنسبته خارج تطابقه تلك النسبة أو لا تطابقه، فإن قولنا: زيد الفاضل كلام لنسبته خارج، وهو اتصاف زيد بالفاضلية في نفس الأمر أو عدمه قد تطابقه تلك النسبة وقد لا تطابقه، وكأن الفاضل الجلبي ظن أن ليس للكلام معنى يشمل المركب الوصفي وغيره، فلا معنى للانتقاض ولعمري إن بعض الظن إثم، قيل: لا حاجة إلى تفسير الكلام بالمركب التام لخروج المركب التقييدي بقوله: لنسبته، إذ المراد بها الإيقاع والانتزاع، وهذا مبني على أن الألفاظ موضوعة للصور الذهنية لكنه خلاف مرضي الشارح.
قوله: (أي على وجه ذلك الشيء متلبس بذلك الوجه) أي في نفس الأمر مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر، بيانه أن الكلام الذي دل على وقوع النسبة بين الشيئين إما بالثبوت بأن هذا ذاك أو بالنفي بأن هذا ليس ذاك، فمع قطع النظر عما في الذهن من النسبة لا بد وأن يكون بينهما نسبة ثبوتية أو سلبية؛ لأنه إما أن يكون هذا ذاك أو لم يكن، فالإخبار عن تلك النسبة على وجه تتصف به النسبة في حد ذاته من الثبوت أو الانتفاء صدق، والإخبار على خلاف ذلك كذب.
قوله: (وهو الأوفق) إذ المخبر به في الحقيقة هو النسبة لا ذات الموضوع أو المحمول.
قوله: (عبارة عن الإثبات) أي كونها مثبتة أو منفية بمعنى المصدر المبني للمفعول، إذ هو الذي يتصف به النسبة كما لا يخفى.
قال الباجوري:
قوله: (والخبر الصادق) أي جزما لا احتمالا؛ إذ الكلام في الخبر الصادق الموجب للعلم، ولا يكون موجبا للعلم إلا الصادق جزما، ولذلك حصره في النوعين الآتيين.
قوله: (أي المطابق للواقع) تفسير للصادق، والمراد المطابق جزما لا احتمالا لما تقدم. والمطابقة حقيقة إنما هي بين مدلول الخبر والواقع لا بين ذات الخبر والواقع. فقوله “أي المطابق للواقع” أي المطابق مدلوله للواقع، والمراد بمدلوله النسبة الحكمية التي دل عليها الخبر ، وهي وقوع النسبة المعتبرة بين الشيئين في القضية الموجبة، واللاوقوعها في القضية السالبة. والمراد بالواقع الوقوع واللاوقوع في نفس الأمر، فالوقوع واللاوقوع من حيث إنه مدلول الخبر مطابِق بكسر الباء، والوقوع واللاوقوع من تحققه في نفس الأمر مطابَق بفتح الباء.
قوله: (فإن الخبر…إلخ) أي: فإن الخبر من حيث هو…إلخ وهذا تعليل للتفسير الصادق بالمطابق للواقع، وجعله بعضهم تعليلا للتقييد بالصادق، وما قلنا أقرب.
وقوله: (كلام) أي مركب تام: وهو ما تضمن كلمتين بالإسناد، فالمراد بالكلام: ما اصطلح عليه النحويون، لا ما تكلم به، وحينئذ فلا نقض بمثل زيد الفاضل؛ لأنه ليس كلاما اصطلاحيا، وإن كان كلاما لغويا، فلو أريد الكلام اللغوي لزم النقض بمثل: زيد الفاضل؛ إذ يصدق عليه أنه كلام…إلخ.
قوله: (يكون لنسبته خارج) المراد بنسبته النسبة الحكمية: وهي الوقوع في القضية الموجبة، واللاوقوع في القضية السالبة. والمراد بالخارج النسبة الخارجية : وهي الوقوع واللاوقوع في نفس الأمر. وهذا هو المعبر عنه فيما تقدم بالواقع فالخارج والواقع بمعنى واحد وهو النسبة المذكورة. وعلم من ذلك أن المطابقة بين الوقوع واللاوقوع من حيث كونه مدلول الخبر، والوقوع واللاوقوع من حيث كونه متحققا في نفس الأمر.
وقوله: (تطابقه تلك النسبة) أي تطابق الخارج النسبة المذكورة في قوله: “يكون لنسبته”
وقوله: (فيكون صادقا) أي: فيكون ذلك الكلام صادقا بسبب مطابقة نسبته للخارج، وعلم من ذلك أن الصدق مطابقته نسبة الخبر للخارج. وقوله: (أو لا تطابقه) أي: لا تطابق تلك النسبة الخارج.
وقوله: (فيكون كاذبا) أي: فيكون ذلك الكلام كاذبا بسبب عدم مطابقة نسبته للخارج وعلم من ذلك أن الكذب عدم مطابقة نسبة الخبر للخارج.
قوله: (فالصدق والكذب…إلخ) تفريع على قوله: “فإن الخبر يكون لنسبته…إلخ”
وقوله: (على هذا) أي كون الكلام صادقا باعتبار مطابقة نسبته للخارج، وكاذبا باعتبار عدم مطابقتها له.
وقوله: (من أوصاف الخبر ) أي فيقال: خبر صادق وخبر كاذب، والصادق معناه المتصف بالصدق، والكاذب معناه المتصف بالكذب.
قوله: (وقد يقالان…إلخ) مقابل لما علم مما تقدم، وهو أنهما يقالان بمعنى مطابقة نسبة الخبر للخارج وعدم مطابقتهما له، ويؤخذ من التعبير بـ”قد” أن هذا الإطلاق قليل، وضمير التثنية للصدق والكذب.
وقوله: (بمعنى الإخبار…إلخ) أي بمعنى هو الإخبار…إلخ، فالإضافة للبيان والباء بمعنى “على” ويقالان بمعنى يطلقان. فحاصل المعنى: قد يطلقان على معنى هو الإخبار…إلخ.
وقوله: (عن الشيء) متعلق بالإخبار.
وقوله: (على ما هو به) راجع للصدق.
وقوله: (أو لا) على ما هو به راجع للكذب ومعنى قوله “على ما هو به” على وجه ذلك الشيء ملتبس بذلك الوجه ومعنى قوله “أو لا على ما هو به” أي: أو لا على وجه ذلك الشيء ملتبس بذلك الوجه. والمراد “بالشيء” إما النسبة التامة، وهو الأوفق للمعنى؛ إذ المخبر عنه في الحقيقة هو النسبة، فحينئذ كلمة “ما” عبارة عن الإثبات والنفي، أي كونها مثبتة وكونها منفية. والمراد من الإخبار الإعلام، و”عن” بمعنى الباء، والمعنى على هذا: وقد يقالان بمعنى هو الإعلام بنسبة حالة كونه كائنا على وجه وهو الإثبات والنفي تلك النسبة ملتبسة به في الواقع أو لا على وجه وهو الإثبات والنفي تلك النسبة ملتبسة به في الواقع. وإما الموضوع الذي هو المسند إليه، وهو الأوفق للفظ؛ إذ المخبر عنه هو الموضوع، فإنه يقال أخبر عن زيد لا عن النسبة وحينئذ فما عبارة عن ثبوت المحمول أو انتفائه. والمراد من الإخبار: الكشف و”عن” على حقيقتها. والمعنى على هذا: وقد يقالان بمعنى هو الكشف عن الموضوع الذي هو المسند إليه، حال كونه جاريا على وجه، وهو ثبوت المحمول أو انتفاؤه، ذلك الموضوع ملتبس به في الواقع أو على وجه وهو ثبوت المحمول أو انتفاؤه، ذلك الموضوع ملتبس به في الواقع. والشارح اختار الأول في شرح المفتاح وإليه يشير قوله هنا “أي الإعلام بنسبة تامة…إلخ”، فإنه يقتضي أنه اختار الأول.
قوله: (أي الإعلام بنسبة تامة…إلخ) تفسير للإخبار عن الشيء…إلخ، والمراد بالنسبة التامة النسبة التي يتم بها الكلام، واحترز بها عن الناقصة كالنسبة التقييدية في نحو: زيد العالم، فإنها لا تتصف بصدق ولا كذب.
وقوله: (تطابق الواقع) أي في الصدق.
وقوله: (أو لا تطابقه) أي في الكذب.
قوله: (فيكونان…إلخ) تفريع على قوله: “وقد يقالان بمعنى الإخبار…إلخ”
وقوله: (من صفات المخبر) أي فيقال على هذا شخص صادق وشخص كاذب، والصادق معناه المتصف بالصدق، والكاذب معناه المتصف بالكذب.
قوله: (فمن ههنا يقع…إلخ) تفريع على مجموع الكلامين السابقين.
وقوله: (في بعض الكتب) أي كهذا المتن والعمدة والهداية والبداية.
وقوله: (الخبر الصادق بالوصف) أي نظرا للمعنى الأول للصدق؛ فإنه عليه يكون من أوصاف الخبر كما تقدم.
وقوله: (وفي بعضها) أي في بعض الكتب كالتبصرة، وفسر بعضهم الكتب بنسخ العقائد، وهو خلاف الظاهر المتبادر من ذلك اللفظ مع ما فيه من دعوى الاختلاف في نسخ العقائد.
وقوله: (خبر الصادق بالإضافة) أي نظرا للمعنى الثاني للصدق، فإنه عليه يكون من أوصاف المخبر، فالمعنى خبر الشخص الصادق، وحينئذ فلا حاجة إلى جعل الخبر الصادق بالوصف بمعنى الخبر الصادق مخبره؛ حملا لما وقع في بعض الكتب الأول على ما وقع في بعضها الثاني، ولا لجعل الخبر الصادق بالإضافة من قبيل الإضافة التي للبيان؛ حملا لما وقع في بعض الكتب الثاني على بعضها الأول.
على نوعين: (أحدهُما) الخبر المتواترُ، وهو الخبر الثابتُ على ألسنةِ قومٍ لا يُتصورُ تواطؤهُم على الكَذِبِ، وهو مُوجِبٌ للعلمِ الضروريّ، كالعلمِ بالملوكِ الخالية في الأزمنةِ الماضيةِ والبُلدانِ النائيةِ.
قال الشارح: (عَلَى نَوْعَينِ: أَحَدِهِمَا الخبر المُتَواتِرُ) سُمِّي بذلك لما أنه لا يقع دفعة، بل على التعاقب والتوالي. (وَهوَ الخبر الثَّابِتُ على أَلْسِنَةِ قَوْمٍ لا يُتصوَّرُ تَواطُؤهُم)، أي لايجوز العقل توافقهم (عَلَى الكَذِبِ)، ومصداقه وقوع العلم من غير شبهة. (وَهوَ) بالضرورة (مُوجِبٌ للعِلْمِ الضَّرُورِيِّ كالعِلْمِ بالمُلُوكِ الخالية في الأزْمِنَةِ المَاضِيَةِ والبُلدَانِ النَّائِيَةِ) يحتمل العطف على الملوك وعلى الأزمنة، والأول أقرب.
قال الخيالي:
قوله: (لا يتصور تواطئهم) فيه إشارة إلى أن منشأ عدم التجويز كثرتهم، فلا نقض بخبر قوم لا يجوز العقل كذبهم بقرينة خارجية.
قوله: (ومصادقه…إلخ) أي: ما يصدقه، ويدل على بلوغه حد التواتر؛ يعني: أنه لا يشترط فيه عدد معين مثل خمسة أو اثنى عشر أو عشرين أو أربعين أو سبعين على ما قيل بل ضابطه وقوع العلم من غير شهبة، قيل عليه: العلم مستفاد من التواتر، فإثبات التواتر به دور، وأجيب بأن نفس التواتر سبب نفس العلم، والعلم بالعلم سبب العلم بالتواتر، وهكذا حال كل معلول ظاهر من العلة الخفية مثل الصانع مع العالم، فإن قلت: العلم من غير شبهة معلول أعم فلا يدل على العلة الخاصة. قلت: عدم الدلالة عندما لم يعلم انتفاء سائر العلل، فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (يعني أنه لا يشترط فيه عدد…إلخ) واشتراط الخمس مذهب القاضي الباقلاني، وهو يقول: ينبغي أن يحصل التواتر بما فوق الأربعة لأن التزكية واجبة في شهود الزنا لعدم حصول اليقين بشهادتهم ويوجد هو في الخمسة، واعترض عليه بأن التزكية أيضًا واجبة في الخمسة، فعلم أنه ليس كما زعم.
قوله: (أو اثني عشر…إلخ) قال سيد المحققين بعدد النقباء المبعوثة من بني إسرائيل على ما قال الله تعالى: ﱡﭐ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮﱠ بعثهم لتبليغ أحكام دين موسى عليه السلام وتشهيرها وتواترها فعلم أن التواتر يحصل بهذا العدد، واشتراط العشرين بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱠ وهو بعيد جدًّا، واشتراط أربعين بقوله تعالى: ﱡﭐ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱠ روي أن المؤمنين المتبعين كانوا أربعين، والنبي عليه السلام مأمور بنشر الأحكام وتشه “التلويح” ير الإسلام، واشتراط سبعين بقوله تعالى: ﱡﭐ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯﱠ وفي أكثر نسخ التلويح: أو خمسين بدل سبعين، ويرد عليه أن هذا قول لم يقل به أحد.
قوله: (بل ضابطه وقوع العلم بعده من غير شبهة) أي ضابط كون الخبر متواترًا هو أن يقع العلم بعده بحيث لا يحتمل النقيض أصلًا، وقال بعض الفضلاء: أنت خبير بأن الاطلاع على أن الحاصل عقيبه مما لا يحتمل النقيض لا حالًا ولا مآلًا أمر دونه خرط القتاد انتهى، ولا يخفى عليك أن اتفاق الجمع الغير المحصور على شيء مستند إلى الحس مخترع لا ثبوت له في نفس الأمر مع تباين آرائهم وأخلاقهم وأوطانهم مستحيل عقلًا بمعنى أن العقل يحكم حكمًا قطعيًّا بأنهم لم يتواطؤوا على الكذب، وأن ما اتفقوا عليه حق ثابت في نفس الأمر غير محتمل للنقيض بمعنى سلب تجويز العقل وقوع شيء آخر بدله كما في العلوم العادية، لا بمعنى سلب الإمكان العقلي عن تواطئهم على الكذب، وبالجملة إنا نجد من أنفسنا علمًا ضروريًّا بوجود مكة وبغداد بحيث لا يحتمل النقيض أصلًا، وما ذلك إلا بالإخبار، والإشكال إنما نشأ من أخذ عدم الاحتمال بمعنى عدم الإمكان العقلي تأمل كذا في التلويح.
قوله: (قيل عليه…إلخ) يعني أن للتواتر مدخلًا في إفادة العلم لأن الخبر إنما يفيده بسببه، فيكون إفادة العلم موقوفًا على التواتر، فإثبات التواتر بالعلم على ما ذكرتم من أن وقوع العلم دليل بلوغه حد التواتر يدل على أن التواتر موقوف على العلم وأنه دور، وحاصل الجواب أن نفس التواتر سبب نفس العلم، والعلم بأن الحاصل عقبيه علم سبب للعلم بتواتر الخبر ، فالموقوف عليه العلم بالعلم والموقوف نفس العلم، فلا دور يدل على ذلك أنه جعل وقوع العلم دليلًا على التواتر، إذ الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وفيه أنه يلزم على هذا أن يكون العلم بتواتره موقوفًا على ملاحظة العلم ثانيًا والتصديق بأنه علم وليس كذلك، فإنه بمجرد حصول العلم يحكم العقل بتواتره، ويمكن الجواب بأن العلم إذا كان حاصلًا بطريق الإخطار والتوجه إلى معلومه بالذات يكون العلم والعلم بالعلم معًا حاصلين في الذهن، ولا تكون حاجة إلى إخطار العلم ثانيًا، ولذا ذهب الإمام إلى أن العلم والعلم بالعلم متحدان، وفيما نحن فيه كذلك، فإن العلم بعد الخبر إنما يحصل بعد التوجه إليه والقصد إلى إخطاره، بخلاف ما إذا لم يكن حاصلًا بطريق الإخطار فإنه لا بد من ملاحظته حتى يحصل العلم بالعلم تأمل.
قوله: (وهكذا حال كل معلول ظاهر…إلخ) فإن نفس العلة تفيد نفس المعلول والعلم بالمعلول يفيد العلم بالعلة الخفية، بمعنى أنه إذا تحقق العلة تحقق المعلول واذا علم تحقق المعلول علم تحقق العلة، وإنما قيد العلة بالخفية؛ لأنه لو كان العلة ظاهرة يستفاد العلم بها بدون العلم بالمعلول كالنار المحسوس للدخان، والأولى تركه لأن العلم بالمعلول يوجب العلم بالعلة سواء كانت ظاهرة أو خفية، واستفادته من وجه آخر لا ينافيه. قوله: (فإن قلت…إلخ) حاصل هذا السؤال منع قوله: إن وقوع العلم من غير شبهة يدل على بلوغه حد التواتر، وسند المنع أن للعلم أسبابًا شتى من الحس والبديهة وكونه خبر الرسول أو غير ذلك، والمعلول الأعم لا يدل على العلة المعينة، فيجوز أن يكون وقوع العلم بسبب آخر لا بسبب التواتر، فلا يكون دليلًا عليه.
قوله: (قلت عدم الدلالة…إلخ) وههنا انتفاء سائر العلل معلوم لأن العلم بوجود مكة مثلا لا يحتمل علة غير التواتر كذا نقل عنه.
قوله: (تأمل) وجه التأمل أن العلم بانتفاء سائر العلل في حيز المنع، فإنه يجوز أن تكون العلة الموجبة له محققة من غير أن يكون وجوده وانتفاؤه معلومًا لنا، وعدم العلم لا يدل على عدم تحققه.
قال الباجوري:
قوله: (على نوعين) أي: مشتمل على نوعين من اشتمال الجنس على أنواعه ولو حذف لفظ “على” لكان أحسن.
قوله: (أحدهما الخبر المتواتر) معنى المتواتر لغة: المتتابع، واصطلاحا: ما ذكره المصنف في قوله: “وهو الخبر الثابت…إلخ”
وقوله: (سمي بذلك…إلخ) أي سمي هذا الأحد بالمتواتر…إلخ. والغرض من ذلك بيان المناسبة بين المعنوي اللغوي، وإن لم ينبه عليه لشهرته، وبين المعنى الاصطلاحي.
وقوله: (لما أنه لا يقع دفعة) أي لما أن هذا الأحد لا يقع مرة واحدة في زمن واحد بمقتضى العادة، وإن أمكن وقوعه كذلك، بأن أخبر جماعة يستحيل تواطئهم على الكذب بخبر مرة واحدة في زمن واحد.
وقوله: (بل على التعاقب والتوالي) أي بل يقع في أزمنة متتابعة بأن يخبر به زيدا أولا، وعمرو ثانيا، وبكر ثالثا، وهكذا فالمراد بالتعاقب والتوالي هنا التتابع ولو مع التراخي؛ لأن الفورية ليست شرطا، وإن أشعر بها لفظ التعاقب والتوالي، وعطف التوالي على التعاقب من قبيل عطف التفسير.
قوله: (وهو الخبر الثابت على ألسنة قوم…إلخ) أي والخبر المتواتر في الاصطلاح: الخبر الثابت على ألسنة قوم، ولعله إنما عبر بالثابت للاحتراز عن الخبر الجاري على ألسنتهم ولم يثبت لرجوع بعضهم. والمراد بالقوم هنا ما يشمل الإناث؛ لأن الذكورة ليست شرطا.
قوله: (لا يتصور تواطئهم…إلخ) فيه إشارة إلى أن منشأ عدم التصور المذكور كثرتهم حيث قال: لا يتصور تواطئهم على الكذب، ولم يقل لا يتصور الكذب منهم مثلا، فلا نقض على تعريف الخبر المتواتر بخبر قوم لا يتصور كذبهم لا للكثرة، بل لقرينة خارجية كالعصمة. والمراد من التصور هنا التصديق كما أشار إليه الشارح بقوله “أي لا يجوز العقل…إلخ” وحينئذ فلا يرد أن العقل قد يتصور المستحيل، فالقوم وإن بلغوا من العدد ما بلغوا يتصور تواطئهم على الكذب. والمراد من التواطئ: التوافق وإن لم يكن عن قصد، فليس المراد به خصوص التوافق بطريق القصد وإن أشعر به لفظ التواطئ، كما أشار إليه الشارح، حيث عبر بالتوافق، وأطلقه عن أن يكون بطريق القصد، وقد زاد في الطوالع قيدين آخرين، أحدهما: أن يكون الخبر عن محسوس، وثانيهما: أن لا يكون المخبر عنه ممتنعا، فلو كان الخبر عن غير محسوس أو كان المخبر عنه ممتنعا، كأن قالوا: رأينا اجتماع الضدين لم يكن الخبر متواترا. ولابد من التقييد بكون السامع من كل منهم هو السامع من الباقين، فلو أخبر كل منهم رجلا غير الذي أخبره الآخر لم يكن الخبر متواترا.
قوله: ( أي لا يجوز العقل موافقتهم) أي لا لذاته، بل لما قام عنده من شهادة العادة بامتناعه، فالامتناع عادي كامتناع انقلاب الحجر ذهبا، لا عقلي كامتناع اجتماع النقيضين.
وقوله: (على الكذب) أي في الكذب ف”على” بمعنى “في” بالنظر للتوافق المفسر به التواطئ.
قوله: (ومصداقه) أي ما يصدقه ويحققه ويدل على بلوغه حد التواتر، فمصداق مفعال، وهو وإن كان من صيغ الآلة أطلق هنا على الدليل والضابط؛ تنزيلا له منزلة الآلة، وأشار بذلك إلى أنه لا يشترط فيه عدد معين مثل خمسة، كما ذهب إليه القاضي الباقلاني حيث قال: ينبغي أن يحصل التواتر بما فوق الأربعة؛ لوجوب تزكيتهم في شهود الزنا، واعترض عليه بأن التزكية تجب في الخمسة أيضا أو اثنى عشر كما قيل بذلك بعدد النقباء المبعوثين من بني إسرائيل على ما قال الله تعالى: ﭿ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﭾ ، أو عشرين كما قيل بذلك لقوله تعالى: ﭿ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﭾ ، أو أربعين كما قيل بذلك لقوله تعالى: ﭿ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ روي أن المؤمنين كانوا أربعين، أو سبعين كما قيل بذلك لقوله تعالى: ﭿ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﭾ ووقع في أكثر نسخ “التلويح” أو خمسين بدل أو سبعين، لكن هذا قول لم يقل به أحد كما قاله العلامة عبد الحكيم.
قوله: (وقوع العلم) أي: حصول العلم بمضمون ذلك الخبر .
وقوله: (من غير شبهة) تأكيد؛ إذ العلم لا يكون معه شبهة، واعترض عليه بأن العلم مستفاد من التواتر؛ لأن الخبر إنما يفيده بسببه فيكون العلم موقوفا على التواتر، وحينئذ فإثبات التواتر به مؤدٍّ للدور؛ لأنه يقتضي أن التواتر موقوف على العلم، وقد علمت أن العلم موقوف على التواتر. وأجيب بأن نفس التواتر سبب نفس العلم، فتوقف العلم على التواتر من حيث ذاتهما، والعلم بالعلم سبب العلم بالتواتر، فتوقف التواتر على العلم من حيث العلم بهما، كما يدل على ذلك أنه جعل وقوع العلم دليلا على التواتر، فإن الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. وهكذا حال كل معلوم ظاهر مع العلة الخفية، فإن نفس العلة تفيد نفس المعلول، والعلم بالمعلول يفيد العلم بالعلة الخفية. وذلك مثل الصانع مع العالم، فإن ذات الصانع وهو الله تعالى يفيد ذات العالم؛ لأنه هو الموجد له، والعلم بالعالم يفيد العلم بالصانع وإنما قيدت العلة بالخفية؛ لأن العلة الظاهرة كالنار مع الدخان يستفاد العلم بها بدون العلم بالمعلول، كأن يستفاد من الحس، وإن كان يستفاد أيضا من العلم بالمعلول. ولذلك جعل العلامة عبد الحكيم الأولى ترك التقييد بالخفية حيث قال بعد أن وجه تقييد العلامة الخيالي بما تقدم: والأولى تركه لأن العلم بالمعلول يوجب العلم بالعلة سواء كانت ظاهرة أو خفية، واستفادته من وجه آخر لا تنافي استفادته أيضا منه. فإن قيل لا نسلم أن وقوع العلم من غير شبهة يدل على التواتر؛ لأن العلم من غير شبهة معلول أعم، والتواتر علة خاصة، فإن العلم من غير شبهة له أسباب شتَّى كالحس والبداهة وخبر الرسول، والمعلول الأعم لا يدخل على العلة الخاصة وإنما يدل على علة ما، فيجوز أن يكون وقوع العلم من غير شبهة بسبب غير التواتر، فلا يكون دليلا عليه. أجيب بأن محل عدم دلالة المعلول الأعم على العلة الخاصة عند عدم العلم بانتفاء سائر العلل، وأما عند العلم بذلك فيدل، وههنا علم انتفاء سائر العلل، وبحث فيه بأن العلم بانتفاء سائر العلل ههنا في حيز المنع؛ لجواز تحقق علة من العلل ولم نعلم بها، ولا يلزم من عدم العلم بها العلم بانتفائها.
قوله: (وهو بالضرورة موجب للعلم الضروري) أي الخبر المتواتر مثبت ومفيد للعلم الضروري، وذلك بالضرورة، فأشار الشارح بقوله “بالضرورة” إلى أن هذه القضية ضرورية. فكون المتواتر مثبتا ومفيدا للعلم الضروري أمر ضروري وهذا هو الأمر الأول، وأما كون العلم الحاصل به ضروريا فهو الأمر الثاني، كما سيذكره الشارح.
قوله: (كالعلم…إلخ) تمثيل للعلم الضروري الذي أوجبه الخبر المتواتر.
وقوله: (بالملوك) أي: بعد وجودها فيكون العلم المذكور تصديقا.
وقوله: (الخالية) أي الماضية.
وقوله: (في الأزمنة الماضية) صفة للملوك أو حال منها، والتقدير على الأول: الكائنة في الأزمنة الماضية، وعلى الثاني: حال كونها كائنة في الأزمنة الماضية.
وقوله: (والبلدان النائية) أي: وبالبلدان النائية على احتمال العطف على الملوك، أو: وفي البلدان النائية على احتمال العطف على الأزمة، ومعنى “النائية” البعيدة.
قوله: (يحتمل العطف…إلخ) أي يحتمل قوله “والبلدان النائية” أن يكون عطفا على “الملوك” وعليه يكون المصنف مثل للعلم الضروري الذي أوجبه الخبر المتواتر بمثالين، وأن يكون عطفا على الأزمنة وعليه يكون المصنف مثل للعلم الضروري الذي أوجبه الخبر المتواتر بمثال واحد. قوله: (والأول أقرب) أي من جهة المعنى؛ لما فيه من زيادة الإيضاح بتعدد المثال الموافق لما وقع في كلامهم من التمثيل بمثالين، حيث قالوا: كالعلم بالملوك والبلدان.
قال الشارح: وإن كان أبعد فههنا أمران: أحدهما: أن المتواتر موجِبٌ للعلم، وذلك بالضرورة، فإنَّا نجدُ من أنفسنا العلم بوجود مكة وبغداد، وأنه ليس إلا بالإخبار، والثاني: أن العلمَ الحاصلَ به ضروريٌ، وذلك لأنه يحصل للمستدل وغيره حتى الصبيان الذين لا اهتداء لهم بطريق الاكتساب وترتيب المقدمات. وأما خبرُ النصارى بقتل عيسى عليه السلام واليهود بتأبيد دين موسى عليه السلام، فتواتره ممنوعٌ.
قال الخيالي:
قوله: (أما خبر النصارى) وقع في “التلويح” بدل “النصارى” لفظ “اليهود”، فتوهم منه أن الخبر بمعنى: الإخبار، وإضافته إلى المفعول، فاحتيج إلى تمحل تقدير في قوله: “واليهود” لكن بعض النصارى مع اليهود في اعتقاد القتل كما أشير إليه في الكشاف فلا حاجة إلى التمحل.
قوله: (فتواتره ممنوع) بل لن يبلغ أصل المخبرين بقتله حد التواتر وعرق اليهود قد انقطع في زمن بختنصر، وبالجملة تخلف العلم دليل العدم.
قال السيالكوتي:
قوله: (وقع في التلويح…إلخ) يعني أن الشارح قال في التلويح: وأما خبر اليهود بقتل عيسى عليه السلام فتواتره ممنوع ههنا، وأما خبر النصارى…إلخ فوجه كلامه بعضهم بأن الخبر ههنا بمعنى الإخبار، وإضافته إلى النصارى إضافة المصدر إلى المفعول، فالمعنى: وأما إخبار اليهود للنصارى…إلخ. فلا تدافع لكنه احتيج حينئذ في عطف قوله: “واليهود بتأبيد دين موسى عليه السلام” إلى تكلف، وهو أن يقدر لفظ الخبر ويكون إضافته إليه إضافة المصدر إلى الفاعل، ويكون معطوفًا على خبر النصارى، إذ لا يصح عطفه على النصارى لأنه يقتضي أن يكون اليهود أيضًا مفعولًا وليس كذلك، وإنما لم يجعل عبارة “التلويح” من إضافة المصدر إلى المفعول لئلا يحتاج إلى التمحل في هذه العبارة لأنه مخالف للقصة على زعم الموجه.
قوله: (لكن بعض النصارى…إلخ) يعني ذلك التوهم باطل، ولا حاجة إلى جعل الإضافة إلى المفعول لأن بعض النصارى مع اليهود في اعتقاد القتل، فيكون في كلا الكتابين إضافة المصدر إلى الفاعل، ولا يكون عطف اليهود على النصارى محتاجًا إلى تمحل التقدير كما لا يخفى، أقول: فيه بحث لأن اشتراك النصارى مع اليهود في اعتقاد القتل لا يستلزم الاشتراك في الإخبار عنه لجواز أن يكون الإخبار مختصًّا باليهود، والمشار إليه في الكشاف هو الأول، ثم إذا ثبت أن بعض النصارى مع اليهود في إخبار القتل يتم المقصود كما في الكشف الكبير حيث قال: وكذلك إخبار النصارى بقتله لم يثبت بالتواتر، فإن خبر قتله منهم مستند إلى أربعة منهم.
قوله: (بل لم يبلغ أصل المخبرين…إلخ) أي بالاتفاق، فإن الذين دخلوا على عيسى عليه السلام وزعموا أنهم قتلوه كانوا سبعة أو ستة، والغالب أنه لا يوجد العلم بإخبار السبعة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الأولى على أن إخبارهم إنما كان عن شبهة كما أخبر الله تعالى عنه: ﱡﭐﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯﱠ فلا يتحقق التواتر أصلًا، وفيه أن إخبارهم لم تكن عن شبهة لهم باعتقادهم حتى ينافي وقوع العلم بل عن أمر محسوس لا شبهة لهم فيه على ما يدل عليه قوله تعالى: حكاية عنهم: ﱡﭐ ﱡ ﱢ ﱣ ﱠ نعم مشاهدتهم ما كانت مطابقة لنفس الأمر، ولم يشترط في الخبر أن يكون على أمر ثابت في نفس الأمر، بل كونه في نفس الأمر مستفاد منه تأمل.
قوله: (وعرق اليهود…إلخ) قيل: إن بختنصر قتل اليهود وكسر أصنامهم لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوها حتى لم يبق منها إلا شرمذة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضًا وكان بختنصر ملكًا قبل البعثة قابضًا لمشارق الأرض ومغاربها سمي بذلك لأنه وجد لقيطًا عند صنم مسمى بذلك.
قوله: (وبالجملة) أي مجمل كلام الشارح وخلاصة قوله: “فتواتره ممنوع” أن تخلف وقوع العلم يدل على عدم تحققه، لا أنه فذلكة لقوله: “بل لم يبلغ عدد المخبرين إلى آخره على ما توهم”.
قال الباجوري:
وقوله: (وإن كان أبعد) أي: من جهة اللفظ لما فيه من الفصل بين المتعاطفين بقوله في الأزمنة الماضية، وعلم من ذلك أن الثاني أبعد من جهة المعنى، وإن كان أقرب من جهة اللفظ. أما كونه أقرب من جهة اللفظ فلعدم الفصل بين المتعاطفين، وأما كونه أبعد من جهة المعنى فلما فيه من عدم الإيضاح بتعدد المثال الموافق لما وقع في كلامهم كما تقدم، على أنه يقتضي أن العلم بالملوك الخالية في الأزمنة الماضية في غير البلدان النائية ليس بالخبر المتواتر مع أنه بالخبر المتواتر، لكن قد يقال إن هذا مفهوم بالأولى.
قوله: (فههنا أمران) تفريع على قوله “وهو بالضرورة موجب للعلم الضروري” أي ففي هذا المقام حكمان، أحدهما: مذكور صريحا وهو الأمر الأول، والثاني: مذكور ضمنا؛ لأن الوصف يتضمن الحكم على ما هو المشهور.
قوله: (أحدهما المتواتر…إلخ) أي: أحد الأمرين هذا الحكم.
وقوله: (موجب للعلم) أي بقطع النظر عن كونه ضروريا.
وقوله: (وذلك بالضرورة) أي: وإيجاب المتواتر للعلم أمر ثابت بالضرورة، وهذا هو ما أشار إليه في حل كلام المصنف حيث قال بالضرورة. قوله: (فإنا نجد من أنفسنا…إلخ) هذا تنبيه على كون إيجابه العلم بالضرورة لا تعليل له؛ لأن الضروري لا يعلل وإنما ينبه عليه؛ لأنه قد يغفل عنه ويصح جعله تعليلا للحكم بكون إيجابه العلم بالضرورة.
وقوله: (وأنه ليس…إلخ) بفتح همزة أنه عطفا على العلم، فالمعنى: ونجد من أنفسنا أن ذلك العلم ليس إلا بسبب الإخبار وهذا هو روح العلة.
قوله: (والثاني أن العلم…إلخ) أي: وثاني الأمرين هذا الحكم.
وقوله: (به) أي بالخبر المتواتر.
وقوله: (ضروري) أورد عليه القرآن فإنه متواتر قطعا، وليس العلم الحاصل به ضروريا. وأجيب بأن القرآن متواتر قطعا من حيث إنه كلام الله، والعلم الحاصل به من هذه الحيثية ضروري، لا من حيث معانيه حتى يتجه الإيراد.
قوله: (وذلك لأنه…إلخ) أي: وكون العلم الحاصل به ضروريا ثابت لأنه…إلخ، وهذا تنبيه على كون العلم الحاصل به ضروريا لا تعليل له لما تقدم، ويصح جعله تعليلا للحكم بأن ذلك العلم ضروري.
قوله: (يحصل للمستدل) أي يتحقق لمن كان فيه أهلية الاستدلال.
وقوله: (وغيره) أي: غير المستدل، وهو من لم يكن فيه أهلية الاستدلال.
وقوله: (حتى الصبيان) غاية لما قبله في الدناءة، وكون الصبيان يحصل لهم العلم الحاصل من الخبر المتواتر، بحيث لا يقبل التشكيك ممنوع. قوله: (الذين لا اهتداء لهم) أي الذين لا معرفة لهم.
وقوله: (بطريق الاكتساب) يحتمل أن يراد بطريق الاكتساب: طريق اكتساب المجهول التصوري ترتيب الكليات الخمس؛ كتقديم الجنس على الفصل، وطريق اكتساب المجهول التصديقي ترتيب المقدمات؛ كتقديم الصغرى على الكبرى وعلى هذا، فقوله “وترتيب المقدمات” من عطف الخاص على العام لكونه مناسبا للمقام. ويحتمل أن يراد بطريق الاكتساب: خصوص طريق اكتساب المجهول التصوري الذي هو ترتيب الكليات الخمس، وعليه فقوله “وترتيب المقدمات” من عطف المغاير.
قوله: (وأما خبر النصارى…إلخ) جواب عما يرد على الأمر الأول من الأمرين المذكورين، وحاصل ألا يراد النقض بتخلف إفادة المتواتر العلم في إخبار النصارى بقتل عيسى عليه السلام، وإخبار اليهود بتأييد دين موسى عليه السلام. فإن كلا منهما لم يفد العلم، بل هو كذب كما دلت عليه الشريعة. وحاصل الجواب منع تواتر كل من الخبرين كما سيأتي بيانه، ووقع في “التلويح” بدل النصارى لفظ “اليهود” ونص عبارة “التلويح” “وأما مثل خبر اليهود بقتل عيسى وتأبيد دين موسى…إلخ” فتوهم بعضهم منه أن الخبر بمعنى الإخبار، وإضافته هنا إلى النصارى من إضافة المصدر إلى المفعول. والتقدير: وأما إخبار اليهود النصارى، فاحتاج هذا البعض إلى تمحل تقدير في قوله “واليهود” وهو أن يقدر لفظ خبر بمعنى إخبار ويجعل مضافا لليهود من إضافة المصدر إلى الفاعل، ويكون معطوفا على خبر النصارى؛ إذ لا يصح عطف اليهود على النصارى؛ لأنه يقتضي أن اليهود مفعول أيضا، وليس كذلك وأنت خبير بأنه لا حاجة إلى جعل الإضافة هنا إلى المفعول؛ لأن بعض النصارى مع اليهود في اعتقاد القتل، كما أشير إليه في الكشاف، فالإضافة هنا وفي “التلويح” من إضافة المصدر إلى الفاعل وحينئذ فلا حاجة إلى تمحل تقدير في قوله “واليهود” وبحث في ذلك بأن اشتراك النصارى مع اليهود في اعتقاد القتل لا يقتضي جعل الإضافة هنا من إضافة المصدر إلى الفاعل؛ لجواز أن يكون الإخبار مختصا باليهود. نعم اشتراك النصارى مع اليهود في الإخبار بالقتل يقتضي ذلك، فيتم به المقصود كما في الكشف الكبير حيث قال: وكذلك إخبار النصارى بقتل عيسى لما يثبت بالتواتر، فإن خبر قتله منهم مسند إلى أربعة منهم. وأجيب بأن شأن من اعتقد شيئا أن يخبر به، وبعضهم جعل الإخبار بقتل عيسى عليه السلام وقع من النصارى، مستندين فيه إلى إخبار اليهود الذين دخلوا البيت على عيسى إياهم به.
قوله: (بقتل عيسى عليه السلام) أي حيث دخلوا عليه البيت وحاصل قصته على ما قيل: أن رجلا كان ينافق لعيسى فيظهر له الإسلام ويخفي الكفر، فسبَّ رهط من اليهود عيسى وأمّه، فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله فقال لهم ذلك المنافق: أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى فرفع الله عيسى وألقى شبه وجهه على وجه ذلك المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى، ﭧ ﭨ ﭿ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﭾ.
قوله: (واليهود) أي وخبر اليهود.
وقوله: (بتأبيد دين موسى عليه السلام) أي ببقائه على الأبد، والمراد إخبارهم بذلك عن التوراة أو عن موسى عليه السلام، وإلا فتأبيد دين موسى عليه السلام ليس حسيا حيث يجري فيه التواتر. ولعل الإخبار بتأبيد دين موسى عليه السلام كان في الأصل من وضع بعض الأحبار؛ صونا لرئاستهم كما كانوا يكتمون نعت محمد عليه الصلاة والسلام مع ذكره في التوراة لذلك.
قوله: (فتواتره ممنوع) أي فتواتر الخبر المذكور ممنوع؛ لأن شرطه أن يكون جميع طبقاته عددا لا يمكن تواطئهم على الكذب، وليس كذلك هنا، بل لم يبلغ أصل المخبرين بقتل عيسى عليه السلام وهم الطبقة الأولى حد التواتر؛ لأنها أربعة من النصارى كما تقدم عن الكشف الكبير. وهذا على ما هنا من أن المخبرين هم النصارى، وأما على ما في “التلويح” من أن المخبرين هم اليهود، فتلك الطبقة ستة أو سبعة. وثبت بالنقل الصحيح أنها لا تزيد على السبعة، فهم لم يبلغوا حد التواتر؛ لأن العادة لا تحيل تواطئهم على الكذب، فقد فُقِدَ الشرط المذكور في الطبقة الأولى من المخبرين بقتل عيسى عليه السلام، وكذلك فقد الشرط المذكور في الطبقة الوسطى من المخبرين بتأبيد دين موسى عليه السلام؛ لأن عرق اليهود قد انقطع في زمن بُخْتَ نُصُّرْ حتى لم يبق منهم إلا شرذمة قليلة لا تبلغ عدد التواتر، وكان بخت نصر ملكا قبل البعثة قابضا لمشارق الأرض ومغاربها، فلما حرّفت اليهود التوراة وزادوا فيها ونقصوا منها قتلهم عن آخرهم إلا آحادا قليلة، وبالجملة تخلف العلم من الخبر دليل لعدم التواتر. فكما أن وجود العلم منه دليل على التواتر، كذلك تخلف العلم منه دليل على عدم التواتر.
قال الشارح: فإن قيل: خبرُ كلِّ واحدٍ لا يفيد إلا الظن، وضَمُّ الظَّنِّ إلى الظَّنِّ لا يوجب اليقين. وأيضاً جوازُ كَذِبِ كلِّ واحدٍ يوجبُ جوازَ كذب المجموع، لأنه نفس الآحاد. قلنا: ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد،كقوَّةِ الحبل المؤلف من الشعرات.
قال الخيالي:
قوله: (ربما يكون مع الاجتماع) فيه إشارة إلى عدم الكلية لكنه كاف في الجواب، والتحقيق أن اجتماع الأسباب يقتضي قوة المسبب والخبر سبب للاعتقاد، وأما وهم الكذب فلا مدخل للخبر فيه ولذا قيل مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي.
قال السيالكوتي:
قوله: (وفيه إشارة) أي في إثبات لفظ رب سواء كان للتقليل أو للتكثير إشارة إلى أن مخالفة حالة الانفراد لحالة الاجتماع ليس كليًّا متفقًا في جميع المواد كما في كل جسم ممكن لكن هذا القدر كاف في الجواب عن السؤال المذكور، إذ السؤال المذكور معارضة واستدلال على أن الخبر المتواتر لا يفيد العلم، والجواب منع مقدمة دليله؛ أعني: قوله: وضم الظن إلى الظن لا يفيد اليقين وكذب كل واحد يوجب كذب المجموع، وحاصله أنا لا نسلم ذلك لأنه موقوف على أن لا يكون مع الاجتماع ما يكون مع الانفراد، وهو غير واقع في بعض المواد، فيجوز أن يكون ما ههنا أيضًا كذلك.
قوله: (والتحقيق…إلخ) أي تحقيق الجواب، وحاصله أن اجتماع الأسباب يقتضي قوة المسبب والخبر سبب للاعتقاد، فإذا تعدد الخبر باعتبار تعدد المخبرين قوي الاعتقاد إلى أن وصل إلى العلم، وفيه بحث لأنه إن أراد به اجتماع الأسباب التامة للشيء فهو محال لامتناع التوارد فيها، وان أراد اجتماع الأسباب الناقصة فلا نسلم أنه يوجب قوة المسبب بل يوجب نفسه، والجواب أن كل واحد من الأخبار المعددة موجب للاعتقاد، والاعتقاد المستفاد من خبر مخبر مغاير للاعتقاد المستفاد من خبر مخبر آخر لتفاوتهما رجحانًا، ويحصل بجميع تلك الإخبارات قوة لمطلق الاعتقاد بحيث لا يبقى احتمال النقيض، فلا يلزم شيء مما ذكر.
قوله: (وأما وهم الكذب…إلخ) جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف يكون الخبر المتواتر سببًا للعلم مع إيهام كل خبر للكذب بناء على إفادته كليهما؟ فلكل خبر طرفان يؤكدان بطرفي الخبر السابق، فلا يحصل قوة المسبب المفضي إلى العلم أصلًا، فأجاب بأنه لا مدخل للخبر في إيهام الكذب، بل هو احتمال يحكم به العقل، وأما الخبر فموجبه الصدق، فإن قولنا: زيد قائم يدل على ثبوت القيام لزيد ضرورة أنه موضوع له، لكن لما جاز تخلف المدلولات الوضعية عن الألفاظ الدالة عليها لعدم العلاقة العقلية احتمل عند العقل أن لا يكون مدلوله متحققًا، فلا يكون صادقًا، ومن هذا يخرج الجواب عما مرّ من أن كذب كل واحد يوجب كذب المجموع تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل…إلخ) هذا الإيراد بوجهيه وارد على الأمر الأول من الأمرين المذكورين، وكلا وجهيه من قبيل المعارضة. وتقدير الوجه الأول أن تقول: لا نسلم أن الخبر المتواتر موجب للعلم لقياس من الشكل الأول، نظمه هكذا: الخبر المتواتر فيه ضم الظن إلى الظن، وكلما كان كذلك لا يفيد اليقين، فقول الشارح: خبر كل واحد لا يفيد إلا الظن، إشارة للصغرى؛ لأنه إذا كان خبر كل واحد لا يفيد إلا الظن، فقد ضم الظن إلى الظن.
وقوله: (وضم الظن إلى الظن) لا يفيد اليقين إشارة للكبرى؛ لأنه في قوة قوله: وكلما كان كذلك لا يفيد اليقين. وتقرير الوجه الثاني أن تقول: لا نسلم أن الخبر المتواتر موجب للعلم لقياس من الشكل الأول، نظمه هكذا: الخبر المتواتر يجوز فيه كذب كل واحد، وكلما كان كذلك يجب فيه جواز كذب المجموع، والوجه الثاني لازم للأول؛ إذ يلزم من كونه لا يفيد إلا الظن جواز كذبه، فأشار الشارح للكبرى بقوله: وأيضا كذب كل واحد يوجب جواز كذب المجموع وطوي الصغرى.
وقوله: (لأنه نفس الآحاد) أي لأن ذلك المجموع نفس الآحاد التي تركب هو منها، وهذا تعليل للكبرى. وهذا الإيراد بوجهيه مصادم للبديهي؛ إذ إيجاب الخبر المتواتر للعلم أمر بديهي، فيكون هذا الإيراد باطلا لمصادمته البديهي، لكن الشارح أورده بوجهيه، ودفعه بما سيأتي لتزول الشبهة عن القاصرين.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن الإيراد السابق بوجهيه. وحاصله منع الكبرى في الوجهين بعد تسليم الصغرى فيهما، وسند المنع هو ما أشار إليه بقوله: “ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد”، فكأنه قال أسلمنا الصغرى في الوجهين المذكورين، لكن لا نسلم الكبرى فيهما؛ لأنه ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد، أي ربما يكون مع اجتماع الآحاد أمر لا يكون مع انفراد تلك الآحاد، وفي الإتيان بربما إشارة إلى عدم الكلية، فوجود أمر مع الاجتماع لا يوجد مع الانفراد ليس كليا متحققا في جميع المواد، لكن هذا القدر كاف في الجواب عن السؤال المذكور بوجهيه. فإن في هذا السؤال ادعاء أنه لا يوجد مع الاجتماع ما لا يوجد مع الانفراد في جميع المواد، وهو سلب كلي. والإيجاب الجزئي المشار إليه بقوله “ربما يكون مع الاجتماع ما لا يكون مع الانفراد” يبطل السلب الكلي هذا. والتحقيق في الجواب منع الصغرى في الوجهين؛ لأن التحقيق أن خبر كل واحد يفيد الاعتقاد، واجتماع السبب يقتضي قوة المسبب، فيحصل اليقين بسبب اجتماع الأسباب، وحينئذ فخبر كل واحد لا يفيد الظن، ولا يحتمل الكذب كما ادعى المعترض، بل يفيد الاعتقاد. وأما وهم الكذب فلا مدخل للخبر فيه، بل هو احتمال يحكم به العقل لجواز تخلف المدلولات الوضعية عن الألفاظ الدالة عليها لعدم اللزوم عقلا. ولذا قيل مدلول الخبر هو الصدق فقط، والكذب احتمال عقلي، فقولنا: زيد قائم، يدل على وقوع ثبوت القيام لزيد، وعلى أنه مطابق للخارج، لكن لما احتمل التخلف عند العقل كما علمت جواز الكذب، فهو احتمال عقلي لا دلالة للخبر عليه؛ لأنه ليس موضوعا له.
قوله: (كقوة الحبل المؤلف من الشعرات) تمثيل لما يكون في حالة الاجتماع ولا يكون في حالة الانفراد، فإن كل شعرة غير قوية لكونها تحتمل الانقطاع بأدنى جذب، فإذا اجتمعت تلك الشعرات التي هي آحاد الحبل، وحدث عند الاجتماع قوة، مع أن الحبل نفس الآحاد، وحينئذ فالخبر المتواتر مثل الحبل المذكور، فيكون كل من الآحاد على ما قاله الشارح إنما يفيد الظن ويجوز كذبه، فإذا اجتمعت تلك الآحاد حدث عند الاجتماع اليقين واستحالة الكذب، لقضاء العادة حينئذ بعدم التواطئ على الكذب. فإن قيل لا نسلم أن الخبر المتواتر مثل الحبل المذكور؛ لوجود الفارق بينهما وهو أن في كل شعرة قوة من جنس قوة الحبل لكنها ضعيفة، بخلاف الخبر المتواتر فإن في خبر كل واحد ظنا ليس من جنس اليقين، وجواز كذب ليس من جنس استحالة الكذب، فيلزم من إفادة الخبر المتواتر لليقين واستحالة الكذب انقلاب الحقائق؛ لأن الظن انقلب يقينا والجواز انقلب استحالة. أجيب بأنه لا فرق؛ لأن المدعى حدوث اليقين واستحالة الكذب عند الاجتماع لقوته كما حدث للحبل قوة عند الاجتماع، فالخبر المتواتر مثل الحبل المذكور.
قال الشارح: فإن قيل: الضروريات لا يقع فيها التفاوت ولا الاختلاف، ونحن نجد العلم بكون الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم بوجود إسكندر، والمتواتر قد أنكر إفادته العلم جماعة من العقلاء، كالسُّمنية والبراهمة. قلنا: ممنوع، بل قد تتفاوت أنواع الضروري بواسطة التفاوت في الإلف والعادة والممارسة والإخطار بالبال وتصورات أطراف الأحكام، وقد يختلف فيه مكابرة وعناداً كالسوفسطائية في جميع الضروريات.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل…إلخ) هذا الإيراد بوجهيه وارد على الأمر الثاني من الأمرين المذكورين، وكلا وجهيه من قبيل المعارضة. وتقرير الوجه الأول أن تقول: لا نسلم أن العلم الحاصل به ضروري لقياس استثنائي، نظمه هكذا: لو كان العلم الحاصل به ضروريا لما وقع بينه وبين غيره من الضروريات تفاوت؛ لأن الضروريات لا يقع فيها التفاوت، لكنه وقع بينه وبين غيره من الضروريات التفاوت، فإنا نجد العلم بكون الواحد نصف الاثنين أقوى من العلم بوجود إسكندر. وتقرير الوجه الثاني أن تقول: لا نسلم أن العلم الحاصل به ضروري لقياس استثنائي، نظمه هكذا: لو كان العلم الحاصل به ضروريا لما وقع فيه الاختلافات؛ لأن الضروريات لا يقع فيها الاختلافات، لكنه وقع فيه الاختلافات، فإن المتواتر قد أنكر إفادته جماعة من العقلاء كالسُّمَنيَّة والبراهمة، فأشار المصنف إلى شرطية القياسين بذكر دليلها وهو قوله: “الضروريات لا يقع فيها التفاوت ولا الاختلافات” وأشار إلى استثنائية القياسين بذكر دليلها أيضا وهو قوله: “ونحن نجد العلم…إلخ” مع قوله: “والمتواتر قد انكسر إفادته…إلخ”.
قوله: (الضروريات لا يقع فيها…إلخ) قد عرفت أنه دليل لشرطية القياسين.
وقوله:(التفاوت) أي: بالقوة والضعف، وإنما لم يقع فيها التفاوت بالقوة والضعف؛ لأنها مستوية في الجزم.
وقوله: (ولا الاختلافات) أي بين العقلاء أخذا من كلامه بعد، وإنما لم يقع فيها الاختلافات بين العقلاء؛ لأنه لا يسع عاقلا إنكار الأمر الضروري.
قوله: (ونحن نجد…إلخ) هذا دليل لاستثنائية القياس الأول.
وقوله: (العلم بكون الواحد نصف الاثنين) أي العلم الضروري بذلك الحاصل بالخبر المتواتر.
قوله: (والمتواتر قد أنكر إفادته…إلخ) هذا دليل لاستثنائية القياس الثاني.
وقوله: (كالسمنية) بضم السين وفتح الميم وكسر النون- نسبة إلى سمن، وقيل: سمنان اسم صنم كانوا يعبدونه فيهم قوم كفار من عبدة الأصنام، وهم ينكرون البعث ويقولون بالتناسخ بمعنى أن الشخص إذا مات انتقلت روحه إلى جسم آخر، ويقولون لا طريق للعلم إلا الحس الظاهر فينكرون كون الخبر الصادق طريقا للعلم.
وقوله: (والبراهمة) بفتح الباء الموحدة، وهم قوم كفار منسوبون إلى برهام كان رجلا من حكمائهم، وهم يتبعون ما حسنه العقل دون الشرع، فيستقبحون ذبح الحيوان لما فيه من التعذيب، ويستقبحون الصلاة لما فيها من وضع الوجه الذي هو أشرف الأعضاء على الأرض، ويبيحون الزنا ووطئ المحارم، ويقولون باستحالة بعثة الرسل. كذا نقل السنوسي عنهم، لكن الذي في شرح المقاصد للشارح أنهم يقولون بجوازها، لكن لا حاجة إليها، وعبارته: “المنكرون للنبوة منهم من قال باستحالتها ولا اعتداد به ومنهم من قال بعدم الاحتياج إليها كالبراهمة” انتهت.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن الإيراد السابق بوجهيه وحاصله: منع دليل شرطية القياسين، ويلزم منه منع الشرطية نفسها.
وقوله: (بل قد تتفاوت…إلخ) سند لمنع شرطية القياس الأول.
وقوله: (وقد يختلف فيه…إلخ) سند لمنع شرطية القياس الثاني، لكن الأولى أن يسلم شرطية القياس الثاني ودليلها، ويمنع استثنائية ودليلها؛ لأن الخلاف الذي سيذكره إنما هو على وجه العناد والمكابرة، وحينئذ فلا خلاف في نفس الأمر، وإذا لم يكن هناك خلاف فاستثنائية القياس الثاني ممنوعة وكذلك دليلها، وأما شرطية فمسلمة وكذلك دليلها.
قوله: (ممنوع) أي دليل الشرطية في القياسين ممنوع، ويلزم منه منع نفس الشرطية.
وقوله: (بل قد تتفاوت أنواع الضروريات) أي: قوة وضعفا، فيكون بعضها أقوى من بعض.
وقوله: (بواسطة التفاوت في الإلف والعادة) أي: بسبب واسطة التفاوت في إلف النفس واعتيادها، وعطف العادة على الإلف من عطف السبب على المسبب، فإن سبب إلف النفس للشيء اعتيادها له، ثم إنه يحتمل أن يكون إلف النفس واعتيادها لأحد الضرورين، أكثر من إلفها واعتيادها للآخر. فالمألوف والمعتاد أو الأكثر إلفا وعادة أقوى من غيره، مثلا قولك: كل جسم متحيز مألوف معتاد أو أكثر إلفا وعادة من قولك: كل مجرد عن المادة غير متحيز؛ فلذلك كان الأول أقوى من الثاني، مع أن كلا منهما ضروري.
وقوله: (والممارسة والإخطار بالبال) أي: ومزاولة الشيء مرارا وإخطاره بالقلب، وعطف الإخطار على الممارسة من عطف المسبب على السبب، فإن سبب الإخطار بالبال الممارسة للشيء ويأتي هنا ما تقدم من الاحتمالين في التفاوت فما وجدت فيه الممارسة والإخطار بالبال أو كثرتهما أقوى من غيره. مثلا قولك: الأكل مشبع والنار محرقة، تقع فيه الممارسة والإخطار بالبال أو كثرتهما، بخلاف قولك: الخفاش يطير بجناح من ريش؛ فلذلك كان الأول أقوى من الثاني مع أن كلا منهما ضروري.
وقوله: (وتصورات أطراف الأحكام) أي: وتصورات النفس لأطراف النسب التامة، فالمراد من الأحكام النسب التامة، والمراد من أطرافها الموضوعات والمحمولات، مثلا: قولك الكل أعظم من الجزء، تصور طرفيه أوضح من تصور طرفي قولك: السقمونيا مسهلة للصفراء؛ فلذلك كان الأول أقوى من الثاني، مع أن كلا منهما ضروري.
قوله: (وقد يختلف فيه مكابرة وعنادا) أي: وقد يقع الاختلاف في الضروري مكابرة من المخالف وعنادا منه، والمكابرة: هي المنازعة لإلزام الخصم وإظهار الفضل.
وقوله: (كالسوفسطائية في جميع الضروريات) أي: فإنهم خالفوا في جميع الضروريات؛ مكابرة منهم وعنادا. فليس إنكار السمنية والبراهمة لنوع من أنواع الضروري بأعجب من إنكار السوفسطائية لجميع الضروريات.
(والثاني) خبرُ الرسولِ المؤيَّدِ بالمعجزةِ، وهو يُوجبُ العلمَ الاستدلاليَّ.
قال الشارح: (والنوع الثاني: خبر الرسول المؤيد) أي الثابت رسالته (بالمعجزة). والرسول إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام، وقد يشترط فيه الكتاب، بخلاف النبي فإنه أعم.والمعجزةُ أمرٌ خارقٌ للعَادَةِ قُصِدَ به إظهارُ صدقِ من ادَّعى أنه رسول الله تعالى. (وهو) أي: خبر الرسول (يوجب العلم الاستدلالي) أي: الحاصل بالاستدلال، أي النظر في الدليل، وهو الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري.
قال الخيالي:
قوله: (والرسول إنسان بعثه الله إلى الخلق لتبليغ الأحكام) ولو بالنسبة إلى قوم آخرين وهو بهذا المعنى يساوي النبي لكن الجمهور اتفقوا على
أن النبي أعم، ويؤيده قوله تعالى: ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﱠ وقد دل الحديث على أن عدد الأنبياء أزيد من عدد الرسل، فاشترط بعضهم في الرسول الكتاب، واعترض عليه بأن الرسل ثلثمائة عشر والكتب مائة وأربعة فلا يصح الاشتراط. اللهم إلا أن يكتفي بالكون معه ولا يشترط النزول عليه، ويمكن أن يقال يحتمل أن يتكرر نزول الكتب كما في الفاتحة، وتخصيص بعض الصحف ببعض الأنبياء في الروايات على تقدير صحتها؛ لنزوله عليه أولًا، واشترط بعضهم فيه الشرع الجديد، ورده المولى الأستاذ- سلمه الله تعالى- بأن إسماعيل عليه السلام من الرسل، ولا شرع جديد له كما صرح به القاضي، ولعل الشارح اختار ههنا المساواة؛ لينحصر الخبر الصادق في نوعيه، ويمكن أن يخص فيعتبر ذلك الحصر بالنسبة إلى هذه الأمة.
قوله: (أمر خارق للعادة…إلخ) قيل عليه: يدخل فيه سحر المتنبي، وأجيب بأنه تعالى لا يخلق الخارق في يد الكاذب بحكم العادة في دعوى الرسالة ولا نقض بالفرضيات، وأيضا إظهار الشيء فرع وجوده والحق أن السحر ليس من الخوارق وإن أطبق القوم عليه؛ لأنه مما يترتب على الأسباب كلما باشرها أحد يخلقه الله تعالى عقيبه ألبتة فيكون من ترتيب الأمور على أسبابها؛ كالإسهال بعد شرب السقمونيا، ألا ترى أن شفاء المريض بالدعاء خارق وبالأدوية الطبية غير خارق. فإن قلت كرامة الولي معجزة لنبيه ولا يقصد بها الإظهار وإن لزم، قلت: إن القوم عدوا الإرهاصات والكرامات من المعجزات على سبيل التشبيه والتغليب لا على أنها معجزات حقيقية.
قوله: (يمكن التوصل) هذا الإمكان هو الإمكان الخاص، فمعنى التعريف أن الدليل ما لا ضرورة في طرفي التوصل؛ أي: يجوز أن يتوصل وأن لا يتوصل، ولك أن تأخذه إمكانا عاما من جانب الوجود؛ أي: لا ضرورة في عدم التوصل.
قال السيالكوتي:
قوله: (لتبليغ الأحكام…إلخ) قال المحقق الدواني: هذا لا يشمل لمن أوحي إليه فيما يحتاج إليه؛ لكمالة في نفسه من غير أن يكون مبعوثًا إلى غيره كما قيل في حق زيد بن عمرو بن نفيل: اللهم إلا أن يتكلف. أ.هـ. وجه التكلف هو اعتبار المغايرة الاعتبارية على أنه بعد تسليم كونه نبيًّا لا نسلم أنه غير مبعوث إلى الخلق على ما نقل عنه أنه قال: أيها الناس هلموا إلي فإنه لم يبق على دين الخليل إبراهيم عليه السلام أحد غيري، والمراد بالأحكام النسب الخبرية والحمل على الخطاب وهم؛ لأنه يخرج الاعتقاديات التي هي رأس الأحكام ورئيسها.
قوله: (ولو بالنسبة إلى قوم آخرين) دفع لما قيل من أنه يخرج عن التعريف أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا لتقرير دين موسى عليه السلام كيوشع عليه السلام، وحاصل الدفع أنهم وإن لم يكونوا مبلغين بالنسبة إلى القوم الذين بلغ إليهم لكنهم مبلغون بالنسبة إلى غيرهم، وهذا خلاصة ما نقل عنه من أنه أورد على ظاهر التعريف النقض ببعض الأنبياء، كيوشع عليه السلام أمر بتقرير شرع من قبله، فهو لم يبعث للتبليغ لأنه حصل ممن قبله، فأجاب بقوله: ولو بالنسبة إلى قوم آخرين انتهى، وحاصله أن تبليغ الثاني ليس بالنسبة إلى من بلغ الأول إليهم. قوله: (وهو بهذا المعنى يساوي…إلخ) هذا ما اختاره الشارح حيث قال في شرح المقاصد: النبي إنسان بعثه الله تعالى لتبليغ أحكام الشرع وكذا الرسول انتهى، ويدل عليه قوله: وقد اشترطوا فيه…إلخ. فإنه يفهم منه أنه غير مرضي عنده.
قوله: (لكن الجمهور…إلخ) اعلم أنه قد اختلف في الفرق بين الرسول والنبي، فقال بعضهم: إنهما متساويان، فكل نبي رسول وكل رسول نبي، لا فرق إلا بحسب المفهوم، فإنه من حيث إنه قال الله تعالى: ﱡﭐ ﳎ ﳏ ﱠ وما في معناه يسمى بالرسول، ومن حيث إنه أنبأ للخلق عن الأحكام يسمى بالنبي، وهذا مذهب جمهور المعتزلة، وإليه ذهب الشارح، وقال بعضهم: النبي أعم لأن الرسول إما صاحب كتاب أو شريعة متجددة بخلاف النبي كما بينه المحشي، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقال بعضهم: إن الرسول أعم، وعرفوه بأنه إنسان أو ملك مبعوث، بخلاف النبي فإنه مختص بالإنسان.
قوله: (ويؤيده قوله تعالى…إلخ) وجه التأييد أن العطف يدل على المغايرة، فإما أن يكون الرسول مباينًا للنبي أو مساويًا أو أخص أو أعم، لا جائز أن يكون مباينًا؛ لتحققهما في بعض المواد كما قال الله تعالى في حق كل من موسى وإسماعيل عليهما السلام: ﱡﭐ ﳣ ﳤ ﳥ ﱠ ولا أن يكون مساويًا أو أعم؛ لأن نفي أحد المتساويين وكذا الأعم يستلزم نفي المساوي الآخر والأخص، فلم يحتج إلى ذكر النبي بعده فتعين أن يكون أخص، وفيه بحث؛ لأنه يجوز أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه ولم يلزم بطلانه مما سبق، وعلى تقدير التسليم يجوز أن يكون ذكره للاهتمام بنفيه، ألا ترى أن تحقق الخاص مستلزم لتحقق العام مع أنه ذكر النبي بعد الرسول كما في قوله تعالى: ﱡﭐ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞﳟ ﳠ ﳡ ﳢ ﳣ ﳤ ﳥ ﱠ وفي قوله تعالى: ﱡﭐﱑ ﱒ ﱓ ﱔﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱠ ولأجل هذا قال المحشي: “ويؤيده” دون “يدل عليه”.
قوله: (وقد دل الحديث…إلخ) تأييد ثان لكون النبي أعم، روي أنه عليه السلام سئل عن عدد الأنبياء فقال مئة وأبعة وعشرون ألفًا، وقيل: كم الرسل منهم، قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا كذافي تفسير القاضي.
قوله: (فاشترط…إلخ) أي إذا كان النبي أعم فاختلفوا في بيانه، فقال بعضهم: الكتاب شرط في الرسول، بخلاف النبي فإنه يجوز أن يكون بالوحي والإلهام وبالتنبيه في المنام.
قوله: (والكتب مائة وأربعة…إلخ) روي أنه عليه السلام سئل كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مئة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى ابراهيم عشر صحائف، وعلى موسى وعيسى وداوود ومحمد عليهم السلام التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
قوله: (اللهم إلا أن يكتفى) هذا ما ذكره السيد الشريف قدس سره في “شرح المواقف”، وقال: يشترط في الرسول أن يكون معه كتاب سواء أنزل عليه أو على من قبله لكن يكون عاملًا بالكتاب، وفيه ضعف لأنه لا يساعده النقل، ومجرد الاحتمال لا يكفيه، ولذا قال: اللهم.
قوله: (ويمكن أن يقال…إلخ) أي يمكن أن يجاب عن الاعتراض المذكور مع اشتراط النزول بأنه يجوز أن يتكرر نزول الكتب كما تكرر نزول الفاتحة، فإنها نزلت مرة بمكة ومرة بالمدينة، ولذا تسمى بالسبع المثاني لكن فيه أيضًا ما سبق من أن مجرد الاحتمال غير كاف في باب المرويات.
قوله: (وتخصيص بعض الصحف…إلخ) جواب سؤال كأنه قيل لو كان النزول متكررًا على جميع الرسل فما وجه تخصيص بعض الصحف ببعض الأنبياء على ما مرّ في الجديث السابق؟ وحاصل الجواب أنا لا نسلم صحة الروايات، وعلى تقدير التسليم فوجه التخصيص نزوله عليه أولًا. قوله: (واشترط بعضهم…إلخ) عطف على قوله: فاشترط بعضهم…إلخ. يعني اشتراط البعض الشرع الجديد في الرسول، وقالوا: إنه صاحب شريعة متجددة، بخلاف النبي فإنه قد يكون بتقرير شريعة من قبله.
قوله: (وردّه المولى الأستاذ بأن إسماعيل عليه السلام كان من الرسل) كما قال الله تعالى في حقه: ﱡﭐ ﳣ ﳤ ﳥ ﱠ مع أنه لا شرع جديدًا له لأن أبناء إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته كما صرح به القاضي حيث قال في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﳣ ﳤ ﳥ ﱠ يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة؛ لأن أولاد إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته.
قوله: (لينحصر الخبر الصادق في نوعيه) إذ لو خص الرسول يكون خبر النبي خارجًا إذ ليس بمتواتر ولا خبر الرسول.
قوله: (ويعتبر الحصر بالنسبة…إلخ) فإن الخبر الصادق بالنسبة إلى هذه الأمة منحصر في المتواتر وخبر الرسول، لكن يأبى عن هذا التخصيص تعميم الخلق في قوله: وأسباب العلم للخلق ثلاثة.
قوله: (قيل: عليه يدخل فيه سحر المتنبي…إلخ) حاصله أن تعريف المعجزة غير مانع لدخول سحر من يدعي النبوة وليس بنبي، فإنه يصدق عليه أنه أمر خارق للعادة قصد به إظهار صدق مدعي النبوة، والأولى أن يقول: يدخل فيه خارق المتنبي ليدخل فيه الأمر الخارق الذي يظهر على يد الكاذب على وفق ما ادعاه بلا مباشرة الأسباب، بخلاف السحر فإنه بمباشرة الأسباب، وحاصل الجواب الأول أن خلق الأمر الخارق على وفق ما ادعاه على يد الكاذب في دعوى النبوة ممتنع عادي من الله تعالى لأن الخارق فعل الله تعالى يخلقه لإظهار صدق النبي، فلو أظهره على يد الكاذب يكون تصديقًا للكاذب وهو محال على الله تعالى، فظهور الخارق على وفق المدعي على يد الكاذب المتنبي محال، وهذا الجواب مبني على ما تقرر عندهم من أن الأمر الخارق الذي قصد به إظهار الصدق فعل الله تعالى بلا واسطة لأن التصديق منه لا يحصل بما ليس من قبله، فيخلقه على يد الصادق إظهارًا لصدقه، ولا يخلقه على يد الكاذب لاستحالة تصديق الكاذب منه تعالى، لا كما زعمه الفاضل الجلبي من أنه مبنيّ على أن جميع الممكنات صادرة بإرادة الواجب من غير واسطة، فإنه إن تم تم وإلا فلا، وإنما قيدنا الكاذب بكونه في دعوى النبوة لأنه يجوز ظهور الخارق الموافق على يد المتاله لأنه لا يوجب تصديق الكاذب لأن حاله مكذب لمقاله، ويرد عليه الإرهاص ظاهرًا والإهانه وهو أن يظهر أمر خارق للعادة على يد المتنبي على خلاف ما ادعاه لأنه خارق للعادة قصد به إظهار صدقه وليس بممتنع ظهوره بل واقع على ما نقل في حق مسيلمة الكذاب أنه دعا لأعور فصارت عينه الصحيحة عوراء، فلا بد فيه من قيد على وفق ما ادعاه إلا أن يقال: المراد بالقصد إرادة الفاعل وهو الله تعالى إما لأنه لا فاعل غيره تعالى أو لأنه شرط في المعجزة أن يكون فعله تعالى وحينئذ لا يرد شيء مما ذكر.
قوله: (ولا نقض بالفرضيات) يعني أن جواز ظهور الخارق على يد المتنبي لا يصير نقضًا لتعريف المعجزة، إذ لا بد في النقض من تحقق المادة وإلا لأمكن أن يقال: يمكن أن يكون إنسان ليس بناطق ردًّا على تعريفه بالحيوان الناطق.
قوله: (وأيضًا إظهار الشيء فرع وجوده…إلخ) يعني لو فرض صدور الخارق على يد الكاذب المتنبي، فهو خارج عن التعريف بقوله: قصد به إظهار صدق من ادعى…إلخ. لأن إظهار الصدق فرع وجوده، ولا صدق في مادة المتنبي، فلا يكون الخارق الظاهر على يده معجزة، فإن قيل: على هذا يقع الالتباس بين المعجزة وسحر المتنبي لأن كلًّا منهما أمر خارق للعادة ظهر على يد مدعي النبوة، والاطلاع على أنه قصد بأحدهما إظهار الصدق دون الآخر مشكل، فيفوت ما هو الحكمة في إظهار المعجزة وهو امتياز النبي عن غيره، قلت: يحصل الفرق بينهما بأن يقدر الله تعالى غيره على معارضة المتنبي عند التحدي بخلاف المعجزة لئلا يلزم تصديق الكاذب منه تعالى، وبهذا ظهر فساد ما قاله الفاضل الجلبي من أنه يرد عليه أن هذا صحيح لكن لا يفيد غرضنا لأن الغرض بيان طريق معرفة النبوة، وهو لا يحصل، فإن من ادعى النبوة وأظهر على يده الخارق لا يعلم أن هذا الخارق معجزة ما لم يعلم أن تلك الدعوى صادقة على التقدير المذكور، والحال أن صدقها إنما يعلم من المعجزة، فيلزم الدور لأنا لا نسلم أن العلم بأن هذا الخارق معجزة يتوقف على العالم بأن تلك الدعوى صادقة، فإن العلم بأن هذا الخارق معجزة إنما يتوقف على العلم بالعجز عن إتيان مثله عند التحدي تأمل.
قوله: (والحق…إلخ) أي الحق في الجواب أن السحر ليس أمرًا خارقًا للعادة كما أن الطلسم ومايترتب على خصائص بعض الأشياء كالمغناطيس والكهرباء ليس أمرًا خارقًا للعادة، فلا يدخل في المعجزة لأن معنى ظهور الخارق هو أن يظهر أمر لم يعهد ظهور مثله عن مثله، وههنا ليس كذلك لأن كل من باشر الأسباب المختصة يتريب عليها ذلك بطريق جري العادة الإلهية، وما قيل من أنه لا يندفع التباس المعجزة بالسحر على هذا التقدير فمدفوع بما مر من أنه لا يمكن معارضة المعجزة لأنه فعل الله تعالى لا مدخل لمباشرة الأسباب فيه يخلقه الله على يد الصادق فقط لتصديقه، بخلاف السحر فإن فيه مدخلًا لمباشرة الأسباب يخلقه على يد كل من باشره عادة، *قال الفاضل المحشي: والحق أن السحر قد يكون من الخارق، فإنه ربما يحتاج إلى شرائط لا تكون مقدورة للبشر كالوقت والمكان ونحوهما انتهى، وفيه أنه لا يشترط في عدم كون الفعل من الخوارق أن يكون جميع شرائطه مقدورًا، بل يكفيه أن يحصل بعد مباشرة الأسباب سواء كانت مقدورة أو لا، وإلا لزم أن تكون حركة البطش أيضًا من الخوارق لتوقفه على سلامة الأعصاب والعضلات وصحة البدن التي ليست مقدورة للبشر، بقي شيء وهو أن هذا الجواب لا يدفع النقض بالخارق الذي يظهر على يد المتنبي بدون مباشرة الأسباب، فلا بد من الالتجاء إلى الجواب الأول من أنه لا يظهر على يده حين ادعائه النبوة، ولذا أهمل القوم هذا الجواب لا أنهم لم يتفطنوا لعدم كون السحر من الخوارق، بل الأظهر أن مرادهم بسحر المتنبي مطلق الخارق الذي يظهرعلى يده ولو مجازًا.
قوله: (فإن قلت كرامة…إلخ) انتقاض لتعريف المعجزة بطريق الجمع بأنه يخرج منه كرامات الأولياء لعدم قصد إظهار صدق النبي منه مع أنهم عدوها من المعجزات؛ لأن المقصود من خلق الخارق على يد الولي إظهار كرامته وشرافته بين الخلائق وأن يدل على صدق النبي أيضًا باعتبار أنه حصل للولي هذه الكرامة بمتابعته، وما قيل في الجواب من أنه ليس المراد بقصد إظهار الصدق أن يكون الغرض منه إظهار الصدق لأن أفعال الله تعالى ليست بمعللة، بل المراد أن يكون ذلك الفعل دالًّا عليه، ولا شك أن كرامات الولي تدل على صدقه وينكشف به صدقه، ففيه أنه لو كان ظهور الخارق على يد غير مدعي النبوة دالًّا على صدقه لما شرطوا في المعجزة أن يكون ظاهرًا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له تامل.
قوله: (قد عدوا الإرهاصات…إلخ) جمع الإرهاص، وهو الخارق الذي يظهر قبل بعثة النبي، سمي إرهاصًا لكونه تأسيسًا لقاعدة النبوة من أرهصت الحائط إذا أسسته.
قوله: (على سبيل التشبيه) متعلق بالكرامات أي تشبيه ما ظهر علي يد الولي بما ظهر على يد النبي باعتبار أنه صدر عن الولي بسبب متابعة النبي، فكأنه صدر عن النبي، والتغليب متعلق بالإرهاصات أي تغليب ما صدر بعد البعثة على ما صدر قبلها.
قوله: (هو الإمكان الخاص) يعني أن الظاهر أن يكون هذا الإمكان مقصورًا على الإمكان الخاص، والمعنى أن التوصل بالنظر الصحيح في الدليل إلى العلم ليس بضروري، ولا عدم التوصل به إليه ضروري، أي يجوز أن يتوصل بالنظر الصحيح إلى العلم وأن لا يتوصل؛ لأن أصحاب هذا التعريف أهل السنة، القائلون: بأن فيضان النتيجة بعد النظر الصحيح إنما هو بطريق جري العادة وليس بضروري، فما قاله الفاضل المحشي: أي يجوز أن يتوصل وأن لا يتوصل بالنظر إلى ذات الدليل كالعالم؛ فإنه يجوز أن يتوصل به إلى العلم بوجود الصانع وأن لا يتوصل، وأما الضرورة الحاصلة عند حصول النظر الصحيح فيه فهو لا ينافي الإمكان في نفسه، والإمكان العام ههنا هو الظاهر المتبادر كما لا يخفى، ففساده لا يخفى.
قوله: (ولك أن تأخده إمكانًا عامًا) أي ولك أن تأخذ الإمكان الإمكان العام المقيد بجانب الوجود، والمعنى أن عدم التوصل بالنظر الصحيح إلى العلم ليس بضروري، سواء كان التوصل به إليه ضروريًا إما بطريق الإعداد كما هو مذهب الحكماء، أو بطريق التوليد كما هو مذهب المعتزلة، أو لا يكون ضروريًا بل بطريق جري العادة كما هو مذهب أهل السنة، فيصح التعريف على المذاهب الثلاثة. قال سيد المحققين قدس سره في حاشية شرح المختصر العضدي: وإنما قيل: يمكن التوصل تنبيهًا على أن الدليل من حيث هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل بل يكفي إمكانه، ولا يخرج عن كونه دليلًا بأن لا ينظر فيه أصلًا، ولو اعتبر وجوده يخرج عن التعريف دليل لم ينظر فيه أحد أبدًا، وقيد النظر بالصحيح أي المشتمل على شرائطه صورة ومادة؛ لأن الفاسد لا يمكن التوصل به إذ ليس هو سببًا للتوصل ولا آلة له، وإن كان قد يفضي إليه فذلك إفضاء اتفاقي وليس من حيث كونه وسيلة، فلو لم يقيده وأريد العموم خرجت الدلائل بأسرها إذ لا يمكن التوصل بكل نظر فيها، ولو أريد على الإطلاق؛ أي: نظر ما لم يكن هناك تنبيه على افتراق الفاسد عن الصحيح في هذا الحكم وتقييد المطلوب بالخبري لإخراج القول الشارح. انتهى كلامه. وهذا التعريف مختص بالبرهان؛ لأن التوصل إلى العلم بالمطلوب أي اليقين إنما هو بالبرهان، وحمل العلم على الأعم الشامل للجهل والظن خلاف مصطلح المتكلمين، كما أن تعريف الثاني؛ أعني: قوله: قول مؤلف من أقوال…إلخ، مختص به إذ لا استلزام في الظنيات في نفس الأمر، إذ لا علاقة بين الظن وبين شيء يستفاد منه؛ لانتفائه مع بقاء سببه الذي يتوصل منه إليه، وأما حمل الاستلزام على العقلي؛ بمعنى أنه متى وجد في الذهن وجد الآخر فيه ليدخل الأمارات في التعريف أيضًا، فهو مخالف لما ذكره الشارح في حواشي شرح المختصر العضدي من أنه لا استلزام بين الظن وما يوجبه.
قال الباجوري:
قوله: (والنوع الثاني) أي: من نوعي الخبر الصادق.
قوله: (خبر الرسول) لعل المصنف اختار القول بأن الرسول والنبي مترادفان؛ ليصح حصر الخبر الصادق في نوعيه، فإنه لو اختار القول بأن الرسول أخص من النبي، كما هو مذهب الجمهور وهو المشهور، لم يصح الحصر المذكور لخروج خبر النبي الذي ليس برسول عن النوعين الذين ذكرهما المصنف، ويمكن أن يختار القول بأن الرسول أخص من النبي، ويعتبر الحصر بالنسبة إلى هذه الأمة، فإن الخبر الصادق بالنظر لهذه الأمة منحصر في المتواتر وخبر الرسول؛ لأن نبيها عليه الصلاة والسلام رسول أيضا، لكن يأبى هذا الاعتبار تعميم الخلق في قوله “وأسباب العلم للخلق ثلاثة” فإنه شامل لغير هذه الأمة أيضا.
قوله: (المؤيد) أي المقوى من التأييد وهو التقوية. ولما كان غاية التقوية ثبوت الرسالة، فسر الشارح المؤيد بالثابت رسالته، فهو تفسير للشيء بلازمه.
وقوله: (الثابت رسالته) أي: كونه رسول الله.
وقوله: (بالمعجزة) متعلق بالمؤيد.
قوله: (والرسول إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق لتبليغ الأحكام) اعترض هذا التعريف بأنه لا يشمل أنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا لتقرير شريعة موسى عليه السلام كيوشع، فإنهم لم يبعثوا إلى الخلق لتبليغ الأحكام؛ لأن التبليغ قد حصل من موسى عليه السلام. وأجيب بأن المعتبر تبليغ الأحكام، ولو بالنسبة إلى قوم آخرين. فالأنبياء الذين بعثوا لتقرير شريعة موسى ليسوا مبلغين للقوم الذين بلغ إليهم موسى، لكنهم مبلغون إلى قوم آخرين كذريتهم. واعلم أن الشارح ذكر هذا التعريف في شرح المقاصد للنبي، ثم قال عقبه: “وكذا الرسول” فيكون مختارا للقول بالترادف، فالرسول بهذا المعنى يساوي النبي على ما اختاره الشارح في شرح المقاصد، لكن الجمهور على أن النبي أعم من الرسول، ويؤيده قوله تعالى: ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﱠ ووجه التأييد أن النبي عطف على الرسول، فإما أن يكون الرسول مباينا لتحققهما للنبي أو مساويا أو أخص أو أعم، لا جائز أن يكون مباينا لتحققهما في بعض المواد، ولا أن يكون مساويا ولا أعم؛ لأن نفي المساوي أو الأعم يستلزم نفي المساوي الآخر والأخص، وحينئذ لا يحتاج لذكر النبي بعده، فتعين أن يكون أخص، لكن بقي أنه يجوز أن يكون بينهما عموم وخصوص من وجه، ولم يلزم بقائه مما سبق؛ ولهذا عُبِّر بالتأييد دون الاستدلال. فإن المؤيد يكفي فيه الاحتمال بخلاف الدليل، فإنه متى طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال.
قوله: (الشرعية) أي: المنسوبة للشرع عملية كانت أو اعتقادية، فالحكم هنا بمعنى النسبة التامة، والحمل على الخطاب وهم؛ لأنه يخرج الاعتقاديات التي هي رأس الأحكام وأساسها.
قوله: (وقد يشترط فيه الكتاب) وسبب ذلك أن الحديث قد دل على أن عدد الأنبياء أزيد من عدد الرسل، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن عدد الأنبياء فقال: مائة وأربعة وعشرون ألفا، فقيل: كم الرسل منهم؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشر كذا في تفسير القاضي، فلذلك اشترط بعضهم في الرسول الكتاب. واعترض عليه بأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والكتب مائة وأربعة، فلا يصح هذا الاشتراط، اللهم إلا أن يكتفى بالكون معه، ولا يشترط النزول عليه، وهذا ما ذكره السيد في “شرح المواقف”، فإنه قال: ويشترط في الرسول أن يكون معه كتاب سواء أنزل عليه أو على من قبله، لكن يكون عاملا بالكتاب. ويمكن أن يقال: يحتمل أن يتكرر نزول الكتب كما في الفاتحة، فإنها نزلت مرة في مكة ومرة في المدينة؛ ولذا تتسمى بالسبع المثاني، لكن فيه أن مجرد الاحتمال غير كاف في باب المرويات. فإن قيل لو تكرر نزول الكتب ما وقع تخصيص بعض الصحف ببعض الأنبياء في الروايات، فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل: كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى اُخْنُوخ أي إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى وعيسى وداود ومحمد التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. أجيب: بأنا لا نسلم صحة هذه الروايات، وعلى تقدير صحتها فتخصيص بعض الصحف ببعض الأنبياء لنزوله عليه أولا، واشترط بعضهم فيه الشرع الجديد، فالرسول من بعثه الله إلى الخلق بشريعة جديدة يدعو الناس إليها، والنبي يعمد ومن بعث لتقرير شرع من قبله، ورده المولى الأستاذ سلّمه الله بأن إسماعيل عليه السلام من الرسل كما قال تعالى في حقه ﭿ ﰔ ﰕ ﰖ ﭾ ولا شرع له جديد، كما صرح به القاضي حيث قال في تفسير قوله تعالى: ﱡﭐ ﳣ ﳤ ﳥ ﱠ يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة؛ لأن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.
قوله: (بخلاف النبي) يحتمل أن يكون راجعا لكل من قوله “بعثه الله تعالى لتبليغ الأحكام” وقوله “وقد يشترط فيه الكتاب” وعلى هذا يكون التعريف المذكور، تعريفا لخصوص الرسول، وأما تعريف النبي: فهو إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يبعثه الله إلى الخلق، لتبليغ ذلك الشرع، وهذا هو المشهور كما تقدم. ويحتمل أن يكون راجعا لخصوص قوله “وقد يشترط فيه الكتاب” وعليه يكون التعريف المذكور تعريفا للنبي أيضا، وهذا هو ما درج عليه الشارح في شرح المقاصد كما سبق.
قوله: (فإنه أعم) أي عموما مطلقا فكل رسول نبي ولا عكس.
قوله: (والمعجزة أمر خارق للعادة…إلخ) أي أمر مخالف للعادة الإلهية، ودخل في الأمر الفعل: كانشقاق القمر، والترك: كعدم إحراق النار لإبراهيم عليه السلام، والقول: كالإخبار عن المغيبات، وخرج بالخارق للعادة ما ليس خارقا لها فليس بمعجزة، والتقييد بالخارق للعادة يغني عن التقييد بتعذر المعارضة، فإن من شأن الخارق للعادة تعذر المعارضة. واعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه سحر المتنبي؛ أي: من يدعي النبوة وليس بنبي فإنه يصدق عليه التعريف المذكور. وأجيب بأجوبة ثلاثة، الجواب الأول: أنه تعالى لا يخلق الخارق للعادة على يد الكاذب بحكم العادة، فخلق الخارق للعادة على يد الكاذب ممتنع عادة، لا يقال نفرض ذلك وننقض التعريف به؛ لأنه ممكن عقلا لأنا نقول لا نقض، وإلا لانتقض تعريف الإنسان بالحيوان الناطق لأنا نفرض أن يكون إنسان غير ناطق وننقض التعريف به؛ لأنه ممكن عقلا. الجواب الثاني: أنه لو فرض ظهور الخارق للعادة على يد المتنبي فهو خارج من التعريف المذكور؛ لأنه لم يقصد به إظهار صدقه؛ إذ إظهار الصدق فرع وجوده، ولا صدق في مادة المتنبي. قال الفاضل الجلبي: يرد عليه أن هذا صحيح في نفسه، لكن لا يفيد الغرض من بيان طرق معرفة النبوة، فإن من ادعى النبوة وظهر على يده الخارق للعادة لا يعلم أن هذا الخارق معجزة أو لا، فإنه لا اطلاع لنا على أنه قصد به إظهار الصدق أو لا، فلم يتميز النبي من غيره، وأيضا يلزم عليه الدور؛ لأنا لا نعلم أنه قصد به إظهار الصدق إلا إذا علمنا أنه معجزة، ولا نعلم أنه معجزة إلا إذا علمنا أنه قصد به إظهار الصدق. ودفعه العلامة عبد الحكيم بأن الخارق للعادة يعلم أنه معجزة بالعجز عن الإتيان بمثله عند التحدي؛ لأنه إذا لم يكن هذا الخارق معجزة، يقدر الله تعالى شخصا على معارضته عند التحدي، فلا يتوقف العلم بأن الخارق للعادة معجزة على العلم بأنه قصد به إظهار الصدق حتى يلزم الدور. الجواب الثالث: أن الحق إن السحر ليس خارقا للعادة، وإن أطبق القوم على أنه خارق للعادة، فيكون سحر المتنبي خارجا بقوله “خارق للعادة”؛ لأن معنى الخارق للعادة الأمر الذي لم يترتب على أسباب، والسحر مما يترتب على أسباب، كلما باشرها أحد يخلقها الله تعالى عقبها ألبتة، فيكون من ترتيب الأمور على أسبابها: كالإسهال بعد شرب السقمونيا، ويدل على ذلك أن شفاء المريض بالدعاء خارق للعادة وبالأدوية الطبية غير خارق. قال الفاضل المحشي: والحق أن السحر قد يكون خارقا للعادة، فإنه ربما يحتاج إلى شرائط لم تكن مقدورة كالوقت والمكان ونحوهما.أ.ه. ورده العلامة عبد الحكيم بأن غير الخارق ما يحصل بعد مباشرة الأسباب، سواء كانت الشرائط مقدورة أم لا، وإلا لزم أن تكون حركة البطش خارقة للعادة؛ لتوقفها على سلامة الأعصاب والعضلات وصحة البدن، وهي ليست مقدورة، واعترض أيضا على هذا التعريف بأنه غير جامع؛ لأنه يخرج منه كرامة الولي، وهي أمر خارق للعادة يخلقه الله تعالى على يد الولي؛ إظهارا لكرامته بين الخلائق مع أنها معجزة لنبيه؛ لأنها إنما حصلت للولي بسبب متابعته لنبيه، ويخرج منه أيضا الإرهاص وهو أمر خارق للعادة يظهر قبل البعثة تأسيسا للنبوة مع أنه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام. وأجيب بأن كلا منهما ليس معجزة حقيقة، وإنما عد القوم الكرامات من المعجزات على سبيل التشبيه، فإنهم شبهوا ما ظهر على يد الولي بما ظهر على يد النبي، باعتبار أنه ظهر على يد الولي بسبب متابعته للنبي فكأنه ظهر على يد النبي. وعدوا الإرهاصات من المعجزات على سبيل التغليب، فإنهم غلبوا ما صدر بعد البعثة على ما صدر قبلها.
قوله: (قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله) أي: أو نبي الله لتدخل معجزة النبي الذي ليس برسول، وأقحم لفظ “إظهار”؛ إشارة إلى أن الصدق سابق على هذا القصد، وخرج بذلك ما لم يقصد به ذلك من الخارق للعادة بأن قام القاطع على كذب من ظهر على يده: كالدجال، أو كان مخالفا لقوله، ويسمى بالإهانة كما وقع لمسيلمة الكذاب فإنه دعا لأعور فعمي، أو كان مكذبا له كأن قال معجزتي أن ينطق هذا الضب فقال الضب: إنه كاذب.
قوله: (وهو يوجب العلم الاستدلالي) أي بخلاف الخبر المتواتر فإنه يوجب العلم الضروري كما تقدم. والفرق بينهما: أن العلم الحاصل بالخبر المتواتر لا يتوقف على الاستدلال؛ لأنه يحصل بالمستدل وغيره كما مر، والعلم الحاصل بخبر الرسول يتوقف على الاستدلال كما سيذكره الشارح.
قوله: (أي الحاصل بالاستدلال) أشار بذلك إلى أن نسبته إلى الاستدلال لحصوله به.
وقوله: (أي النظر في الدليل) تفسير للاستدلال، ولو فسره بإقامة الدليل لكان أولى؛ ليشمل ذكر الدليل بمعنى القول المؤلف من قضايا. فإن التفسير الذي ذكره لا يشمل ذلك؛ لعدم صحة تعلق النظر الذي هو بمعنى الترتيب به؛ لوجوده فيه، فلو تعلق به لزم تحصيل الحاصل وهو محال.
قوله: (وهو الذي يمكن التوصل…إلخ) هذا التعريف للأصوليين، وإنما عبر بالإمكان؛ تنبيها على أن الدليل لا يشترط فيه التوصل بالفعل، بل يكفي فيه إمكان التوصل، وإن لم يحصل التوصل بالفعل، كما في الدليل الذي لم ينظر فيه أحد أصلا. والظاهر أن هذا الإمكان من قبيل الإمكان الخاص، الذي هو سلب الضرورة بمعنى الوجوب عن الطرفين، أي الطرف الموافق لما نطقت به والطرف المخالف له، وعليه فمعنى التعريف أن الدليل ما لا ضرورة في طرفي التوصل، أي: يجوز أن يتوصل وأن لا يتوصل. وهذا موافق لما ذهب إليه بعض أهل السنة من أن لزوم العلم بالنتيجة للعلم بالدليل عادي. ولك أن تأخذه إمكانا عاما من جانب الوجود الذي هو سلب الضرورة بمعنى الوجوب عن الطرف المخالف لما نطقت به، فيجعل الطرف الموافق وجود التوصّل، والطرف المخالف عدم وجود التوصّل، وعليه فالمعنى أن لا ضرورة في عدم وجود التوصل، ونفي الضرورة صادق بالجواز والاستحالة. فإن قلنا بجواز عدم وجود التوصل وكان وجود التوصل جائزا، وعليه يكون اللزوم بين العلم بالدليل والعلم بالنتيجة عاديا، وهو ما ذهب إليه بعض أهل السنة كما علمت. وإن قلنا باستحالة عدم وجود التوصل كان وجود التوصل واجبا، وعليه يكون اللزوم بين العلم بالدليل والعلم بالنتيجة عقليا، وهو ما ذهب إليه بعضهم.
قوله: (بصحيح النظر فيه) أي بالنظر الصحيح في الدليل، فإضافة صحيح للنظر من إضافة الصفة للموصوف، والضمير راجع للدليل. وقيد النظر بالصحيح وهو المشتمل على شروط الإنتاج صورة ومادة؛ لأن الفاسد لا يمكن التوصل به وإن كان قد يفضي إليه، فذلك اتفاقي. والظن أن المراد بالنظر فيه ما يعم النظر في أحواله والنظر في نفسه، وعليه فالتعريف شامل للدليل المفرد كالعالم؛ لأنه ينظر في أحواله بأن يطلب من أحواله ما هو وسط مستلزم للحال المطلوب إثباته، فترتب مقدمتان؛ كأن يقال: العالم حادث وكل حادث له صانع، فينتج أن العالم له صانع وهو المطلوب الخبري، وشامل للمقدمات غير المرتبة؛ لأنها ينظر في نفسها، وذلك كمقدمة العالم حادث ومقدمة كل حادث له صانع من غير ترتيب؛ لأنها لو كانت مترتبة لم يصح تعلق النظر بها للزوم تحصيل الحاصل حينئذ. ويحتمل أن المراد بالنظر فيه، النظر في أحواله لا ما يعمد والنظر في نفسه حتى يلزم كون المقدمات غير المرئية دليلا، وعليه فالتعريف قاصر على الدليل المفرد كالعالم. وهذا الاحتمال هو ظاهر قول الشارح، فعلى الأول الدليل على وجود الصانع تعالى هو العالم، لكن لا يخفى أنه خلاف الظاهر والاصطلاح، فإنهم يقسمون الدليل إلى المفرد وغيره، وسيأتي الجواب عن كلام الشارح.
قوله: (إلى العلم بمطلوب خبري) أي: إلى التصديق اليقيني بالمطلوب الخبري، وقيد المطلوب بالخبري للاحتراز عن المطلوب التصوري، فإن الذي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم به يسمى قولا شارحا، لا دليلا، ويؤخذ من تعبيره بالعلم أن هذا التعريف مختص بالبرهان؛ لأن التوصل إلى العلم إنما هو بالبرهان، وحمل العلم على الأعم الشامل للجهل والظن خلاف مصطلح المتكلمين.
قال الشارح: وقيل: قول مؤلف من قضايا يستلزم لذاته قولاً آخر. فعلى الأول الدليل على وجود الصانع هو العالم، وعلى الثاني: قولنا: العالم حادث، وكل حادث له صانع. وأما قولهم: الدليل هو الذي يَلزمُ منالعِلمِ به العِلمُ بشيء آخر، فبالثاني أوفق. أما كونه موجباً للعلم فللقطع بأن من أظهر الله المعجزة على يده تصديقاً له في دعوى الرسالة، كان صادقاً فيما أتى به من الأحكام، وإذا كان صادقاً يقع العلم بمضمونها قطعاً. وأما أنه استدلالي فلتوقفه على الاستدلال واستحضار أنه خبر من ثبتت رسالته بالمعجزات، وكل خبر هذا شأنه فهو صادق ومضمونه واقع.
قال الخيالي:
قوله: (يستلزم لذاته) إنما لم يقل لذاتها؛ إشارة إلى دخول الصورة في الاستلزام. فإن قلت: التعريف يعم المعقول والملفوظ، مع أن تلفط الدليل لا يستلزم المدلول، قلت: بل يستلزم بناء على أن التلفظ يستلزم التعقل بالنسبة إلى العالم بالوضع. هذا في القول الأول وأما القول الأخير فيختص بالمعقول؛ إذ لا يجب تلفظ المدلول.
قوله: (هو العالم) هذا الحصر مبني على أن المراد بالنظر فيه: هو النظر في أحواله فقط، لا ما يعمه والنظر في نفسه حتى يكون المقدمات دليلا، لكن لا يخفي أنه خلاف الظاهر والاصطلاح؛ فإنهم يقسمون الدليل إلى المفرد وغيره.
قوله: (هو الذي يلزم من العلم به) المراد بالعلم التصديق بقرينة أن التعريف للدليل، فخرج الحد بالنسبة إلى المحدود، والملزوم بالنسبة إلى اللازم، ومن لزومه من أمر آخر كونه ناشئا وحاصلا منه كما هو مقتضي كلمة “من” فإنه فرق بين اللازم للشيء واللازم من الشيء، فتخرج القضية الواحدة المستلزمة لقضية أخرى بديهية أو كسبية، لكن يرد عليه ما عدا الشكل الأول؛ لعدم اللزوم بين علم المقدمات، على هيئة غير الشكل الأول، وبين علم النتيجة، لا بينا وهو ظاهر ولا غير بين؛ لأن معناه خفاء اللزوم والخفاء بعد الوجود وأيضا يرد عليه المقدمات التي يحصل بالحدس منها النتيجة، وهي بعينها واردة على التعريف الثاني. اللهم إلا أن يراد بالاستلزام واللزوم ما يكون بطريق النظر بقرينة أن التعريف للدليل.
قوله: (فبالثاني أوفق) لكن يمكن تطبيقه على الأول، فإن العلم بالعالم من حيث حدوثه يستلزم العلم بالصانع، ولا يذهب عليك أن هذا شامل للمقدمات بخلاف الأول على ما أخذه الشارح، والعام لا يوافق الخاص في باب التعريفات، وتخصيصه مثل الأول خروج عن مذاق الكلام، والصواب تعميم الأول.
قوله: (تصديقا له) يريد أن الخارق الدال على الصدق هو الذي قصد به التصديق، وأما ما يظهر على من يدعي الألوهية من الخوارق فليس بتصديق له؛ لأن كذبه معلوم بالأدلة القطعية، فهو استدراج له وابتلاء لغيره.
قوله: (كان صادقا فيما أتى به من الأحكام) إذ لو جاز كذبه في ذلك عقلا لبطل دلالة المعجزة هذا خلف هذا في الأمور التبليغية وأما في سائرها فالوجه في إيجابه العلم بها، هو أنه ثبت بالأدلة القاطعة عصمته عن الذنوب فلا يكون كاذبا.
قوله: (فلتوقفه على الاستدلال) قيل إذا تصور مخبره بالرسالة لم يحتج إلى ترتيب هذا النظر، وأجيب بأن تصور المخبر موقوف على الاستدلال، فتوقف خبره أيضا بالواسطة والكل غلط؛ لأن تصور المخبر بالرسالة لا يجعل صدق الخبر بديهيا. نعم تصور الخبر بعنوان ما بلغه الرسول يجعل صدقه بديهيا، لكن الكلام في صدق الخبر الملحوظ من حيث ذاته، ونظيره أن ثبوت الحدوث للعالم الملحوظ من حيث ذاته نظري ومن حيث عنوان المتغير بديهي، فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: ( إنما لم يقل لذاتها…إلخ) يعني في إيراد الضمير الواحد المذكر الراجع إلى المؤلف الواحد، باعتبار الهيئة العارضة من التأليف إشارة إلى
أن للصورة الحاصلة بعد ترتيب المقدمتين مدخلًا في استلزامه النتيجة، ولايخفى أنه إن أريد بالاستلزام الذاتي امتناع الانفكاك عنه لذاته عقلًا كما هو المتبادر، لا يصح التعريف إلا على مذهب الحكماء والمعتزلة، وإن أريد امتناع الانفكاك في الجملة سواء كان عقليًا أو عاديًا يصح على رأي الأشاعرة أيضًا، والمراد بقوله: لذاته أن لا يكون بواسطة مقدمة غريبة، إما أجنبية كما في قياس المساواة، أو لازمة لإحدى المقدمتين بطريق عكس القيد، وباقي القيود ظاهرة.
قوله: ( فإن قلت التعريف…إلخ) يعني أن القوم اتفقوا أن تعريف الدليل بأنه مؤلف من أقوال يشمل الدليل الملفوظ والمعقول على ما ذكر في الكتب، مع أن تلفظ الدليل لا يستلزم المدلول فكيف يصح قولهم بالشمول، وبما حررنا ظهر أن لا حاجة إلى أن يقال: أي يجب أن يعمها بناءً على أن الملفوظ من مواد المعرف كالمعقول، ولايرد أيضًا ما قيل: أن الأولى أن يقول بدل التعريف المعرف بالفتح، وما قيل: إن النظر إنما هو في الدليل العقلي دون اللفظي، فحمل التعريف على ما يعم الدليل اللفظي لا يناسب المقام؛ لأن مقصود المحشي ليس أن تعريف الدليل ههنا محمول على مايعم اللفظي والعقلي، بل المراد أن تعميمه كيف يصح.
قوله: (قلت…إلخ) حاصله أن تلفظ الدليل يستلزم التعقل بالنسبة إلى العالم بالوضع، بمعنى أن التلفظ آلة لملاحظة ذلك التعقل بالنسبة إلى العالم بالوضع، وليس المقصود من التلفظ إلا إحضار ذلك التعقل في الذهن، فالملفوظ المستلزم ههنا هو المعاني إلا أنه في قالب الألفاظ فيصدق عليه أنه مؤلف يستلزم لذاته قولًا آخر، بمعنى أنه كلما تلفظ به العالم بالوضع لزمه العلم بمطلوب خبري. غاية مافي الباب أن يكون الاستلزام بالنسبة إلى بعض الأشخاص، وليس المراد أن الملفوظ يستلزم المعقول، وهو يستلزم المدلول فالملفوظ يستلزم المدلول؛ لأن لازم اللازم لازم حتى لا يكون الاستلزام لذاته بل لمقدمة أجنبية، إذ ليس تعقل الملفوظ إلا تعقل معانيه، فليس ههنا قياس ملفوظ مستلزم للمعقول المستلزم للمدلول حتى يلزم ما ذكر. فتأمل.
قوله: (هذا في القول الأول) أي هذا التعميم والشمول للملفوظ والمعقول إنما هو في لفظ القول المذكور في أول التعريف الذي هو دليل، وأما لفظ القول المذكور في آخره الذي هو مدلول فهو مختص بالمعقول، إذ لا يجب تلفظ المدلول فلا يلزم تلفظ المدلول من تلفظ الدليل ولا من تعقله وإلا ظهر أن يقال: هذا في المؤلف وأما القول فهو مختص بالمعقول هذا، والحق أن إطلاق الدليل على الملفوظ مجاز باعتبار دلالته على ما هو الدليل في الحقيقة؛ أعني: المعقول.
قوله: (هذا الحصر…إلخ) أي الحصر المستفاد من تعريف المبتدأ بلام الجنس، وهو أن الدليل مقصور على المفرد كالعالم مبني على أن يكون المراد بالنظر فيه في قوله: مايمكن التوصل بصحيح النظر فيه النظر في أحواله وصفاته، بأن يطلب من أحواله ما هو وسط مستلزم للحال المطلوب إثباته حاصل للمحكوم عليه، ويترتب مقدمتان إحداهما من الوسط والحال المطابق إثباته ويحصل منهما المطلوب الخبري، وأما إذا كان المراد بالنظر فيه مايعم النظر في أحواله وفي نفسه على ما هو الظاهر فلا يصح الحصر، إذ يلزم حينئذ أن يكون المقدمات الغير المأخوذة مع الترتيب أيضًا دليلًا؛ لأنه يمكن أن يتوصل بالنظر في نفس تلك المقدمات بأن يترتب ترتيبًا صحيحًا مستجمعًا لشرائط الإنتاج إلى المطلوب الخبري، وأما المقدمات المأخوذة مع الترتيب فلا يصدق عليه التعريف أصلًا، إذ لا معنى للنظر فيه كذا حققه السيد السند قدس سره في حاشية شرح المختصر العضدي و”شرح المواقف”، وبما ذكرنا ظهر فساد ما زعم الفاضل الجلبي في حل قوله: حتى يلزم كون المقدمات أي كون المقدمات المرتبة أو ترتيبها دليلًا.
قوله: (حتى يلزم كون…إلخ) متعلق بالمنفي لا النفي.
قوله: (لكن لا يخفى أنه خلاف الظاهر…إلخ) يعني لا يخفى أن كون المراد من النظر فيه النظر في أحواله فقط أنه خلاف الظاهر إذ الظاهر العموم، بل أن يكون في نفسه كما هو المتبادر من الظرفية وخلاف الاصطلاح؛ لأنهم متفقون على انقسام الدليل إلى المفرد وغيره، وعلى التقدير المذكور يكون مختصًا بالمفرد على ما مر، فلا يصح الإرادة المذكورة فلا يصح الحصر الذي ذكره الشارح، وأجيب بأن الحصر في قوله: هو العالم ليس هو حقيقيًا بل بالإضافة إلى مثل قولنا: العام حادث وكل حادث فله صانع، والحاصل أن الدليل على التعريف الأول هو العالم أي ليس قولنا: العالم حادث كل حادث فله صانع يعني المقدمات المأخوذة مع الترتيب، فلا ينافي تقسيم الدليل على التعريف الأول إلى المفرد وغيره من المركبات الغير المأخوذة مع الترتيب، قال بعض الفضلاء: فيه أن صحة هذا التقسيم مبنية على أن يراد بالنظر فيه مايعم النظر في نفسه فلا يصح حينئذ حصر الإضافي أيضًا، إذ يلزم أن يكون مثل قولنا: العالم حادث وكل حادث فله صانع دليلًا على وجود الصانع على الأول أيضًا، أقول: إن أرد أنه يلزم أن تكون المقدمات المأخوذة مع الترتيب دليلًا على الأول فاللزوم ممنوع؛ إذ لامعنى للنظر فيه، وإن أراد أنه يلزم أن تكون المقدمات بدون اعتبار الترتيب دليلًا فاللزوم مسلم، وهو لا ينافي الحصر المذكور؛ إذ الحصر بالنسبة إلى المقدمات اللزومية مع الترتيب. تأمل. وللفاضل الجلبي في هذا المقام مقال لا يعبأ به، قال الفاضل المحشي: الحصر ههنا إضافي بالنسبة إلى المقدمات المأخوذة مع الترتيب؛ لأنه اعتبر في التعريف إمكان التوصل، ولا إمكان في المقدمات المأخوذة مع الترتيب إذ لا يتصور فيه عدم التوصل، ولا يخفى أنه إنما يتم على تقدير أن يكون المراد بالإمكان الإمكان الخاص، ولو سلم فعدم تصور عدم التوصل إنما هو على مذهب من جعل النتيجة لازمة للدليل عقلًا، والأشاعرة ينكرونه على مامر.
قوله: (المراد بالعلم التصديق…إلخ) يعني أن العلم من الألفاظ المستعملة لمعان متعددة، والمراد ههنا هو التصديق بالقرينة الحالية وهي أن المقام مقام التعريف للدليل فإنه لا يطلق إلا على الموصل إلى التصديق، والقرينة إذا دلت على تعيين المعنى المراد من اللفظ يجوز استعماله في التعريف، فخرج عن التعريف المعرفات بالنسبة إلى معرفاتها، وكذا الملزومات التصورية بالنسبة إلى لوازمها البينة، فإنها إنما تلزم تصوراتها لا التصديقات بها، وبما حررنا لك اندفع ماقاله الفضل الجلبي: من أن مثل هذه القرينة مما لا يلتفت إليه في التعريفات، وإلا فيمكن تعميم كل تعريف بالأخص وتخصيص كل تعريف بالأعم حتى يحصل المساواة، وفيه من الفساد مالايخفى، فإن هذا الاعتراض ناشئ من عدم الفرق بين الأعم والمشترك، وليس ههنا تخصيص الأعم بل تعيين المشترك وهو جائز. تأمل. ثم المراد بالتصديق إما اليقين أو مايشمل الظن أيضًا، بناءً على أنهم قد يخصون الدليل بالبرهان وقد يجعلونه شاملًا للأمارة أيضًا.
قوله: (وبلزومه…إلخ) عطف على قوله: بالعلم أي المراد بلزوم العلم أن يكون ذلك العلم الآخر حاصلًا منه، بأن يكون علة له بطريق جري العادة، أو التوليد، أو الأعداد، فخرجت القضية الواحدة المستلزمة علمها للعلم بقضية أخرى، كالعلم بالنتيجة فإنه يستلزم العلم بالمقدمات المنتجة منها سواء كانت بديهية أو كسبية، وإنما وصف القضية الثانية بقوله: بديهية أو كسبية إشارة إلى عدم كون العلم بها حاصلًا من العلم بالقضية الأولى؛ لأنها حاصلة بالبديهة أو بالنظر، ولم يظهر لي فائدة توصيف القضية الأولى بالوحدة، فإن كل قضيتين فرضنا يستلزم العلم بهما العلم بإحداهما من غير أن يكون علة لإحداهما فهما خارجتان أيضًا بهذا القيد، وأما القضية المستلزمة لعكسها فهي خارجة بقيد اعتبار اللزوم بين العلمين، إذ اللزوم ههنا إنما هو بين المعلومين بحسب الصدق لابين العلمين؛ لأنا نعقل القضية مع الغفلة عن عكسها، قال الفاضل المحشي: فيه بحث؛ لأنا إذ رأينا شخصًا أسود ذا شكل مخصوص فإنا نحكم أولًا بوجود سواده وشكله، ثم نحكم ثانيًا بوجوده، وكذا إذا رأينا إنسانًا يقاوم الأسد فإنا نحكم أولًا بمقاومته الأسد، ثم نحكم ثانيًا بشجاعته، وأمثال ذلك لا يعد ولا يحصى، ولا شك أن العلم بالقضية الثانية في الصورة المذكورة كان حاصلًا من العلم بالقضية الأولى، فلا يخرج أمثال ذلك من التعريف إلا بأن يعتبر قيد النظر فيه على مايذكره في قوله: اللهم إلا أن يراد…إلخ. انتهى. أقول: العلم في الصورة المذكورة ليس حاصلًا من العلم بالقضية الأولى فقط، بل هو حاصل بانضمام قضية أخرى، وهي كل أسود موجود وكل من يقاوم الأسد فهو شجاع، حتى أنه لو فرض عدم العلم بالمقدمة الثانية لم يحصل له العلم بتلك القضية أصلًا، فإن كان بطريق الحدس فهو داخل في قوله: وأيضًا يرد عليه…إلخ، وإن كان بطريق النظر فهو من أفراد الدليل، فعدم خروجها مطلوب.
قوله: (لكن يرد عليه ماعدا الشكل الأول…إلخ) يعني وإن اندفع النقوض المذكورة عن التعريف بما ذكره لكن نقضه جمعًا بما عدا الشكل الأول، والقياس الاستثنائي غير مندفع إذ لالزوم بين العلم بالمقدمات على غير هيئة الشكل الأول وبين علم النتيجة، وإن كان بين المعلومين تلازم بحسب الصدق في نفس الأمر لابينًا وهو ظاهر ولاغير بين؛ لأن معناه خفاء اللزوم وأن لا يكون تصور الطرفين كافيًا في الجزم باللزوم بل محتاجًا إلى غيره، وهو فرع تحقق اللزوم ولا لزوم فيها، وإلا لامتنع تحقق العلم بها بدون العلم بنتائجها كالمثلث لا يتحقق بدون تساوي زواياه القائمتين، والحاصل أن اللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم بينًا كان أو غير بين، والتفرقة إنما تظهر في العلم باللزوم، وما أورده بعض الفضلاء من أن معنى غير البين هو الاحتياج إلى الوسط دون خفاء اللزوم، وأن الخفاء بمعنى الاحتياج إلى الوسط لا يستدعي الوجود فبين البطلان، إذ لو لم يستدع غير البين وجود اللازم لما كان قسمًا من اللازم. والجواب عن النقض المذكور أن تفطن كيفية الاندراج شرط الإنتاج في كل شكل، فالمراد مايلزم من العلم به بعد تفطن كيفية الاندراج، ولا شك حينئذ في تحقق اللزوم في جميع الأشكال، ويمكن أن يقال: إطلاق الدليل على الأشكال الباقية باعتبار اشتمالها على ما هو دليل حقيقة، وهو الشكل الأول كما ذكره السيد السند في حاشية شرح المختصر العضدي، أن حقيقة الدليل وسط مستلزم للمطلوب حاصل للمحكوم عليه، ووجه الدلالة أن موضوع الصغرى بعض موضوع الكبرى فيندرج في حكمه، ولا شك أن كلا الأمرين منحصر في الشكل الأول، فمن لاحظ الأشكال الباقية باعتبار اشتمالها على الأول، حصل له العلم بالنتيجة من غير انفكاك بين العلمين.
قوله: (وأيضا يرد عليه…إلخ) يعني يرد على هذا التعريف وكذا على السابق؛ أعني: قوله: مؤلف من قضيتين…إلخ، أنهما غير مانعين لصدقهما على المقدمات التي تلزم منها النتيجة بطريق الحدس، وهو أن تجد المبادئ المرتبة في الذهن، فتنتقل منها إلى المطلوب سرعة، مع أنها ليست بدليل؛ لأنه مختص بما يقع فيه الحركتان؛ أعني: الحركة من المطلوب إلى المبادئ الغير المرتبة، ثم منها مرتبة إلى المطلوب.
قوله: (اللهم إلا أن يراد…إلخ) فحينئذ لا انتقاض بها؛ لفقدان النظر فيه؛ لأنه عبارة عن الحركتين المذكورتين، والحركة الثانية مفقودة في الحدس، وإنما قال: “اللهم” إشارة إلى ضعفه؛ لأن الاستلزام عام بظاهره ولا قرينه على تخصيصه، وجعل المعرف قرينة على تخصيص المعرف غير معقول، نعم إنه يصح قرينة على تعيين المراد من اللفظ المشترك على ما مر. تأمل هذا. لكن بقي شيء وهو أن الأليق بالبيان أن يذكر المحشي، أولًا: أن المراد باللزوم من آخر كونه ناشئًا…إلخ، ثم يذكر أن المراد بالعلم التصديق؛ لأن اللزوم مقدم في الذكر على العلم، ويخرج الملزومات التصورية والتصديقية بالنسبة إلى لوازمها بقيد واحد .
قوله: (فبالثاني أوفق…إلخ) لأن لزوم العلم بشيء آخر من غير أن يتوقف على أمر إنما هو من المقدمات المأخوذة مع الترتيب دون المفرد والمقدمات غير المأخوذة مع الترتيب.
قوله: (لكن يمكن تطبيقه على الأول…إلخ) يعني يمكن تطبيق هذا التعريف على التعريف الأول علىما يشعر به إيراد صيغة أفعل التفضيل، بأن يقال: المراد باللزوم اللزوم بشرط النظر، والدليل المفرد بشرط النظر في أحواله يستلزم المطلوب الخبري، فإن العلم بالعالم من حيث الحدوث بأن يتوسط بين طرفي المطلوب، فيقال: العالم حادث وكل حادث له صانع يستلزم العلم بأن العالم له صانع.
قوله: (ولايذهب عليك…إلخ) حاصله أنه على تقدير إرادة اللزوم بشرط النظر لا يحصل التطبيق أيضًا؛ لأن هذا التعريف؛ أعني: ما يلزم من العلم به…إلخ، على ذلك التقدير شامل للمقدمات الغير المأخوذة مع الترتيب سواء كانت متفرقة أو مرتبة، بخلاف التعريف الأول على ما أخذه الشارح من أن المراد بالنظر فيه النظر في أحواله، فإنه غير شامل للمقدمات فيكون هذا التعريف أعم منه فلا يكون مطابقًا له؛ لأن معنى مطابقة التعريفين أن يكونا متساويين، وههنا ليس كذلك، ومن قال: المراد بالمقدمات المقدمات المرتبة فقد قصر النظر فلا تكن من القاصرين، وإنما قال في باب التعريفات؛ لأن العام يوافق الخاص في باب التصديقات؛ لأن الحكم على العام حكم على الخاص.
قوله: (وتخصيصه مثل الأول…إلخ) جواب سؤال مقدر بأن يقال: المراد أنه يمكن تطبيق هذا التعريف على الأول بأن يراد من اللزوم اللزوم بشرط النظر في أحواله، ولا شك أنه حينئذ لا يصدق على المقدمات فيحصل التطبيق، وحاصل الجواب أن تخصيص هذا التعريف مثل الأول خروج عن مذاق الكلام؛ إذ لا قرينة ظاهرة الدلالة على إرادة اللزوم بشرط النظر، فأين التخصيص بالنظر في أحواله؟ فهو تكلف في التكلف ، ولهذا قال : خروج عن مذاق الكلام.
قوله: (والصواب تعميم الأول…إلخ) يعني أن الصواب تعميم تعريف الأول، بأن يراد بالنظر فيه مايعم النظر في نفسه وأحواله، فيكون كلا التعريفين شاملين للمفرد والمقدمات، فيحصل التطبيق ولايكون على خلاف الظاهر والاصطلاح أيضًا، ولذا حكم بأن التعميم صواب.
قوله: (يريد أن الخارق الدال…إلخ) المقصود من هذا الكلام بيان فائدة قوله: تصديقًا له أي يريد الشارح من قوله: تصديقًا له الإشارة إلى أن الخارق الذي يدل على صدقه، هو الذي أظهره الله تعالى على يده قصدًا منه إظهار صدقه عند الخلق، أما الخارق الذي لم يقصد الله به إظهار صدقه كالخارق الذي يظهر على يد المتأله فإنه لم يقصد به إظهار صدقه؛ لأن كذبه معلوم بالجزم، فإن حاله من الحدوث والاحتياج مكذب؛ لمقاله، بل قصد به الاستدراج له، والابتلاء لغيره في الاعتقاد به كالخارق الذي يظهر على يد المتنبئ ولايكون موافقًا لدعواه، فإنه لم يقصد به تصديقه بل قصد به إدانته، فإن قيل: من أين يعلم أنه قصد به التصديق أم لا؟ قلت: من القرائن، فإنه إذا ظهر أمر خارق موافق للدعوى على يد مدعي النبوة، علم أنه قصد به إظهار التصديق، وإذا فقد شيء من ذلك بأن لا يكون خارقًا، أو لا يكون موافقًا، أو لا يكون على يد دعي النبوة، علم أنه لم يقصد به التصديق .
قوله: ( إذ لو جاز كذبه…إلخ) هكذا ذكره السيد سند قدس سره في “شرح المواقف”، حيث قال: أجمع أهل الملل والشرائع على وجوب عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجزة القاطعة على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة وما يبلغونه من الله تعالى إلى الخلائق، إذ لو جاز عليهم التقول ولافتراء في ذلك عقلًا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة، وهو محال. انتهى كلامه. وفيه بحث: أما أولًا: فلأن المعجزة إنما تدل على صدقهم في دعوى الرسالة لا على صدقهم في الأحكام الباقية، وإلا لزم عليهم إظهار المعجزة بعد تبليغ كل حكم، فعلى تقدير جواز كذبهم في الأحكام الآنية لا يلزم إبطال دلالة المعجزة، فالوجه أنه إذا دل المعجزة على صدقهم في دوعوى الرسالة، وقد ثبت بالأدلة القطعية أن الأنبياء معصومون عن الذنوب، يلزم صدقهم في الأحكام التبليغية وغيرها. وأما ثانيًا: فلأن دلالة المعجزة على صدقهم دلالة عادية، والجواز العقلي لا ينافي الدلالة العادية، فجواز الكذب عقلًا لا يستلزم إبطال دلالة المعجزة عادة كما في العلوم العادية، فإنا نجزم بأن جبل أحد لم ينقلب ذهبًا مع جوازه عقلًا، ويمكن الجواب بأن المراد بقوله: إذ لو جاز كذبه عقلًا أنه لو جاز وقوع كذبه عقلًا، ولا شك أن إمكان تفيض العلوم العادية في نفسه وإن لم يكن منافيًا لها، لكن جواز وقوعه بدلها مناف لها على ما بين في محله. أو نقول: أن هذا على مذهب الشيخ ومتابعيه، من أن دلالة المعجزة على الصدق دلالة قطعية، وإظهارها على يد الكاذب ممتنع غير مقدور لله تعالى وإن لم نطلع على وجه استحالته.
قوله: (هذا في الأمور التبليغية…إلخ) يعني أن هذا الدليل على تقدير تمامه، إنما يدل على أن خبره يوجب العلم في الأمور التبليغية والمدعى عام، وهو أن خبر الرسول سواء كان في الأمور التبليغية، أو غيرها يوجب العلم. والوجه في إيجاب خبر الرسول العلم فيما عداها، هو أنه يثبت بالأدلة القطعية أن النبي معصوم فلا يكون كاذبًا في إخباراته؛ لأنه ذنب.
قوله: (قيل عليه إذا تصور مخبره…إلخ) وقائله مولانا صلاح الدين الرومي، وحاصل كلامه أن خبر الرسول من حيث إنه خبر من غير أن يلاحظ معه حال المخبر يحتاج في إفادته العلم إلى الاستدلال بأنه خبر الرسول، وكل ما هو خبر الرسول فهو صادق، إما على تقدير ملاحظة حال المخبر معه بأنه رسول وأنه خبر الرسول فإيجابه العلم بديهي غير محتاج إلى ترتيب المقدمات، فإن من سمع قوله عليه السلام: “البينة على المدعي واليمين على من أنكر” وعلم أنه خبر الرسول يحصل له العلم بمضمونه بدون أن يحتاج إلى استحضار تينك المقدمتين، بخلاف ما إذا سمعه، ولم يعلمه بأنه خبر الرسول، ولم يلاحظه بهذا الوجه فإنه يحتاج إليه.
قوله: (وأجيب…إلخ) وحاصله أن تصور المخبر بوجه الرسالة فرع العلم بثبوت الرسالة، وهو موقوف على الاستدلال بأن هذا المخبر ادعى الرسالة وأظهر المعجزة، وكل من شأنه هذا فهو رسول فيتوقف خبره في كونه صادقًا أيضًا على الاستدلال بالواسطة؛ لأن الخبر في كونه صادقًا موقوف على تصور مخبره بأنه رسول، وتصور المخبر بهذا الوجه موقوف على الاستدلال، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فالخبر في كونه صادقًا موقوف على الاستدلال فيكون إفادته العلم استدلاليًا، وفيه أن الاستدلالي ماحصل بالاستدلال لا ما يتوقف عليه، وإلا لزم أن يكون تصوره بوجه الرسالة استدلاليًا. قال الفاضل المحشي: فيه بحث؛ لأن تصور المخبر بالرسالة ليس استدلاليًا، بل هو حاصل بالضرورة العادية لمن شاهد المعجزة فيه على ما ذكر في “شرح المواقف”. انتهى . أقول: المذكور في “شرح المواقف” أنا ندعي أن ظهور المعجزة يفيد علمًا بالصدق، وأن كونه مفيدًا له معلوم لنا بالضرورة العادية، وهذا الكلام إنما يدل على أن العلم بإفادته ضروري عادي، وكون إفادة الدليل معلومًا بالضرورة لا يقتضي أن يكون العلم بالمدلول ضروريًا. والعجب أن ذلك نزاع في كيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول، هل هي عادية أو عقلية؟ وهو يؤكد الاستفادة من الدليل، فكيف زعم منه دلالته على كونه حاصلًا بالضرورة . قوله: (والكل غلط) أي السؤال والجواب غلط؛ لأن تصور المخبر بالرسالة لا يجعل صدق الخبر بديهيًا، فلا يصح السؤال وهو ظاهر، ولا الجواب بأنه يتوقف صدق الخبر على الاستدلال بالواسطة؛ لكونه موقوفًا عليه بلا واسطة، وذلك؛ لأنه مع تصوره بأن مخبر هذا الخبر رسول، وأن هذا الخبر خبر الرسول لايحصل العلم بصدق الخبر مالم يلاحظ معه مقدمة أخرى؛ أعني: كل ما هو خبر الرسول فهو صاق؛ لجواز كون مخبر الخبر رسولًا صادقًا في دعوى الرسالة، ولايكون خبره صادقًا، فثبت أن العلم بأن هذا الخبر صادق استدلالي موقوف على استحضار المقدمتين، أي هذا خبر الرسول، وكل ما هو خبر الرسول فهو صادق.
قوله: (نعم تصور الخبر …إلخ) بيان لمنشأ غلط السائل والمجيب، يعني أن تصور خبر الرسول من حيث إنه خبر صدر عنه مع قطع النظر عن كونه مما بلغه الرسول، أو من قبل نفسه استدلالي يحتاج في صدقه إلى استحضار المقدمتين السابقتين، وتصوره بعنوانأنه خبر بلغه الرسول من الله تعالى إلى الخلق وليس للرسول فيه مدخل سوى التبليغ، فهو في الحقيقة خبر الله بلغه إلى الخلق يجعل صدقه بديهيًا ولا يحتاج إلى دليل، فباعتبار عنوان يحتاج إلى الاستدلال، وباعتبار عنوان آخر غير محتاج، والسائل والمجيب لم يفرقا بين العنوانين فغلطا، ألا يرى أن تصور خبره عليه السلام بأن عذاب القبر حق من حيث إنه خبره بدون ملاحظة أنه مبلغ له يفيد العلم الاستدلالي، وموقوف على استحضار تينك المقدمتين، ومن حيث إنه خبر بلغه الرسول وهو حقيقة خبر الله المنزه عن الكذب والنقائص، بجعل صدقه بديهيًا ويفيد العلم الضروري من غير احتياج إلى الدليل. قال الفاضل المحشي: إن قوله: “تصور المخبر بالرسالة” لا يجعل صدق الخبر بديهيًا، نعم، وذلك؛ لأن تصور مخبره هذا الخبر بالرسالة يكون في المعنى بمنزلة تصور هذا الخبر بعنوان ما بلغه الرسول، ولما كان صدق هذا الخبر في الصورة الثانية بديهيًا كما ذكره، لزم أن يكون صدقه في الصورة الأولى أيضًا بديهيا؛ لأن الرسالة في الصورتين كانت ملحوظة مع ملاحظة هذا الخبر، وهذه الملاحظة هي منشأ البداهة على ما ذكره. أقول: إن أراد أن تصور المخبر بأنه رسول، سواء كان في هذا الخبر أولا بمنزلة تصور الخبر بعنوان مابلغه، فهو مما لجواز أن يتصور المخبر بوجه الرسالة، وأنه رسول من الله مع تصور الخبر بأنه من قبل نفسه، وإن أراد أن تصور المخبر باعتبار أنه رسول في هذا الخبر ، يستلزم تصور الخبر بعنوان مابلغه، فالملازمة مسلمة، لكن المحشي إنما حكم بعدم جعل صدق الخبر بديهيًا على التقدير الأول. فتأمل.
قوله: (لكن الكلام…إلخ) استدراك لدفع توهم ناشئ عن سابقه، وهو أنه يجوز أن يكون مراد السائل من قوله: إذا تصور مخبره بالرسالة لم يحتج إلى الترتيب، أنه إذا تصور مخبر الخبر باعتبار أنه رسول في هذا الخبر ، وليس له مدخل في ذلك إلا من حيث الرسالة والتبليغ، يكون صدق الخبر بديهيًا من غير احتياج إلى الترتيب المذكور،فحينئذ يرجع إلى أن تصور الخبر بعنوان مابلغه الرسول يجعل صدقه بديهيًا. فحينئذ يكون السؤال والجواب صحيحًا، وحاصل الدفع أن كلامنا في صدق خبر الرسول من حيث ذاته، أي من حيث إنه خبر الرسول، مع قطع النظر عن كونه مما بلغه أو غيره، يدل على ذلك قوله: وهو أي خبر الرسول يوجب العلم الاستدلالي حيث لم يقل: أي مابلغه الرسول يوجب…إلخ. ولا شك أن صدقه بهذا الاعتبار استدلالي يحتاج إلى استحضار تينك المقدمتين على ما مر. فحينئذ لامعنى للاعتراض، بأن خبره بعنوان مابلغه يجعل صدقه بديهيًا ولايحتاج إلى الترتيب المذكور.
قوله: (ونظيره…إلخ) يعني أن نظير ما ذكر، من أن اختلاف اعتبار عنوان الخبر يؤثر في جعل صدق الخبر بديهًا واستدلاليًا، أنه إذا لوحظ العالم من حيث ذاته مع قطع النظر عن الأوصاف العارضة له المقتضية لحدوثه، وأثبت له الحدوث، فيقال: العلم حادث بكون ثبوت الحدوث له نظريًا محتاجًا إلى النظر، وإذا لوحظ بوصف التغير، ويقال: العلم المتغير حادث يكون ثبوت الحدوث له بديهيًا غير محتاج إلى الدليل، مع أن الحكم في كلا الحالتين على ذات العالم، لكن بحسب اختلاف العنوان اختلاف الحال في البداهة والكسبية. وبما قررنا لك ظهر أن ما قاله الفاضل المحشي من أن قوله: ومن حيث عنوان المتغير بديهي؛ إذ لا بد فيه من ملاحظة الكبرى أيضًا، وهي قولنا: وكل متغير حادث، ولا شك أن ملاحظة الكبرى بعد الصغرى هو النظر والاستدلال ليس بشيء، فمنشؤه قلة التدبر. نعم، يرد عليه أنه إنما يكون بديهيًا لو كان ثبوت الحدوث للمتغير بديهيًا، وليس كذلك، بل يحتاج في إثباته إلى إثبات أن ماثبت قدمه امتنع التغير عليه، لكن المناقشة في المثال ليس من دأب المحصلين.
قال الباجوري:
قوله: (وقيل قول…إلخ) هذا التعريف للمنطقيين، والقول يشمل الملفوظ والمعقول، فيطلق الدليل عليهما بطريق الاشتراك أو بطريق الحقيقة والمجاز.
وقوله: (مؤلف) أي مركب وأتى به وإن كان يغني عنه القول؛ لكونه هو المركب في اصطلاح المناطقة؛ لأجل أن يتعلق به الجار والمجرور. وقوله: (من قضايا) أي من قضيتين فأكثر، فالمراد بالجمع ما فوق الواحد وخرج به المؤلف من غير القضايا، كالمؤلف من المفردات كالحيوان الناطق.
قوله: (يستلزم لذاته) أي يستلزم ذلك القول لذاته لا لمقدمة أجنبية كما في قياس المساواة، كقولك: زيد مساو لعمرو، وعمرو مساو لبكر، فإنه يستلزم أن زيدا مساو لبكر لكن بواسطة مقدمة أجنبية قائلة: مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء، وإنما قال لذاته بضمير المذكر العائد للقول، ولم يقل لذاتها بضمير المؤنث العائد للقضايا؛ إشارة إلى أن للصورة التي هي الهيئة الحاصلة من ترتيب المقدمتين مدخلا في الاستلزام المذكور، كما أن للمادة التي هي ذات المقدمتين مدخلا فيه؛ لأن القول العائد إليه الضمير عبارة عن مجموع المادة والصورة. فإن قيل: التعريف يعم المعقول والملفوظ كما سبق، مع أن الملفوظ لا يستلزم؛ لأن التلفظ بالدليل لا يستلزم المدلول. أجيب بأن الملفوظ يستلزم بالنسبة للعالم بالوضع، غاية ما فيه أن الاستلزام بالنسبة لبعض الأشخاص، فالعالم بالوضع إذا تلفظ بالدليل الملفوظ استلزم لذاته قولا آخر؛ لأنه متى تلفظ به تعقل معناه في قالب اللفظ فيصدق عليه أنه قول مؤلف يستلزم لذاته قولا آخر.
قوله: (قولا آخر) أي قولا مغايرا للقول المؤلف من القضايا، والمراد بالقول هنا خصوص المعقول؛ إذ لا يجب التلفظ بالمدلول من التلفظ بالدليل، أي فلا يلزم التلفظ بالمدلول من التلفظ بالدليل. فالقول الأول وهو المذكور في أول التعريف يعم المعقول والملفوظ، وأما القول الآخر وهو المذكور في آخر التعريف فيختص بالمعقول. لا يقال المراد بالقول الآخر النتيجة، وهي مذكورة في القول المؤلف من القضايا، فلا تكون قولا آخر؛ لأنا نقول النتيجة لم تذكر في القول المذكور باعتبار صورتها، وإن ذكرت فيه باعتبار مادتها.
قوله: (فعلى الأول) أي فعلى التعريف الأول، وهو قولهم: الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري.
وقوله: (الدليل على وجود الصانع تعالى هو العالم) أي فيكون الدليل مفردا ويستفاد من تعريف طرفي الجملة مع الإتيان بضمير الفصل حصر الدليل في المفرد كالعالم، وهذا الحصر مبني على أن المراد بالنظر فيه خصوص النظر في أحواله لا ما يعمد والنظر في نفسه حتى يلزم كون المقدمات دليلا، وقد تقدم أنه خلاف الظاهر والاصطلاح؛ لأنهم يقسمون الدليل إلى المفرد وغيره، وأجيب عن الشارح بأن الحصر إضافي؛ لأنه بالإضافة إلى المقدمات المرتبة، وحينئذ فلا ينافي أن تكون المقدمات غير المرتبة دليلا، فيكون التعريف الأول صادقا بها. و(على الثاني) أي: وعلى التعريف الثاني، وهو قولهم “قول مؤلف…إلخ” وقوله “العالم حادث..إلخ”، أي فيكون الدليل مركبا. والحاصل أن الدليل على الأول: اسم للأمر الذي يمكن أن ينظر فيه، إما في أحواله أو نفسه فينتج المطلوب، وعلى الثاني: اسم للمركب من المقدمات الذي ينتج المطلوب. وبالجملة اتفق المعرفون بالتعريف الأول، والمعرفون بالتعريف الثاني على أنه لابد من الترتيب حتى يحصل المطلوب، واختلفوا هل الدليل وضع بإزاء الشيء المنظور في أحواله، أو في نفسه، أو بإزاء المقدمات المرتبة؟ فقال الأولون بالأول، والآخرون بالثاني.
قوله: (وأما قولهم الدليل…إلخ) مقابل لمحذوف والتقدير: أما التعريفان السابقان فمتباينان وأما قولهم الدليل…إلخ، والضمير في قولهم للعلماء الذين جرى هذا التعريف على لسانهم.
قوله: (هو الذي يلزم من العلم به…إلخ) أي هو الأمر الذي يلزم من العلم به…إلخ، واعترض هذا التعريف باعتراضات، الاعتراض الأول: أنه يشمل الحد بالنسبة إلى المحدود كالحيوان الناطق بالنسبة إلى الإنسان، ويشمل الملزوم بالنسبة إلى اللازم كالأربعة بالنسبة إلى الزوجية، فإنه يلزم من العلم بالحد وبالملزوم العلم بالمحدود وباللازم، ويشمل أيضا الأخص بالنسبة إلى الأعم كالإنسان بالنسبة إلى الحيوان، فإنه يلزم من العلم بالأخص العلم بالأعم، وكل من الحد والملزوم والأخص ليس بدليل فيكون التعريف غير مانع. وجوابه أن المراد من العلم التصديق بقرينة أن التعريف للدليل، وحيث كان المراد من العلم التصديق، فيخرج الحد بالنسبة إلى المحدود والملزوم بالنسبة إلى اللازم والأخص بالنسبة إلى الأعم؛ لأن العلم فيها تصور لا تصديق، وقد علمت أن المراد من العلم هنا التصديق بالقرينة المذكورة. قال الفاضل الجلبي: مثل هذه القرينة ما لا يلتفت إليه في التعريفات، وإلا فيمكن التعريف بالأعم والتعريف بالأخص مع النظر للمعرف لحصول المساواة بذلك، وفيه من الفساد ما لا يخفى، ودفعه عبد الحكيم بأن هذا الكلام ناشئ عن عدم الفرق بين الأعم والمشترك وليس كذلك، بل هناك فرق بين تخصيص الأعم وتعيين المشترك، وما هنا من تعيين المشترك وهو جائز. الاعتراض الثاني: أنه يشتمل القضية الواحدة المستلزمة لقضية أخرى بديهية أو كسبية، فالأولى: كقولنا الكل أعظم من الجزء، فإنه يلزم من العلم به العلم بأن الجزء أقل من الكل بالبداهة، والثانية: كقولنا العلم واجب لله، فإنه يلزم من العلم به العلم بأن الجهل مستحيل على الله، وهذه القضية ليست بدليل فيكون التعريف غير مانع. وجوابه: أن المراد بلزوم العلم من علم آخر كونه ناشئا وحاصلا منه بأن يكون معلولا له بطريق جري العادة، كما هو مقتضى كلمة “من”، فإنه فرق بين اللازم للشيء واللازم من الشيء؛ إذ اللازم للشيء هو الذي لا ينفك عنه، واللازم من الشيء هو الناشئ والحاصل منه مع إمكان أن ينفك عنه، لكن حصوله لا يكون إلا منه، وحينئذ فتخرج القضية المذكورة. وبحث فيه الفاضل المحشي بأنا إذا رأينا شخصا أسود ذا شكل مخصوص، فإنا نحكم أولا بأنه أسود ذو شكل مخصوص ثم نحكم بأنه موجود، وأمثال ذلك لا يعد ولا يحصى. ولا شك أن العلم بالقضية الثانية ناشئ وحاصل من القضية الأولى، ودفعه العلامة عبد الحكيم بأن العلم بالقضية الثانية ليس ناشئا وحاصلا من القضية الأولى فقط، بل بانضمام قضية أخرى إليها وهي: كل أسود ذو شكل مخصوص فهو موجود، فيكون مجموع القضيتين دليلا، فشمول التعريف له مطلوب. الاعتراض الثالث: أنه يخرج عنه ما عدّى الشكل الأول من بقية الأشكال؛ لعدم اللزوم بين علم المقدمات على هيئة غير الشكل الأول، وبين علم النتيجة لا بَيَّنا وهو ظاهر ولا غير بين؛ لأن اللزوم غير البين معناه اللزوم الخفي، والخفاء بعد الوجود واللزوم منتف في ذلك، أي ما عدا الشكل الأول وهو الشكل الثاني والثالث والرابع مع أن كلا منها دليل، فيكون التعريف غير جامع. وجوابه أن التفطن لكيفية الاندراج شرط للإنتاج في كل شكل، فالمراد ما يلزم من العلم به بعد التفطن لكيفية الاندراج، ولا شك حينئذ في تحقق اللزوم في جميع الأشكال، فتكون الأشكال الثلاثة داخلة في التعريف لا خارجة عنه، على أنه قد يقال إن إطلاق الدليل على الأشكال الثلاثة باعتبار اشتمالها على ما هو دليل حقيقة، فيكون خروجها من التعريف مطلوبا. الاعتراض الرابع: أنه يشمل المقدمات التي تحدس منها النتيجة، أي تلزم منها بطريق الحدس، فإن تلك المقدمات يلزم من العلم بها العلم بالنتيجة، مع أنها ليست بدليل فيكون التعريف غير مانع. وهذه المقدمات بعينها واردة على التعريف الثاني، فيكون أيضا غير مانع. وجوابه: أن المراد باللزوم في هذا التعريف وباللزوم في التعريف الثاني: ما يكون بطريق النظر لا بطريق الحدس بقرينة أن التعريف للدليل، لكن فيه أن جعل المعرف قرينة على تخصيص التعريف غير معقول. نعم يصح جعله قرينة على تعيين المراد من اللفظ المشترك على ما مر.
قوله: (العلم بشي آخر) أي ولو عدميا فالمراد بالشيء معناه اللغوي، وهو ما يمكن أن يعلم ويخبر عنه، وفي تقييد الشيء بالآخر احتراز عن مجموع القضيتين بالنسبة إلى إحداهما. فإن قيل هذا التقييد يخرج القياس الاستثنائي الذي تذكر فيه نتيجته؛ لأنه لم يلزم من العلم به العلم بشيء آخر؛ إذ نتيجته ليست شيئا آخر فلا يكون التعريف جامعا. أجيب: بأن نتيجة القياس المذكور لم تذكر بعينها فيه بل ما صورته صورة النتيجة؛ لأن المذكور فيه جزء قضية والنتيجة قضية فتكون شيئا آخر، وحينئذ يكون القياس المذكور داخلا في التعريف فيكون جامعا. قوله: (فبالثاني أوفق) أي فبالتعريف الثاني أوفق من التعريف الأول؛ لأن لزوم العلم بشيء من آخر من غير أن يتوقف على أمر إنما هو من القول المؤلف من القضايا دون المفرد والمقدمات غير المرتبة؛ لتوقفه على النظر في أحوال المفرد وفي نفس المقدمات، والتعبير بأفعل التفضيل يشعر بأنه موافق للأول؛ لأنه يمكن تطبيقه عليه فإن العلم بالعالم من حيث حدوثه يستلزم العلم بالصانع. واعترض بأن هذا شامل للمقدمات بخلاف الأول، فإنه خاص بالمفرد على ما يقتضيه كلام الشارح فيما تقدم، والعلم لا يوافق الخاص في باب التعريفات؛ لاختلاف مفهومهما وإن وافقه في باب التصديقات، لأن الحكم على العام حكم على الخاص، وحينئذ فالتعبير بأفعل التفضيل في غير موضعه؛ بناء على مقتضى كلامه أولا يقال يمكن موافقة هذا للأول بأن يخص مثل الأول بالمفرد؛ لأن تخصيصه مثل الأول خروج عن مذاق الكلام؛ إذ لا قرينة على ذلك فهو تكلف. والصواب تعميم الأول ليكون كلا من التعريفين شاملا للمفرد وللمقدمات، فيكون هذا موافقا للأول وحينئذ فالتعبير بأفعل التفضيل في موضعه.
قوله: (أما كونه موجبا للعلم) أي كونه مفيدا للعلم وهذا هو الأمر الأول، وهو مستفاد من كلام المصنف صريحا. والأمر الثاني هو ما أشار إليه الشارح بقوله “وأما أنه استدلالي…إلخ” وهو مستفاد من كلام المصنف تلويحا؛ لأن الوصف يستلزم الحكم، وقد استدل الشارح على كل من الأمرين بدليل قطعي، فأشار إلى دليل الأمر الأول بقوله “فللقطع بأن من أظهر الله المعجزة…إلخ” وتقريره هكذا: من أظهر الله المعجزة على يده كان صادقا في خبره، وكل من كان كذلك كان خبره موجبا للعلم، فينتج أن من أظهر الله المعجزة على يده كان خبره موجبا للعلم، وأشار إليه دليل الأمر الثاني بقوله “فلتوقفه على الاستدلال واستحضار أنه خبر…إلخ” وتقريره هكذا: هذا خبر من ثبت رسالته بالمعجزات، وكل خبر هذا شأنه حصل منه العلم، فينتج أن خبر الرسول يحصل منه العلم.
قوله: (تصديقا له في دعوى الرسالة) تأكيد للمعجزة لما تقدم من أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله، وأشار بذلك إلى أن الخارق الدال على الصدق هو الذي قصد به التصديق أي إظهار الصدق، وأما ما يظهر على يد مدعي الألوهية من الخوارق فليس بتصديق له؛ لأنه كذبه معلوم من الأدلة القطعية فلا يكون معجزة بل استدراج له وابتلاء لغيره.
قوله: (كان صادقا فيما أتى به من الأحكام) أي لأنه لو جاز كذبه في ذلك عقلا، لبطلت دلالة المعجزة على صدقه هذا خلف، هكذا ذكره السيد الشريف في “شرح المواقف” حيث قال: إذ لو جاز عليهم التقوّل والافتراء في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال دلالة المعجزة وهو محال. وبحث فيه عبد الحكيم بأن المعجزة إنما تدل على الصدق في دعوى الرسالة، لا على الصدق فيما أتى به من الأحكام، فعلى تقدير جواز كذبه عقلا في ذلك، لا يلزم بطلان دلالة المعجزة وبأن دلالة المعجزة على الصدق عادية، والجواز العقلي لا ينافي الدلالة العادية كما في العلوم العادية، فإنا نجزم بأن جبل أحد لم ينقلب ذهبا مع جواز ذلك عقلا. ويمكن الجواب عن الثاني بأن المراد الجواز الوقوعي وجواز وقوع نقيض العلوم العادية بدلها مناف لها على ما بين في محله، أو أن هذا على مذهب الشيخ ومتابعيه من أن دلالة المعجزة عقلية. وهذا الدليل على تقدير تمامه إنما يدل على أن خبر الرسول يوجب العلم في الأمور التبليغية والمدعي عام للأمور التبليغية وغيرها، فالوجه في إيجاب خبر الرسول للعلم في سائرها، أنه ثبت بالأدلة القاطعة عصمته عن الذنوب والكذب من الذنوب، فلا يكون كاذبا.
قوله: (وإذا كان صادقا…إلخ) أي: مع العلم بصدقه؛ لأن صدق المتكلم لا يوجب العلم بمضمون ما أخبر به ما لم يعلم صدقه.
وقوله: (يقع العلم بمضمونها قطعا) أي: يحصل العلم بمضمون الأحكام التي أتى بها قطعا، فالضمير للأحكام لكن على تقدير مضاف، أي بمضمون دالها والمراد بالمضمون النسبة التامة.
قوله: (وأما أنه استدلالي فلتوقفه على الاستدلال) أي وأما إن العلم الذي أوجبه خبر الرسول استدلالي فلتوقفه على النظر في الدليل.
قوله: (واستحضار أنه…إلخ) عطف تفسير للاستدلال، واعترض بأنه إذا تصور مخبره بوصف الرسالة لم يحتج لترتيب هذا النظر، فإذا تصور سامع خبر الرسول مخبره بوصف كونه رسولا حصل له العلم بمضمونه بدون توقف على الاستدلال واستحضار الدليل المذكور. وأجيب بأنه وإن لم يتوقف على الاستدلال بنفسه يتوقف عليه بالواسطة؛ لأن تصور المخبر بوصف الرسالة يتوقف على الاستدلال بأنه مؤيد بالمعجزة، وكل من كان كذلك فهو رسول، وإذا توقف تصور المخبر بوصف الرسالة على الاستدلال، توقف العلم الذي أوجبه خبره عليه بالواسطة، وكل من الاعتراض وجوابه غلط؛ لأن تصور المخبر بوصف الرسالة لا يجعل صدق الخبر بديهيا لتوقفه على الاستدلال واستحضار أن هذا خبر رسول، وكلما هو خبر الرسول فهو صادق ومضمونه واقع، فوجه غلط السؤال أنه جعله متوقفا على الاستدلال بالواسطة، مع أنه يتوقف عليه بلا واسطة. نعم تصور الخبر بعنوان ما بلغه الرسول عن الله يجعل صدقه بديهيا؛ لأنه بهذا الاعتبار خبر الله المنزه عن الكذب وليس للرسول فيه مدخل سوى التبليغ، لكن الكلام في صدق الخبر الملفوظ من حيث ذاته، وهو من هذه الحيثية استدلالي. الأقوى أن خبره صلى الله عليه وسلم بأن عذاب القبر حق من حيث ذاته يوجب العلم الاستدلالي لتوقفه على الاستدلال. واستحضار الدليل السابق وإن كان من حيث إنه خبر بلغه الرسول عن الله يصير صدقه بديهيا. ونظيره أن ثبوت الحدوث للعالم الملحوظ من حيث ذاته نظري؛ لتوقفه على النظر، فإذا قيل: العالم حادث احتيج إلى النظر، بأن يقال: العالم متغير وكل متغير حادث، ومن حيث عنوان المتغير بديهي لإدراكه بالبداهة، فإذا قيل: “المتغير حادث” كان ثبوت الحدوث للعالم المعنون عنه بالمتغير بديهيا. وبحث في ذلك الفاضل المحشي بأن تصور المخبر بوصف الرسالة بمنزلة تصور الخبر بعنوان ما بلغه الرسول، فإذا كان صدق الخبر في الصورة الثانية بديهيا كما ذكر لزم أن يكون صدقه في الصورة الأولى بديهيا أيضا؛ لأن الرسالة ملاحظة في الصورتين، وهذه الملاحظة هي منشأ البداهة. ودفعه العلامة عبد الحكيم بالفرق بين الصورتين؛ لأنه يجوز في الصورة الأولى كون الخبر من قِبل نفسه بخلاف الصورة الثانية.
قوله: (من ثبتت رسالته بالمعجزات) أي: بجنسها الصادق بمعجزة واحدة.
وقوله: (وكل خبر هذا شأنه فهو صادق) أي وكل خبر هذا حاله فهو مطابق للواقع، واسم الإشارة راجع لكونه خبر من ثبت رسالته بالمعجزات.
وقوله: (ومضمونه واقع) أي ونسبته التامة متحققة، وحينئذ فيحصل العلم بمضمونه بواسطة هذا الاستدلال.
والعلمُ الثابتُ بهِ يُضاهي العلمَ الثابتَ بالضرورةِ في التيقنِ والثباتِ.
قال الشارح: (والعلم الثابت به) أي: بخبر الرسول (يضاهي) أي: يشابه (العلم الثابت بالضرورة) كالمحسوسات والبديهيات والمتواترات (في التيقن) أي: عدم احتمال النقيض (والثبات) أي: عدم احتمال الزوال بتشكيك المشكك، فهو علم بمعنى الاعتقاد المطابق الجازم الثابت، وإلا لكان جهلاً أو ظناً أو تقليداً.
قال الخيالي:
قوله: (أي عدم احتمال النقيض) هذا المعنى يعم الثبات فيلغو ذكره، اللهم إلا ان يراد عدم الاحتمال في نفس الأمر، وعند العالم في الحال لا في المآل وفيه ما فيه، فالأولى أن يفسر اليقين بالجزم المطابق.
قوله: (فهو علم بمعنى الاعتقاد) لا يخفي أن قوله “يوجب العلم الاستدلالي” مغن عن هذا الكلام؛ لأن هذا هو معنى العلم عندهم، وأيضا سائر العلوم النظرية كذلك، فما وجه التخصيص بالذكر؟ والأقرب أن مراد المصنف: بيان قربه من الضروريات في قوة اليقين وكمال الثبات، وكأنه إشارة إلى ما يقال: إن الأدلة النقلية مستندة إلى الوحي المفيد حق اليقين والتأييد الإلهي المستلزم لكمال العرفان المنزه عن شائبة الوهم، وبخلاف العقليات الصرفة، فإن العقل يعارضه الوهم فلا يصفو عن كدر.
قال السيالكوتي:
قوله: (هذا المعنى يعم الثبات…إلخ) يعني أن التيقن بمعنى عدم احتمال النقيض داخل فيه الثبات؛ لأن الظاهر المتبادر منه عدم الاحتمال حالًا ومآلاً على ما مر في تعريف العلم، فيكون ذكر الثبات بعد التيقن على هذا المعنى لغواً لافائدة في ذكره إلا التكرار. وبما ذكرنا من معنى العموم اندفع الاعتراض، بأن التيقن بالتفسير الذي ذكره المحشي أيضًا، يشمل الثبات ضرورة وجود الجزم المطابق في الثبات وغيره، وأن ذكر العام لا يوجب إلغاء الخاص، إذ لا دلالة له عليه أصلاً؛ لأنه ليس المراد بالعموم عموم الكلي لجزئياته، بل عموم الكل لأجزائه. ولا شك أن الثبات ليس داخلاً في الجزم المطابق، وأن الكل يدل على أجزائه، والأظهر أن يقال: هذا المعنى يعتبر فيه الثبات.
قوله: (اللهم إلا أن يراد…إلخ) أي اللهم إلا أن يحمل على خلاف الظاهر، ويراد بعدم احتمال النقيض عدم احتمال النقيض في نفس الأمر، بأن لا يكون نقيضه ممكنًا في ذاته فيخرج الجهل المركب وتقليد المخطئ؛ لأن نقيضها محتمل في نفسه وعدم احتمال النقيض عند العالم بأن لا يجوز وقوع نقيضه بدله، ويخص عدم الاحتمال عند العالم بعدمه في الحال، فيخرج الظن ولايلغو ذكر الثبات؛ لأن معناه عدم الاحتمال في المآل، فيخرج به تقليد المصيب.
قوله: ( وفيه ما فيه) وجه النظر أن تعميم عدم الاحتمال، بحيث يعم عدم الاحتمال في نفس الأمر غير معقول؛ لأن معنى عدم احتمال النقيض، هو عدم التجويز العقلي لا مايعمه والإمكان الذاتي على ما مر في تعريف العلم، وإلا لزم خروج العلوم العادية عن اليقينيات؛ لاحتمال نقائضها في أنفسها، فإن جبل أحد معلوم لنا يقينًا أنه لم ينقلب ذهبًا، مع احتمال نقيضه في نفسه، وإن كان غير محتمل عند العالم، فإنه لا يجوز عند العقل وقوع نقيضه بدله، وعلى تقدير تسليم التعميم، فلا وجه لتخصيص عدم الاحتمال عند العالم بالحال، ولاقرينة تدل عليه. وبما ذكرنا لك، ظهر أنما قاله الفاضل المحشي : من أنه ليس في هذا التوجيه من بعد، بل فيه من الحسن مافيه؛ لأن معنى التيقن في اللغة، هو: زوال الشك على ما ذكر في “الصحاح”، وهذا هو معنى عدم احتمال النقيض عند العالم. وأما كونه في الحال فهو المتبادر من العبارة، فإذا قلنا هذا الإدراك يشابه ذلك الإدراك في التيقن، يتبادر منه أنه كذلك في الحال مع قطع النظر عن ثباته في المآل، فلا بد من ذكر الثبات؛ ليظهر أنه لا يزول بتشكيك المشكك في المآل في غاية البعد؛ لأن منشأ البعد ليس إرادة عدم الاحتمال عند العالم، بل تعميم عدم الاحتمال بحيث يعم عدمه في نفس الأمر، وعند العالم كما عرفت مع أن دعوى التبادر المذكور لا بد له من دليل.
قوله: (فالأولى) أي: الأولى أن يفسر التيقن بالجزم المطابق سواءً كان ثابتاً أو غير ثابت، فيخرج به: الظن ،والجهل المركب، وتقليد المخطئ وبالثبات: الجزم المطابق الذي ليس بثابت وهو تقليد المصيب هذا لكن تفسير التيقن بما ذكره خلاف المتعارف والأولى أن يفسر التيقن بعدم احتمال النقيض عند العالم في الحال فيخرج الظن والثبات بعد الاحتمال في المآل بأن لا يزول بتشكيك المشكك ولابعد الاطلاع على دليل يخالفه فيخرج التقليد لزواله بالتشكيك والجهل لاحتمال الزوال بعد الاطلاع على دليل يخالفه لعدم مطابقة الواقع على ما مر في تعريف العلم. وفيه شيء، وإنما قال “فالأولى” إشارة إلى أن له وجه الصحة وهو أن يقال أن المقصود المبالغة في إفادة خبر الرسول التيقن إخراجًا للعلم الحاصل به عن معرض التقليد فلا بأس بتصريح ماعلم ضمنا. قال الفاضل المحشي: فيه بحث؛ لأنه إن أراد بالجزم المطابق ما هو في الحال والمآل كان ذكر الثبات لغوًا وإن أراد به الجزم المطابق في الحال لا في المآل توجه عليه ما أورده بقوله وفيه ما فيه، فجوابكم جوابنا. أقول لامعنى لهذا الترديد لأن ما هو مطابق للوقع مطابق في الحال والمآل وماذكر من لزوم لغوية ذكر الثبات فمنشأه عدم التدبر فإن تقليد المصيب جزم مطابق في الحال والمآل وليس بثابت وهذا أظهر من الشمس فكيف خفي عليه ومن العجب أنه لم يطلع على وجه النظر وقال فما هو جوابكم فهو جوابنا.
قوله: (لا يخفى أن قوله يوجب…إلخ) يعني: أن قول الشارح فهو علم بمعنى الاعتقاد المطابق…إلخ يدل على أن مقصود المصنف من قوله والعلم الثابت به يضاهي العلم الثابت…إلخ أن العلم الحصل من خبر الرسول علم بمعنى اليقين ولايخفى أنه على هذا التقدير يصير قوله والعلم الثابت…إلخ مستدركًا؛ لأن قوله: وهو يوجب العلم الاستدلالي مغن عنه إذ يفهم منه أن العلم الحاصل به علم بمعنى اليقين إذ لامعنى للعلم عندهم سواه وإنما قلنا أن قوله: فهو علم…إلخ يدل على ذلك ؛لأنه أورد بالفاء الدال على أنه فذلكة لما قبله، أي : إذا كان العلم الثابت بخبر الرسول مشابهًا للعلم الثابت بالضرورة في التيقن والثبات يكون علمًا بمعنى الاعتقاد المطابق الجازم الثابت واستدل عليه بقوله: وإلا لكان جهلًا…إلخ؛ أي: وإن لم يكن بمعنى الاعتقاد المذكور لكان جهلًا أو ظنًا فلا يكون مشابهًا للعلم الضروري في التيقن أو تقليدا فلا يكون مشابها له في الثبات فإنه صريح في أن المقصود من قوله: والعلم الثابت…إلخ أن العلم الحاصل به علم بمعنى اليقين وغاية مايتكلف في الاعتذار عن هذا الاعتراض أن يقال أن المقصود من قوله: والعلم…إلخ رفع إيهام حمل العلم في قوله: يوجب العلم الاستدلالي على مطلق الادراك فإنه وان لم يكن للعلم عندهم معنى سوى اليقين إلا أن استعماله بمعنى مطلق الادراك مشهور في الكتب متداول بين الناس وإن ما قيل من أن الأدلة النقلية لاتفيد إلا الظن كان مؤيدًا لإرادته وأما ما قاله الفاضل المحشي من أن العلم في قوله يوجب العلم الاستدلالي محمول على التعريف المذكور؛ أعني: صفة يتجلى بها المذكور…إلخ وهو شامل لليقينيات وغيرها، فلا يكون قوله: “والعلم الثابت” لغوَا فليس بشيء؛ لأن تعميم التعريف المذكور خلاف الاصطلاح؛ إذ العلم مختص باليقين عندهم كما مر وعلى تقدير التسليم فإنما يصح حمل العلم في قوله: “يوجب العلم…إلخ” على تقدير أن يكون العلم في قوله: “وأسباب العلم ثلاثة” أيضًا محمولًا على المعنى الأعم وهو باطل وإلا لم ينحصر الأسباب في الثلاثة وأيضًا يجب التصريح في الحواس والخبر المتواتر والعقل بأنه يوجب العلم بمعنى اليقين .
قوله: (وأيضًا سائر العلوم النظرية…إلخ) يعني ويرد على تقدير حمل قول المصنف على المعنى الذي ذكره الشارح أنه لا وجه لتخصيص العلم الحاصل بخبر الرسول بالذكر فإن جميع العلوم الحاصلة بالنظر والاستدلال علم بالمعنى المذكور ويمكن أن يقال وجه التخصيص الرد على من قال إن الدلائل النقلية لاتفيد اليقين .
قوله: (والأقرب أن مراده…إلخ) يعني: أن الأقرب إلى الفهم أن مراد المصنف من قوله: “والعلم الثابت…إلخ” أنه كما أن اليقين والثبات في العلم الضروري في غاية القوة والكمال قال كذلك اليقين والثبات في العلم الحاصل بخبر الرسول أيضًا في غاية القوة والكمال. قال بعض الفضلاء: هذا مخالف لرأي المصنف لأنه لا يقول بالتفاوت بين اليقينيات في القوة والضعف كما سيجيء في بحث الإيمان . أقول رأي المصنف: نفي الزيادة والنقصان عن اليقينيات لانفي القوة والضعف، فإن وجود القوة والضعف بين اليقينيات بديهي ألا ترى أن تصديقنا بالشرعيات ليس كتصديق النبي عليه السلام . تأمل. قيل: ليس في كلام الشرح مايدل على أنه لم يحمل كلام المصنف على هذا الأقرب، وقوله: “فهو علم” بمعنى الاعتقاد المطابق…إلخ لا يفيد أنه لم يقصد ذلك بناء على أنه يحتمل أن يكون مقصوده أن العلم في قوله : “والعلم الثابت…إلخ” يضاهي العلم الثابت…إلخ بالمعنى الأخص مما سبق لأنه المناسب للمقام. أقول: هذا التوجيه في غاية البعد، أما أولًا: فلأنه لا حاجة إلى تفسير العلم ههنا إذ قد صرح في قوله وأسباب العلم ثلاثة أنه لا يطلق العلم عندهم إلا على اليقينيات. وأما ثانيا: فلأنه لا وجه لتخصيص التفسير في هذا الموضع وتركه في قوله: فهو يوجب العلم الضروري ويوجب الاستدلالي، مع أنه الأقدم والأحق بالتفسير. وأما ثالثًا: فلأنه يجب حينئذ ذكره متصلًا لقوله: “والعلم الثابت”. وأما رابعًا: فلأنه لا معنى لإتيان الفاء المشعر بأنه فذلكة لما قبله. وأما خامسًا: فلأنه لافائدة حينئذ في ذكر قوله “وإلا لكان جهلًا…إلخ”.
قوله: (وكأنه إشارة …إلخ) يعني: أن قول المصنف” العلم الثابت بخبر الرسول مشابه للعلم الضروري في قوة التيقن…إلخ” إشارة إلى أن الأدلة النقلية مستندة إلى الوحي المفيد لحق اليقين وليس لشائبة الوهم مدخل فيها كما أنه ليس لها مدخل في العلوم الضرورية فيكونان متشابهين في قوة اليقين بخلاف العلوم العقلية الحاصلة بمجرد نظر العقل، فإن فيه فيه شائبة الوهم؛ إذ الوهم له استيلاء على جميع القوى فينصرف في المعقولات أيضًا، فيحكم أحكامًا كاذبة فلا يكون العلوم العقلية خالية عن شائبة الكدورة. قال الفاضل الجلبي: هذا مخالف لما تقرر في الأصول من أن الأدلة النقلية ظنيات للاحتياج إلى معرفة أوضاع الألفاظ وأن مقصود المتلفظ بالعبارة ماذا هل هو الحقيقة أو المجاز وليس لنا إلى التيقن بشيء من ذلك سبيل أقول: مرادنا يكون الأدلة النقلية مفيدة للعلم الذي هو غاية التيقن أنه يفيده بعد أن يحصل العلم بوجه دلالتها بطريق القطع ولا شك أنه بعد التيقن بجميع الأمور التي لها مدخل في دلالتها يفيد العلم الضروري الذي هو أقوى من العلم الحاصل بالدليل العقلي لعدم شائبة الوهم فيه والتيقن بوجه دلالتها يحصل في بعض المواضعكما ذكر في “شرح المواقف” تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (والعلم الثابت به…إلخ) مقصود المصنف من ذلك أن العلم الحاصل من خبر الرسول بمعنى الاعتقاد المطابق الجازم الثابت، كما يقتضيه قول الشارح تفريعا على كلام المصنف فهو علم بمعنى الاعتقاد…إلخ. ولا يخفى أنه على هذا التقرير يصير قوله: “والعلم الثابت به…إلخ” مستدركا؛ لأن قوله “وهو يوجب العلم الاستدلالي” مغن عن هذا الكلام؛ إذ يفهم منه أن العلم الحاصل منه علم بمعنى الاعتقاد…إلخ؛ لأن هذا هو معنى العلم عندهم وأيضا سائر العلوم النظرية كذلك، فما وجه التخصيص للعلم الثابت به دون غيره من العلوم النظرية ؟مع أن جميعها علم بهذا المعنى؟ وغاية ما يتكلف في الجواب عن الاعتراض الأول: أنه أتى بقوله “فالعلم الثابت به…إلخ” لدفع توهم حمل العلم الاستدلالي في قوله “يوجب العلم الاستدلالي” على مطلق الإدراك، فإن استعماله بمعنى: مطلق الإدراك مشهور في الكتب متداول بين الناس. ويمكن أن يقال في الجواب عن الاعتراض الثاني: بأن وجه التخصيص الرد على من قال: إن الأدلة النقلية لا تفيد اليقين بل الظن؛ للاحتياج إلى معرفة الأوضاع والألفاظ، وأن المراد منها ماذا؟ هل هو الحقيقة أو المجاز، وليس لنا إلى التيقن بشيء من ذلك سبيل، وما تمسك به هذا القائل مردود بأن مرادنا بكون الأدلة النقلية تفيد العلم أنها تفيده بعد العلم بجميع الأمور التي لها مدخل في دلالتها بطريق القطع، وذلك يحصل في بعض المواضع، كما ذكره في “شرح المواقف”. والأقرب إلى الفهم أن مراد المصنف بقوله “والعلم الثابت به…إلخ” بيان قربه من الضروري في قوة اليقين وكمال الثبات، فكما أن الضروري في غاية قوة اليقين وكمال الثبات، كذلك العلم الحاصل بخبر الرسول في غاية قوة اليقين وكمال الثبات. وكأن المصنف أشار بهذا إلى ما قيل: إن الأدلة النقلية مستندة إلى الوحي المفيد حق اليقين والتأييد الإلهي المستلزم لكمال العرفان المنزه عن شائبة الوهم، بخلاف العقليات الصرفة بأن كانت بمجرد نظر العقل، فإن الوهم يعارض العقل فلا يصفو عن كذب، فإذا حكم العقل بحكم عقلي عارضة الوهم بحكم كاذب، فلا يخلو العلم العقلي عن كدورة.
قوله: (أي بخبر الرسول) تفسير للضمير بإعادة الجار.
قوله: (يضاهي) من المضاهاة، وهي المشابهة؛ ولذلك قال الشارح (أي يشابه) وهذا هو المراد من قوله معلوم من الدين بالضرورة فيكفر جاحده، أي أنه معلوم من أدلة الدين مشبه للمعلوم بالضرورة.
قوله: (العلم بالضرورة) أي العلم الملتبس بالضرورة فالباء للملابسة لا للسببية؛ لأن الضرورة ليست من أسباب العلم.
قوله: (كالمحسوسات) أي كالعلم بالمحسوسات كحرارة النار المدركة بإحدى الحواس.
وقوله: (والبديهيات) أي والعلم بالبديهيات، ككون الكل أعظم من الجزء المدرك بالبداهة.
وقوله: (والمتواترات) أي والعلم بالمتواترات كوجود مكة المعلوم بالتواتر، وإنما قدرنا العلم في الثلاثة؛ لأنها معلومات لا علوم حتى يصح التمثيل بها للعلم بالضرورة.
قوله: (في التيقن والثبات) بيان لما وقعت فيه المضاهات والمشابهة، وفسر الشارح التيقن بعدم احتمال النقيض، والثبات بعدم احتمال الزوال بتشكيك المشكك، واعترض عليه بأن التيقن بالمعنى الذي فسره به يعم الثبات؛ لأن المتبادر منه عدم الاحتمال حالا ومآلا، فيلغو ذكر الثبات؛ لأنه لا فائدة في ذكره على هذا المعنى. وأجيب بأن المراد عدم الاحتمال في نفس الأمر، وعند العالم في الحال لا في المآل، وحينئذ لا يلغو ذكر الثبات؛ لأن معناه عدم الاحتمال في المآل، وفي هذا الجواب من البعد ما فيه؛ لأن تعميم عدم الاحتمال بحيث يعم عدم الاحتمال في نفس الأمر، يلزم منه خروج العلوم العادية عن اليقينيات؛ لاحتمال نقائضها في نفس الأمر، وعلى تسليم التعميم فلا وجه لتخصيص عدم الاحتمال عند العالم بكونه في الحال، ولا قرينة تدل عليه، وإذا كان كذلك فالأولى أن يفسر التيقن بالجزم المطابق سواء كان ثابتا أو لا، فيحتاج لقوله: “والثبات” لإخراج غير الثابت لكن تفسير التيقن بالجزم المطابق خلاف المتعارف، فهو تكلف. فالأولى الرجوع لتفسير الشارح، ثم إن جرينا على ظاهره من عمومه للثبات؛ لكونه شاملا لعدم الاحتمال في الحال والمآل جعلنا قوله: “والثبات” للتأكيد، وإن جرينا على خلاف ذلك؛ لكونه مخصوصا بعدم الاحتمال في الحال جعلنا قوله: “والثبات” للتأسيس، ويكون عطف الثبات على التيقن قرينة على التخصيص.
قوله: (فهو علم بمعنى الاعتقاد…إلخ) أي فالعلم: الثابت به علم بمعنى الاعتقاد…إلخ. وهذا تفريع على كلام المصنف مع التفسير الذي جرى عليه الشارح، وقد تقدم ما فيه، فلا تغفل.
قوله: (وإلا لكان…إلخ) المنفي القيود المذكورة لا كون العلم بمعنى الاعتقاد المذكور؛ لأنه لو كان المنفي كون العلم بمعنى الاعتقاد المذكور، لم ينحصر في الأمور الثلاثة؛ لجواز أن يكون شكا أو وهما، فالمعنى: وإلا يكن الاعتقاد مطابقا جازما ثابتا لكان…إلخ.
وقوله: (جهلا) أي: إن لم يكن مطابقا.
وقوله أو (ظنا) أي: إن لم يكن جازما.
وقوله: (أو تقليدا) أي: إن لم يكن ثابتا.
قال الشارح: فإن قيل: هذا إنما يكون في المتواتر فقط، فيرجع إلى القسم الأول. قلنا: الكلام فيما علم أنه خبر الرسول بأن سمع من فيه أو تواتر عنه ذلك أو بغير ذلك إن أمكن، وأما خبر الواحد فإنما لم يفد العلم لعروض الشبهة في كونه خبر الرسول.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل…إلخ) هذا السؤال وارد على جعل المصنف الخبر الصادق على نوعين. وحاصله: أن ما ذكر من أن خبر الرسول يوجب العلم الاستدلالي وأن العلم الثابت به يضاهي العلم بالضرورة في التيقن والثبات، إنما يكون في المتواتر فقط لا في خبر الرسول مطلقا، وحينئذ فيرجع خبر الرسول الذي هو القسم الثاني إلى القسم الأول وهو الخبر المتواتر؛ لاندراجه تحته وحيث رجع إليه لا يصح جعله قسما مستقلا؛ لأنه يلزم عليه جعل قسم الشيء قسيما له فإن خبر الرسول على هذا قسم من المتواتر وقد جعل قسيما له.
قوله: (هذا) أي: ما ذكر من أن خبر الرسول يوجب العلم الاستدلالي وأن العلم الثابت به يضاهي العلم بالضرورة في التيقن والثبات.
وقوله: (إنما يكون في المتواتر فقط) أي: لا يكون إلا في المتواتر دون خبر الآحاد؛ لأنه إنما يوجب الظن.
وقوله: (فيرجع إلى القسم الأول) أي: فيرجع خبر الرسول الذي هو القسم الثاني إلى القسم الأول، وهو الخبر المتواتر لاندراجه تحته، وحينئذ فلا يصح جعله قسما مستقلا؛ لأنه يلزم عليه المحذور المتقدم.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن السؤال المذكور، وحاصله عدم تسليم الحصر في المتواتر؛ لأن الكلام فيما علم أنه خبر الرسول، سواء كان متواترا أو لا، فلا ينحصر في المتواتر، وعلى هذا يكون بين الخبر المتواتر وخبر الرسول عموم وخصوص من وجه: يجتمعان في خبر الرسول المتواتر، وينفرد الخبر المتواتر في الخبر بوجود مكة، وينفرد خبر الرسول فيما علم أنه خبر الرسول بغير التواتر، وحينئذ يكون جعل المصنف الخبر الصادق على نوعين صحيحا.
قوله: (الكلام) أي: كلام المصنف.
وقوله: (فيما علم أنه خبر الرسول) أي: لا في خصوص المتواتر كما زعم السائل وبنى عليه السؤال.
وقوله: (بأن سمع من فِيه) أي: بسبب سماعه من فمه.
وقوله: (أو تواتر عنه ذلك) أي: أو بسبب تواتر ذلك الخبر عنه.
وقوله: (أو بغير ذلك إن أمكن) أي كالقرائن المفيدة للقطع بأنه خبر الرسول المحقق بها خبر الآحاد لا كالإلهام؛ لأن الملهم من غير الأنبياء ليس بمعصوم فلا يفيد إلهامه العلم.
قوله: (وأما خبر الواحد…إلخ) مقابل لقوله “فيما علم أنه خبر الرسول”.
وقوله: (فإنما لما يفد العلم) أي: بل أفاد الظن.
وقوله: (لعروض الشبهة في كونه خبر الرسول) أي: لأنه يحتمل أنه ليس خبر الرسول، لكن عند نقله إلينا لا عند سماعه من الرسول، فتحصل أنه عند سماعه من الرسول كان معلوما أنه خبر الرسول، ثم عرضت الشبهة في كونه خبر الرسول عند نقله إلينا؛ لأن الواحد لا يستحيل عليه الكذب وإن كان عدلا.
قال الشارح: فإن قيل: فإذا كان متواتراً أو مسموعاً من في رسول الله عليه السلام كان العلم الحاصل به ضرورياً كما هو حكم سائر المتواترات والحسيات، لا استدلاليا. قلنا: العلم الضروري في المتواتر عن الرسول هو العلم بكونه خبر الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن هذا المعنى هو الذي تواتر الأخبار به، وفي المسموع من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إدراك الألفاظ وكونها كلام رسول الله. والاستدلالي هو العلم بمضمونه وثبوت مدلوله، مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: “البينة على المدعي واليمين على من أنكر” علم بالتواتر أنه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ضروري، ثم علم منه أنه يجب أن تكون البينة على المدعي، وهو استدلالي.
قال الخيالي:
قوله: (علم بالتواتر) هذا مجرد فرض للتمثيل، وإلا فهذا الحديث مشهور لا متواتر.
قال السيالكوتي:
قوله: (والا فهذا الحديث مشهور…إلخ) قيل: كلام الشارح ظاهر في أن هذا الحديث متواترًا، وكذا ما ذكره في شرح المقاصد وهو رحمه الله ثقة فلا اعتداد بالقول بأنه ليس بمتواتر إلا بعد تصحيح النقل ممن هو أوثق منه، انتهى. ذكر في الكافي أن هذا الحديث مشهور تلقته الأمة بالقبول حتى صار كالمتواتر وذكر في شرح الهداية أن هذا الحديث في نفسه من خبر الآحاد إلا أنه في حكم المتواتر؛ لأن الأئمة قد أجمعت على قبوله والعمل بموجبه ويؤيده ما ذكره السيد السند قدس سره في خلاصة الطيبي أنه قال ابن الصلاح- رحمة الله عليه- من سئل عن إبراز مثال المتواتر في الأحاديث أعياه طلبه، وحديث:”من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار” تراه مثالًا لذلك فإنه نقله من الصحابة العدد الجم.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل فإذا كان…إلخ) هذا السؤال نشأ من الجواب عن السؤال السابق، حيث جعل في ذلك الجواب كل من السماع من فِي رسول الله والتواتر عنه طريقا للعلم بأن ذلك المسموع أو المتواتر خبر الرسول. وحاصله أنه يلزم بمقتضى هذا الجواب أن يكون العلم الذي أوجبه خبر الرسول ضروريا لا استدلاليا كما قال المصنف؛ لأن طريقه السمع أو التواتر، وما كان طريقه السمع أو التواتر كان ضروريا لا استدلاليا.
قوله: (كما هو حكم سائر المتواترات والحسيات) أي كالذي هو حكم سائر المتواترات والحسيات من أن العلم الحاصل بهما ضروري.
قوله: (لا استدلاليا) أي كما قال المصنف.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن السؤال المتقدم. وحاصله أن ههنا أمرين، أحدهما: علم ضروري وهو العلم بكون المسموع أو المتواتر خبر الرسول، والآخر: علم استدلالي وهو العلم بمضمونها، وقد تقدم نظير ذلك في القرآن فلا تغفل.
قوله: (في المتواتر) أي: في خبر الرسول المتواتر.
قوله: (أن هذا المعنى) أي: كونه خبر الرسول.
قوله: (وفي المسموع) أي: والعلم الضروري في المسموع.
قوله: (هو إدراك…إلخ) المراد بالإدراك بالنسبة للألفاظ التصور، وبالنسبة لكونها كلام الرسول التصديق فهو مستعمل في معنييه.
قوله: (هو العلم بمضمونه) أي: بما تضمنه وهو النسبة التامة.
وقوله: (وثبوت مدلوله) أي: ما دل عليه وهو النسبة المذكورة فالمراد بالمدلول هنا ما أريد بالمضمون؛ لإضافة الثبوت إليه وإن كان المدلول في كلامهم هو ثبوت المضمون.
قوله: (مثلا) إنما احتيج لضرب المثل؛ لما فيما ذكره من العلمان الضروري والاستدلالي من الخفاء، فضرب المثل ليتضح به العلمان المذكوران. قوله: (علم بالتواتر) أي: فرضا وإلا فهذا الحديث مشهور لا متواتر، لكنه صار كالمتواتر، كما ذكره في الكافي حيث قال: إن هذا الحديث مشهور تلقاه الأئمة بالقبول حتى صار كالمتواتر، وذكر في شرح الهداية أن هذا الحديث من خبر الآحاد إلا أنه في حكم المتواتر؛ لأن الأمة قد اجتمعت على قبوله، وبعضهم لم يسلم كونه مشهورا فضلا عن كونه متواتر؛ لأن هذا الحديث بذلك اللفظ لم يعز إلا للبيهقي ورواه الستة بلفظ “ولكن اليمين على المدعى عليه” من غير ذكر البينة، وكان الأولى في التمثيل قوله صلى الله عليه وسلم “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” فإنه نقله من الصحابة العدد الجم، كما قاله ابن الصلاح.
قوله: (وهو ضروري) الضمير راجع للعلم المفهوم من قوله “علم”
قوله: (ثم علم منه…إلخ) فيه أن المتواتر قطعي المتن ظني الدلالة.
قوله: (وهو استدلالي) الضمير هنا كالضمير فيما قبله
قال الشارح: فإن قيل: الخبر الصادق المفيد للعلم لا ينحصر في النوعين، بل قد يكون خبر الله تعالى، أو خبر الملك، أو خبر أهل الإجماع، أو الخبر المقرون بما يرفع احتمال الكذب كالخبر بقدوم زيد عند تسارع قومه إلى داره. قلنا: المراد بالخبر خبر يكون سبب العلم لعامة الخلق بمجرد كونه خبراً مع قطع النظر عن القرائن المفيدة لليقين بدلالة العقل، فخبر الله تعالى أو خبر الملك إنما يكون مفيداً للعلم بالنسبة إلى عامة الخلق إذا وصل إليهم من جهة الرسول عليه السلام، فحكمه حكم خبر الرسول وخبر أهل الإجماع في حكم المتواتر. وقد يجاب: بأنه لا يفيد بمجرده، بل بالنظر في الأدلة على كون الإجماع حجة. قلنا: وكذلك خبر الرسول، ولهذا جعل استدلالياً.
قال الخيالي:
قوله: (مع قطع النظر عن القرائن) إنما قطع النظر عنها لا عن الدلائل؛ إذ الوجه في عد الخبر الصادق سببا مستقلا استفادة معظم المعلومات
الدينية منه، والخبر المقرون ليس كذلك وقد يوجه بأن القرائن تنفك عن الخبر بخلاف الدلائل، وليس كذلك.
قوله: (في حكم المتواتر) لأنه كذلك في كونه خبر قوم يحكم العقل بصدقهم لكنه بالبداهة في المتواتر وبالنظر في الإجماع وحاصل الجواب أن الحصر مبني على المسامحة لا على التحقيق.
قال السيالكوتي:
قوله: (إنما قطع النظر عنها…إلخ) يعني: إنما قطع النظر عن القرائن في إفادة الخبر الصادق ولم يقطع النظر عن الدلائل فخرج الخبر المقرون وبقي خبر الرسول داخلًا مع كون كل واحد منهما أمرًا خارجًا عن الخبر موجبًا لصدقه؛ لأن الوجه في عد الخبر الصادق سببًا للعلم استفادة معظم المعلومات الدينية منه وإلا فالخبر ليس سببًا للعلم بل المفيد له العقل والخبر الصادق طريق له على ما مر في وجه الحصر والخبر الذي هو مع الدليل كخبر الرسول داخل في هذه الاستفادة فلذلك لم يعتبر قطع النظر عن الدلائل كيلا يخرج منه ذلك بخلاف الخبر المقرون؛ إذ لا يستفاد منه شيء من المعلومات الدينية فلا وجه لإدخاله فيه وجعله سببًا سوى العقل فاعتبر قطع النظر عن القرائن.
قوله: (وقد يوجه…إلخ) يعني: قد تبين ممن وجه قطع النظر عن القرائن دون الدلائل بأن القرائن تنفك عن الخبر وتبقى مع انتفاء الخبر كما إذا تحقق تسارع القوم إلى دار زيد مع عدم الخبر بقدومه بخلاف الدلائل فإنه لا تنفك عن الخبر بل كلما تحقق الدلائل تحقق الخبر، فالقرائن لا تدل على تحقق الخبر بالنسبة إلى جميع الأوقات والأذهان فلا يكون الخبر المقرون مفيدًا دائمًا فلذلك قطع النظر عنها وأسقط الخبر المقرون عن درجة الاعتبار في الخبر الصادق بخلاف الدلائل فإنها دالة على تحققه في جميع الأوقات بالنسبة إلى جميع الأذهان فيكون الخبر المدلل مفيدًا للعلم دائمًا فلم يقطع النظر عنه. قال الفاضل المحشي في توجيه قوله” “بأن القرائن قد تنفك عن الخبر …إلخ” إن الخبر بقدوم زيد عند تسارع قومه يفيد العلم وعند عدم تسارع قومه لا يفيده لكن تسارع قومه لا يلزم الخبر المذكور بل ينفك عنه بخلاف الدلائل فإن دليل خبر الرسول يلزمه ولا ينفك عنه وهو أن هذا خبر الرسول وكل ما هو هذا شأنه فهو صادق. أقول: فيه بحث؛ لأن الخبر المقرون يلزمه القرينة ولا تنفك عنه أصلًا والخبر المذكور لم يكن مقرونا.
قوله: (وليس كذلك) يعني : ليس الأمر كما قال الموجه؛ إذ المراد بالقرينة ههنا ما يدل على صدق الخبر دلالة قطعية بحيث لا يحتمل تخلفه عنها على ما يدل عليه قول الشارح مع قطع النظر عن القرينة المفيدة لليقين بدلالة العقل ولا شك أن القرينة القطعية الدلالة لا تنفك عن الخبر كما لا بنفك الدليل عنه قال الفاضل المحشي: أي: ليس هذا التوجيه صحيحًا في نفس الأمر فإن دليل الخبر المتواتر وقرينته لا يلزمه بل ينفك عنه في بعض المواد أو في بعض الأشخاص أو في بعض الأذهان مع أن الخبر المتواتر كان مقبولًا معدودًا من أسباب العلم. أقول: فيه بحث؛ لأن الخبر المتواتر يفيد العلم الضروري عند المصنف، ومنشأ حصول العلم عقيبه الاجتماع فرب اجتماع يخلق الله العلم عقيبه ورب اجتماع لا يخلقه الله فلا يكون إفادته بالدليل والقرينة، فلا معنى لقوله: “فإن دليل الخبر المتواتر وقرينته تنفك عنه” وبما ذكرنا اندفع ما قيل. بقي هنا إشكال قوي، وهو أن الخبر المتواتر أيضًا لا يفيد اليقين مع قطع النظر عن قرائن صدق المخبرين وعدم إمكان تواطئهم على الكذب ولهذا يتفاوت عدد المخبرين في التواتر بحسب المقامات فرب عدد يفيد العلم في مقام دون آخر فكيف اعتبر مع قطع النظر عن القرائن في الخبر الصادق لأن منشأ العلم ليس بملاحظة أحوال المخبرين والقرائن الدالة على صدقهم بل اجتماعهم من غير دخل للقرائن والأحوال فيه فرب اجتماع يخلق الله العلم عقيبه في مقام ولا يخلقه بعده في مقام آخر من غير تأثير للحال والمقام فيه قال: بعض الفضلاء لعل وجه قطع النظر عن القرائن دون الدلائل هو أن القرائن لسيت مما يمكن أن يضبط لا إجمالًا ولا تفصيلًا أما إجمالًا فظاهر وأما تفصيلًا فلكثرتها واختلافها باختلاف الطبائع والأفهام بخلاف الدلائل فإنها ليست كذلك أقول : فيه بحث لأنه يمكن ضبط القرائن إجمالًا بأن يعتبر القرائن المفيدة لليقين بالنسبة إلى كل شخص والخبر المقرون بها يفيد اليقين بالنسبة إليه فقال أيضًا: إن المراد بالقرائن في قوله: مع قطع النظر عن القرائن ما يعم الدليل والقرينة، فالمعنى المراد خبر يكون سبب العلم بمجرد كونه خبرا مع قطع النظر عن الأمور الخارجة عنه من الدلائل والقرائن وخبر الرسول إنما يفيد العلم بمجرد كونه خبرًا لأن وجه دلالته هو كونه خبر الرسول فيكون الاستدلال بنفس الخبر لكن بالنظر في أحواله كما في العالم بالنسبة إلى الصانع فيكون سبب الخبر هو مجرد كونه خبر الرسول بخلاف القرائن فإنها أمور خارجة عن الخبر. تأمل. انتهى. أقول: وجه التأمل أنه على هذا يدخل الخبر المقرون أيضًا في الخبر الصادق؛ إذ يصدق عليه أنه لا يفيد العلم بمجرد كونه خبرًا لأن وجه دلالته هو كونه خبرًا مقرونًا فيكون الاستدلال بنفس الخبر لكن بالنظر في أحواله.
قوله: (لأنه كذلك…إلخ) أي: لأن خبر أهل الإجماع كالخبر المتواتر في كون كل منهما خبر قوم لا يحتمل عند العقل تواطؤهم على الكذب ولا فرق بينهما إلا باعتبار أن كونه خبر قوم كذلك ثابت في المتواتر بالبديهة من غير نظر وفي خبر الإجماع بطريق النظر في الدليل، مثل قوله عليه السلام : “لا تجتمع امتي على الضلالة” وقوله تعالى: : ﱡﭐ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱠ الآية وفيه أنه إذا كان خبر أهل الإجماع يفيد العلم الاستدلالي فلا يصح جعله داخلًا تحت المتواتر المحكوم عليه بأنه يوجب العلم الضروري. اللهم إلا أن يقال: إن ذلك الحكم أيضا بطريق المسامحة أي: يوجب العلم الضروري وما في حكمه.
قوله: (و حاصل الجواب إن الحصر مبني…إلخ) يعني خلاصة الجواب : أن حصر الخبر الصادق في النوعين مبني على التجوز فإن المراد المتواتر وما في حكمه وخبر الرسول وما في حكمه لا على التحقيق إذ هو في الحقيقة خمسة أنواع وفيه إشارة إلى أن مقصود الشارح من إدخال خبر الله والملك في خبر الرسول وخبر أهل الإجماع في المتواتر بيان أن الحصر مبني على المسامحة بإرادة ما في حكمها سواء بين كيفية الرجوع على ما قرره أو على طريق آخر بأن يرجع خبر الإجماع إلى خبر الرسول فإن خبر الإجماع بعينه خبر الرسول علم من طريق الإجماع ويمكن إخراجه عن المقسم إذ ليس هو مفيدًا بالنسبة إلى عامة الخلق بل بالنسبة إلى الخواص الذين يعلمون الإجماع وكيفيته كذا قيل.
قال الباجوري:
قوله: (فإن قيل الخبر…إلخ) هذا السؤال وارد على المصنف، حيث حصر الخبر الصادق المفيد للعلم في نوعين، فإنه قسمه إليهما، وشرط المقسم أن ينحصر في أقسامه، وحاصله عدم تسليم الحصر في النوعين الذي اقتضاه كلام المصنف.
قوله: (بل قد يكون خبر الله) أي: الذي أخبر به الرسول.
وقوله: (أو خبر الملك) أي: كخبر جبريل الذي أخبر به الرسول.
وقوله: (أو خبر أهل الإجماع) أي: الضمني، وإن لم تحصل صورة الخبر في اللفظ؛ إذ يلزم من إجماعهم على الحكم إخبارهم به.
وقوله: (أو الخبر المقرون بما يرفع احتمال الكذب) أي: بخبر الآحاد المقرون بقرينة ترفع احتمال كذبه.
قوله: (كالخبر بقدوم زيد عند تسارع قومه…إلخ) أي فإنه خبر مقرون بما يرفع احتمال الكذب؛ لجواز أن يكون لغير القدوم.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن السؤال المذكور وحاصله: أن خبر الله تعالى وخبر الملك راجعان لخبر الرسول؛ لأن كلا منهما إنما يكون مفيدا للعلم بالنسبة إلى عامة الخلق إذا وصل إليهم من جهة الرسول، فحكمه حكم خبر الرسول، وخبر أهل الإجماع راجع للخبر المتواتر؛ لأنه مثله في كونه خبر قوم يحكم العقل بصدقهم فهو في حكم الخبر المتواتر. وأما الخبر المقرون بما يرفع احتمال الكذب فهو خارج عن المقسم؛ لأنه لا يفيد العلم إلا مع النظر للقرائن لا بمجرد كونه خبرا كما هو المراد. فمحصل الجواب أن الحصر مبني على المسامحة لا على التحقيق، فإن المراد الخبر المتواتر وما في حكمه، وخبر الرسول وما في حكمه.
قوله: (المراد) أي بالخبر الصادق المقسم إلى النوعين المذكورين.
وقوله: (خبر يكون سبب العلم لعامة الخلق) أي ولو بواسطة وصوله إليهم من جهة الرسول، فدخل خبر الله وخبر الملك ودخل أيضا خبر أهل الإجماع؛ لأنه في حكم المتواتر.
وقوله: (بمجرد كونه خبرا) أي بسبب كونه خبرا المجرد عن القرائن وإن لم يتجرد عن الدلائل،
فقوله: (مع قطع النظر عن القرائن) تفسير لقوله “بمجرد كونه خبرا” وخرج بذلك خبر الآحاد المقرون بما يرفع احتمال الكذب.
قوله: (مع قطع النظر عن القرائن) أي لأن الدلائل كما سبق، وإنما قطع النظر عن القرائن لا عن الدلائل، مع أن كلا من الدلائل والقرائن أمر خارج عن الخبر موجب لصدقه؛ لأن الوجه في عد الخبر الصادق سببا مستقلا للعلم، استفادة معظم العلوم الدينية منه فلذا لم يقطع النظر عن الدلائل، وإلا لخرج خبر الرسول؛ لأنه لا يفيد العلم إلا بالنظر للدلائل، وقد يوجه قطع النظر عن الدلائل بأن القرائن تنفك عن الخبر فتوجد مع انتفاء الخبر ، كما إذا تسارع القوم إلى دار زيد مع عدم قدومه، بخلاف الدلائل فإنها لا تنفك عن الخبر ، بل كلما وجدت الدلائل وجد الخبر . ويرد هذا التوجيه بأن الأمر ليس كذلك؛ لأن الكلام في القرائن التي تدل على صدق الخبر دلالة قطعية، بحيث لا يحتمل تخلفه عنها كما يدل عليه قول الشارح، مع قطع النظر عن القرائن المفيدة لليقين بدلالة العقل. ولا شك أن القرائن المذكورة لا تنفك، ووجه بعض الفضلاء قطع النظر عن القرائن دون الدلائل بأن الطبائع والأفهام بخلاف الدلائل، فإنها ليست كذلك. ويرد هذا التوجيه أيضا بأنه يمكن ضبط القرائن إجمالا بأن تعتبر القرائن المفيدة لليقين إلى كل شخص. قال بعضهم: بقي إشكال قوي وهو أن الخبر المتواتر لا يفيد العلم مع قطع النظر عن قرائن صدق المخبرين، وعدم إمكان تواطئهم على الكذب، فكيف دخل في الخبر الصادق المعتبر فيه قطع النظر عن القرائن؟ ودفعه عبد الحكيم بأن منشأ العلم ليس ملاحظة القرائن الدالة على صدقهم، بل اجتماعهم من غير دخل للقرائن فيه.
قوله: (المفيدة لليقين) أي باعتبار انضمامها للخبر، وإلا فالقرائن وحدها إنما تفيد الظن.
وقوله: (بدلالة العقل) متعلق بالمفيدة.
قوله: (فخبر الله تعالى وخبر الملك…إلخ) تفريع على كون المراد خبرا يكون سبب العلم لعامة الخلق ولو بواسطة وصوله إليهم من جهة الرسول، وبذلك يندفع الاعتراض بأن هذا لا يتفرع على ما ذكره؛ لأنه يقتضي خروجهما لا دخولهما. فكان المناسب له أن يقول: فخرج خبر الله تعالى وخبر الملك؛ لأنهما إنما يفيدان العلم للرسول، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق، فإنما يفيد كل منهما العلم إذا وصل إليهم من جهة الرسول، فحكمه حكم خبر الرسول، وقد علمت مراد الشارح فلا اعتراض عليه.
قوله: (فحكمه حكم خبر الرسول) أي: وإذا كان كذلك، فحكمه حكم خبر الرسول؛ لأنه لا يصل إلى عامة الخلق إلا بإخباره صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وخبر أهل الإجماع في حكم المتواتر) أي: لأنه مثله في كونه خبر قوم يحكم العقل بصدقهم، لكنه بالبداهة في المتواتر، وبالنظر في خبر أهل الإجماع بأن يقال هذا خبر أهل الإجماع، وكلما هذا شأنه فهو صادق ومضمونه واقع لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتي على الضلالة” والمراد بالأمة المجتهدون.
قوله: (وقد يجاب بأنه…إلخ) هذا جواب آخر عن خبر أهل الإجماع، لكن هذا الجواب بخروجه، وأما الجواب السابق فبدخوله. وحاصل هذا الجواب: أن المراد خبر يكون سبب العلم بمجرده، بقطع النظر عن القرائن والأدلة، فخرج خبر أهل الإجماع؛ لأنه لا يفيد العلم بمجرده، بل بالنظر في الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة، كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتى على الضلالة”.
قوله: (قلنا وكذلك خبر الرسول) أي قلنا في رد هذا الجواب وكذلك خبر الرسول؛ لأنه لا يفيد العلم بمجرده، بل بالنظر في الأدلة الدالة على كون خبر الرسول حجة، وحيث كان خبر الرسول كخبر أهل الإجماع في ذلك، فإخراج خبر أهل الإجماع وإدخال خبر الرسول تحكم. وأجيب بالفرق بأن خبر الرسول يلزمه الدليل، فإن من سمع خبر الرسول يحضر عنده الدليل، بخلاف خبر أهل الإجماع فلا يلزمه الدليل، فإن من سمع خبر أهل الإجماع لا يحضر عنده الدليل فلا تحكم حينئذ.
قوله: (ولهذا جعل استدلاليا) أي: ولأجل كون خبر الرسول كخبر أهل الإجماع في كونه لا يفيد العلم بمجرده بل بالنظر في الأدلة، جعل العلم الحاصل منه استدلاليا.
وأما العقلُ: فهو سببٌ للعلمِ أيضًا.
قال الشارح: (وأما العقل) وهو قوة للنفس بها تستعد للعلوم والإدراكات، وهو المعني بقولهم: غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات. وقيل: جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. (فهو سبب للعلم أيضاً) صرح بذلك لما فيه من خلاف الملاحدة والسمنية فيجميع النظريات وبعض الفلاسفة في الإلهيات، بناء على كثرة الاختلاف وتناقض الآراء. والجواب: أن ذلك لفساد النظر، فلا ينافي كون النظر الصحيح من العقل مفيداً للعلم، على أن ما ذكرتم استدلال بنظر العقل، ففيه إثبات ما نفيتم، فيتناقض، فإن زعموا أنه معارضة للفاسد بالفاسد.
قال الخيالي:
قوله: (قوة للنفس) إن قلت: هذا مناف لما مر في وجه الحصر من أن العقل ليس آلة غير المدرك. قلت: وصف الشيء لا يسمى آلة له، وأما حمل الغير على المصطلح فبعيد.
قوله: (وقيل جوهر) هذا هو النفس بعينها والعرف واللغة مغايرتهما، فلذا قال: “قيل”.
قوله: (سبب للعلم أيضا) عدم تقييده بالضروري أو الاستدلالي أو نحوهما إشارة إلى العموم ففيه رد لفرق المخالفين.
قوله: (بناء على كثرة الاختلاف) هذا دليل بعض الفلاسفة لا السمنية على ما توهم؛ إذ لا كثرة اختلاف في العلوم المتسقة من الهندسيات والعدديات.
قوله: (فيتناقض) لأن هذه نسبة عدم المعلومية إلى ذات الله تعالى وصفاته فيكون من قبيل النظر في الإلهيات، لكن يرد أن يقال هذه الطائفة إنما تنفي العلم لا الظن ولعلهم يدعون الظن في هذه المسألة أيضا.
قال السيالكوتي:
قوله: إان قلت هذا…إلخ) يعني: قد سبق في وجه حصر أسباب العلم في الثلاثة أن العقل ليس آلة غير المدرك حيث قال: السبب إن كان
من الخارج فهو الخبر وإلا فإن كان آلة غير المدرك فهو الحواس، و”إلا” أي: وإن لم يكن آلة غير المدرك؛ لأنه قال: قوة للنفس بها تستعد فإنه صريح في أن المدرك النفس والعقل واسطة في إدراكها مغاير لها ضرورة أن قوة الشيء ليست عينه.
قوله: (قلت…إلخ) حاصل الجواب : نا لا نسلم أنه يفهم من التعريف أن العقل آلة للنفس فإن المفهوم منه أن العقل قوة و وصف للنفسي بسببها تستعد للإدراك ووصف الشيء لا يسمى آلة له أصلًا؛ إذ لا يقال في العرف واللغة أن حرارة النار آلة لإحراقه بل إنما يطلق الآلة على الأمر الذي هو مغاير للفاعل في الوجود وواسطة في وصول أثره إلى منفعله، وأما إطلاق الآلة على العلوم الآلية كالمنطق، فإن المنطق صفة للنفس، والنفس مدركة للعلوم بسبب المنطق مثلًا، مع أنها من أوصاف النفس، فلعله إطلاق مجازي وإلا فالنفس ليست فاعلة للعلوم غير الآلية فيكون تلك العلوم واسطة في وصول أثرها إليها لكن بقي أن إطلاق الآلة على العقل بمعنى القوة شائع في عباراتهم كما وقع في الكشف الكبير في بحث الأهلية مرارًا كثيرة وأنه يكون حينئذ ذكر غير المدرك في وجه الحصر مستدركًا إذ يكفي أن يقال : إن كان السبب خارجًا فهو الخبر و إلا فإن كان آلة فهو الحواس وإن لم يكن آلة فهو العقل فالظاهر من عبارة الشارح أن مقصوده نفى كونه غير المدرك و إن النفي متوجه إلى القيد وإنما نفى الغيرية عنه مسامحة باعتبار أن له دخلًا تامًا في الإدراك فإنه سلطان القوى الداركة فكأنه المدرك ونظيره قولهم: القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة كذا أفاده بعض الأفاضل ولا يخلو عن تعسف.
قوله: (وأما حمل الغير على المصطلح فبعيد) أي: وأما الجواب عن السؤال المذكور بأن المراد بالغير المذكور في وجه الحصر الغير المصلح وهو ما يمكن انفكاكه عن الآخر في الوجود فالمعنى إن لم يكن آلة يمكن انفكاكه في الوجود عن المدرك فهو العقل ولا شك أن نفي الغيرية عن العقل بهذا المعنى لا ينافي كونه قوة ووصفًا للنفس لأن وصف الشيء ليس مغايرًا له بهذا المعنى كما أنه ليس عينه فبعيد عن الفهم لأن المتبادر من إطلاق الغير هو اللغوي؛ أعني: ما يكون مغايرًا في المفهوم وعلى تقدير التسليم فهو غير صحيح لأن في الغيرية بالمعنى المذكور إنما هو عن الصفات القديمة وأما الصفات المحدثة فمغايرة لموصوفاتها لأنه يمكن وجود أحدهما مع عدم الآخر بأن يعدم الصفة ويبقى الموصوف على ما سيجيء بالتفصيل إن شاء الله تعالى والعقل مع النفس كذلك
قوله: (هذا هو النفس بينها) إذ هي التي يدرك بها الغائبات والمحسوسات جميعًا، وأما العقل المغاير للنفس فلا يدرك به إلا الغائبات إذ إدراك المحسوسات بالحواس هذا لكن قوله: يدرك به، صريح في أنه مغاير للنفس لأن النفس مدرك لا مدرك به اللهم إلا أن يقال بالمغايرة الاعتبارية أو يجعل الباء زائدة من قبيل كفى بالله وكيلًا ولك أن تقرأ قوله تدرك على صيغة المعلوم ويكون مسندًا إلى الغائبات ويجعل الإدراك بمعنى الانكشاف والباء في قوله به للتعدية فيكون المعنى جوهر ينكشف له الغائبات بالوسائط…إلخ واعلم أن الشارح ذكر في “التلويح” في بحث الأهلية إن العقل يطلق على القوة التي بها الإدراك وعلى الجوهر المجرد الغير المتعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف وهو المشار إليه بقوله عليه السلام : “أول ما خلق الله العقل” وإن حال نفوسنا بالقياس إليه كحال أبصارنا بالإضافة إلى الشمس. كما أن بإضافة نور الشمس يدرك المبصرات كذلك بإفاضة نوره يدرك المعقولات فالأظهر أن يجعل التعريف المذكور تعريفًا للعقل بهذا المعنى وإنما ضعفه لأنه بهذا المعنى ليس مرادًا ههنا لأن الكلام في العقل الذي هو من صفات المكلف وسبب لحصول علمه.
قوله: (و العرف واللغة على مغايرتهما…إلخ) يعني: أن العرف واللغة يدلان على مغايرة العقل والنفس فلذلك قال: قيل، إشارة إلى ضعفه. أقول هذا إنما يتم لو كان القائل بهذا المعنى منكرًا لإطلاق العقل على القوة المذكورة أما لو كان قائلًا بها ويكون مقصوده من هذا التعريف أنه يطلق العقل على النفس أيضًا كما يطلق على قوتها كما يدل عليه قوله عليه السلام : “أولما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل” الحديث، وقوله عليه السلام : “إن الله تعالى خلق العقل في أحسن صورة فقال: أقبل فأقبل، فقال: أدبر فأدبر، فقال: أنت أكرم خلقي: بك أكرم، وبك أهين ،وبك اعذب، وبك أثيب” فالأولى أن يقال: إنما أورده الشارح بقبل إشارة إلى أنه بهذا المعنى غير مراد ههنا لأنه بهذا المعنى ليس سببًا للعلم.
قوله: (عدم تقييده…إلخ) يعني: عدم تقييد العلم بالضروري أو الاستدلالي أو نحوهما بأن يقول: يفيد العلم في الإلهيات أو في معرفة الصانع مع إتيانه معرفًا بلام الاستغراق إشارة إلى العموم، يعني: أنه سبب لجميع أنواع العلوم فاندفع ما قال الفاضل المحشي من أن عدم تقييده إشارة إلى الإطلاق لا إلى العموم لأن معنى الإطلاق: هو عدم التقييد، ومعنى العموم: هو الاستغراق والذي يفهم من عدم تقييده هو الأول دون الثاني.
قوله: (ففيه رد لفرق المخالفين…إلخ) فتخصيص الشارح السمنية وبعض الفلاسفة قاصر لأن المخالفين فرق. الأولى: منهم المنكرون لإفادته مطلقًا، والثانية: المنكرون لإفادته فيما سوى الهندسيات والحسابيات، والثالثة: لإفادته في النظريات فقط، والرابعة: لإفادته في الإلهيات فقط، والخامسة: في معرفة الله فقط.
قوله: (هذا دليل بعض الفلاسفة…إلخ) يعني: أن المراد بقوله بناءً على كثرة الاختلاف…إلخ كثرته في الإلهيات فهو دليل الفلاسفة المنكرين لإفادته فيها فقط كما هو المذكور في المواقف وليس دليلًا للسمنية إذ دعواهم عام يشمل جميع النظريات من العدديات والهندسيات وغيرهما والدليل مختص بما عداهما إذ لا كثرة اختلاف فيهما فلو جعل دليلًا لهم لم يكن مثبتًا لدعواهم.
قوله: (لأن هذا نسبة…إلخ) لما كان قولهم النظر الصحيح لا يفيد العلم في الإلهيات بحسب الظاهر مسألة من مسائل النظر لا الإلهيات، فإفادة النظر للعلم بهذه النسبة لا تكون مناقضة لدعويهم أثبت كونه من الإلهيات بقوله: لأن هذا نسبة عدم المعلومية…إلخ ليتحقق التناقض وحاصله أن هذا الحكم في الحقيقة حكم من الإلهيات لأنه راجع إلى ذات الله وصفاته لا يعلم بالنظر فيكون النظر فيه بأنه لو كان ذات الله وصفاته معلومًا بالنظر لما كثر الاختلاف وتناقض الآراء فيه لكن اللازم منتف فالملزوم مثله نظرًا في الإلهيات فلو كان مفيدًا للعلم به لكان النظر مفيدًا للعلم في الإلهيات فيتناقض والفرق بين الأحكام الإيجابية والسلبية في إفادته النظر مما لا يرضى بسماعه الأذان الكريمه.
قوله: (لكن يرد…إلخ) يعني: يرد على هذا الجواب أنه إنما يلزم التناقض لو ادعوا أن النظر لا يفيد شيئًا من الظن والعلم وأما إذا اعترفوا بإفادته الظن على ما نقل عن الإمام من أنه لا نزاع لأ حد في إفادته الظن وإنما الخلاف في إفادته اليقين فلا تناقض؛ لأن لهم أن يقولوا: إن نظرنا هذا يفيد الظن بأن النظر لا يفيد اليقين في الإلهيات لا العلم بها حتى يتناقض.
قال الباجوري:
قوله: (وأما العقل…إلخ) مقابل لقوله “فالحواسإلخ” ولقوله “والخبر الصادق…إلخ” وهما وإن لم يوجد فيهما حرف التفصيل الذي هو أما، لكنهما في مقام التفصيل فكأنه وجد فيهما حرف التفصيل، ويحتمل أن تكون “أما” هنا لمجرد التأكيد.
قوله: (وهو قوة للنفس…إلخ) أي: هو صفة للنفس…إلخ فيكون العقل على هذا التعريف، وكذا الذي بعده عوضا، وسيذكر مقابله بقوله “وقيل جوهر…إلخ” وقوله “بها تستعد…إلخ” أي: بسبب تلك القوة تتهيأ النفس. فإن قيل: هذا التعريف يقتضي أن العقل آلة غير المدرك؛ لأنه صريح في أن المدرك النفس، والعقل واسطة في إدراكها، وهذا مناف لما مر في وجه الحصر من أن العقل ليس آلة غير المدرك. فإنه قال بعد قول المصنف: “وأسباب العلم ثلاثة الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل” وجه الحصر أن السبب، إن كان من خارج فهو الخبر الصادق، وإلا فإن كان آلة غير المدرك فهو الحواس، وإلا فهو العقل، أي وإلا يكن آلة غير المدرك فهو العقل. أجيب بأنا لا نسلم أن هذا التعريف يقتضي أن العقل آلة غير المدرك، وإنما يقتضي أنه صفة للنفس بسببها تستعد…إلخ ووصف الشيء لا يسمى آلة له؛ إذ لا يقال في حرارة النار التي هي صفة لها آلة في الإحراق، وأما إطلاق الآلة على العلوم الآلية كالنحو والمنطق، مع أنها من أوصاف النفس فلعله إطلاق مجازي. وأما الجواب عن السؤال المذكور بحمل الغير، فيما مر في وجه الحصر، على الغير المصطلح عليه وهو ما يمكن انفكاكه في الوجود، فلا ينافي كونه آلة كما اقتضاه التعريف فبعيد عن الفهم؛ إذ المتبادر الغير اللغوي وهو ما يكون مغايرا في المفهوم. على أن حمل الغير على المصطلح عليه في ذلك غير صحيح رأسا؛ لأن العقل مغاير للنفس بالمعنى المصطلح عليه، فإنه يمكن انفكاكه عن النفس بالجنون، وكذلك سائر الصفات المحدثة. وأما الصفات القديمة فذلك صحيح فيها؛ لأنها ليست عينا ولا غيرا. وحاصل الجواب الأول إرجاع ما هنا إلى ما مر، وحاصل الجوال الثاني إرجاع ما مر إلى ما هنا.
قوله: (للعلوم والإدراكات) المراد بالعلوم الاعتقادات المطابقة الجازمة الثابتة وبالإدراكات ما يشمل الاعتقادات المذكورة وغيرها كالظن والجهل والتقليد، فعطف الإدراكات على العلوم من عطف العام على الخاص. ويحتمل أن المراد بالعلوم ما عدى الإحساسات، وبالإدراكات الإحساسات؛ بناء على أن العلم لا يشمل إدراك الحواس، وعليه فعطف الإدراكات على العلوم من عطف المغاير، وكذلك على احتمال أن المراد بالعلوم التصديقات وبالإدراكات التصورات، وأقرب هذه الاحتمالات أولها.
قوله: (وهو المَعْنِيُّ بقولهم…إلخ) المعنى المذكور هو المقصود بقولهم…إلخ فالمراد من التعريفين شيء واحد.
قوله: (غريزة) أي: قوة مغروزة في النفس.
وقوله: (يتبعها العلم) أي: يلزمها العلم من غير نظر وفكر.
وقوله: (بالضروريات) أي: ببعضها، ككون الواحد نصف الاثنين.
وقوله: (عند سلامة الآلات) أي عند سلامة الحواس الظاهرة والباطنة كالوجدان، وأما عند عدم سلامتها، فلا يتبعها العلم المذكور.
قوله: (وقيل جوهر…إلخ) مقابل للتعريفين قبله؛ لأن كلا منهما مبني على أن العقل عرض كما علم مما تقدم. والأظهر أن المراد بالجوهر في هذا التعريف الجوهر المجرد عن المادة الجسمية على القول بإثبات المجرد، كما يؤخذ مما ذكره الشارح في التلويح، فإنه ذكر فيه أن العقل يطلق بمعنى القوة التي بها الإدراك، وعلى الجوهر المجرد عن المادة فيكون غير مركب من العناصر، وحال نفوسنا بالنسبة إليه كحال أبصارنا بالنسبة إلى الشمس. فكما أن أبصارنا تدرك المبصرات بإفاضة نور الشمس، كذلك نفوسنا تدرك المعقولات بإفاضة نوره. ويحتمل أن المراد الجوهر اللطيف المشابك للأجرام الكثيفة كالأبدان الإنسانية، وعلى الأول فهو غير متحيز؛ لأن المجردات لا تحيز لها، وعلى الثاني فهو متحيز، فقيل في القلب وقيل في الدماغ.
وقوله: (يدرك به الغائبات) أي المجهولات التصورية والتصديقية.
وقوله: (بالوسائط) أي التعاريف بالنسبة للمجهولات التصورية، والأقيسة بالنسبة للمجهولات التصديقية.
وقوله: (والمحسوسات) أي المدركات بالحواس الظاهرة أو الباطنة كالوجدان.
وقوله: (بالمشاهدة) أي ولو بالحواس الباطنة كالوجدان والعقل بهذا المعنى هو النفس بعينها، لأن العقل المغاير للنفس لا يدرك به إلا الغائبات بالوسائط، وأما المحسوسات فتدرك بالحواس لا بالعقل المذكور، والعرف واللغة يدلان على مغايرة العقل والنفس؛ فلذلك قال الشارح “قيل” فأشار إلى ضعفه حيث حكاه بصيغة التمريض. فإن قيل: كيف يكون العقل بالمعنى المذكور هو النفس بعينها مع أن قوله “يدرك به…إلخ” صريح في مغايرته للنفس؛ لأن النفس مُدْرِك لا مُدْرَكُ به. أجيب بأن الباء في “به” زائدة في الفاعل على حد قوله تعالى: ﱡﭐ ﱈ ﱉ ﱊ ﱠ والضمير المجرور بها قام مقام الضمير المنفصل، وعلى هذا فيقرأ: “يدرك” بالبناء للفاعل، ويكون فاعله هو الضمير المذكور، فالمعنى جوهر يُدرك هو…إلخ. ولك أن تجعل الفاعل هو “الغائبات” وما عطف عليها، و”تدرك” بمعنى تنكشف، والباء في “به” بمعنى له، فالمعنى جوهر تنكشف له الغائبات…إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف
قوله: (فهو سبب للعلم أيضا) أي: كما أن كلا من الحواس السليمة والخبر الصادق سببا للعلم، وعدم تقييده بالضروري أو الاستدلالي أو نحوهما: كغير الإلهيات وغير معرفة الله؛ إشارة إلى العموم، أي: أنه سبب لجميع أنواع العلم. ففيه رد لفرق المخالفين، وهي خمسة، الأولى: تنكر إفادته للعلم في الإلهيات، وهم بعض الفلاسفة، وقد ذكر الشارح هاتين الفرقتين، والثالثة: تنكر إفادته للعلم فيما عدا الهندسيات والحسابيات. والرابعة: تنكر إفادته للعلم في النظريات فقط. والخامسة: تنكر إفادته للعلم في معرفة الله فقط، فلا وجه لتخصيص الشارح الفرقتين الأولتين. وبحث في ذلك الفاضل المحشي بأن عدم تقييده؛ إشارة إلى الإطلاق لا إلى العموم، فإن الذي يفهم من عدم تقييده الأول دون الثاني. ودفعه عبد الحكيم بأن الإشارة إلى العموم من عدم التقييد، مع الإتيان بلام الاستغراق.
قوله: (صرح بذلك لما فيه…إلخ) جواب عما يقال: لا حاجة للتصريح بهذا على ما تقدم من عدِّهِ العقل من أسباب العلم حيث قال: “وأسبابه ثلاثة؛ الحواس السليمة والخبر الصادق والعقل.” وحاصل الجواب أنه صرح بذلك للرد على المخالفين.
قوله: (من خلاف السمنية في جميع النظريات) الأولى أن يقول: “في جميع العقليات نظرية كانت أو ضرورية”؛ لأنهم يقولون: لا طريق للعلم سوى الحس ولذا أنكروا إفادة الخبر المتواتر للعلم كما تقدم مع أنه من الضروريات.
قوله: (وبعض الفلاسفة) أي: وخلاف بعض الفلاسفة وذلك البعض هم المهندسيون.
وقوله: (في الإلهيات) أي: لأنها بعيدة عن الأذهان جدا، وقالوا: إن أظهر الأشياء للإنسان هويته التي يشير إليها بقوله “أنا” وليس عقله سببا للعلم بها وإلا لما اختلف فيها العقلاء، فما بالك بأبعدها عن الأوهام.
قوله: (بناء على كثرة الاختلاف) أي بناء على الاختلاف الكثير، فالإضافة في ذلك من إضافة الصفة للموصوف.
وقوله: (وتناقض الآراء) أي تناقض المرئيات بمعنى المعتقدات فالآراء: جمع رأي بمعنى المرائي أي المعتقد. وحاصل الاستدلال بذلك أن يقال: لو كان العقل سببا للعلم لما كثر فيه الاختلاف وتناقضت الآراء، لكن التالي باطل، فكذا المقدم، وهذا دليل بعض الفلاسفة لا السمنية على ما وهم؛ إذ لا كثرة اختلاف في العلوم المنسقة أي المنظمة والمترتبة، بحيث لا يقع فيها غلط من الهندسيات والعدديات، مع أن دعواهم شاملة لهذه العلوم فلو جعل ذلك دليلهم لم يكن مثبتا لدعواهم؛ لكونه أخص منهم، وحينئذ فدليل السمنية دليل آخر غير هذا الدليل لم يذكره الشارح، ويمكن أن يجعل ذلك دليلهم لكن مع ضميمة: وهي أنه إذا تحقق تخلف العلم عن العقل في بعض العلوم كان متهما، وحينئذ لا يفيد العلم أصلا.
قوله: (والجواب…إلخ) هذا جواب عن الشبهة المذكورة وحاصله منع الملازمة في القياس المذكور، فكأنه قال: لا نسلم أنه يلزم من كون النظر مفيدا للعلم عدم كثرة الاختلاف وتناقض الآراء؛ لأن ذلك قد يحصل لفساد النظر بسبب عدم اشتماله على الشرائط المعتبرة في صحته، فلا ينافي كون النظر الصحيح بسبب اشتماله على تلك الشروط مفيد للعلم.
قوله: (إن ذلك) أي ما ذكر من كثرة الاختلاف وتناقض الآراء،
وقوله: (لفساد النظر) أي الصادر من بعض النظار فإذا اقتضى نظره في زعمه سلبا، واقتضى النظر الصحيح الصادر من بعض النظار إيجابا، فقد وقع الاختلاف والتناقض وهكذا.
قوله: (فلا ينافي…إلخ) تفريع على كون ما ذكره من كثرة الاختلاف وتناقض الآراء لفساد النظر.
قوله: (على أن ما ذكرتم…إلخ) ترق في الجواب، والقصد به إلزامهم ببعض ما نفوه فيكون جوابا إلزاميا، والخطاب لبعض الفلاسفة أو للسمنية أيضا؛ بناء على أن الدليل المذكور راجع لهم أيضا.
قوله: (استدلال بنظر العقل) أي حيث رتبتم الدليل السابق المقتضي في زعمكم بثبوت مدعاكم.
قوله: (ففيه إثبات ما نفيتم) تفريع على كون ما ذكروه استدلال بنظر العقل وإنما كان فيه إثبات ما نفوه من إفادة النظر للعلم؛ لأن استدلالهم بنظر العقل على مدعاهم قد أثبتوا به في زعمهم دعواهم، فيكون هذا النظر مفيدا للعلم، ففي استدلالهم المذكور إثبات إفادة النظر للعلم التي نفوها.
قوله: (فيتناقض تفريع على التفريع قبله) ووجه التناقض أن مدعاهم في قوة سالبة كلية قائلة: “لا شيء من النظر بمفيد للعلم”، ودليلهم في قوة موجبة جزئية قائلة: “بعض النظر مفيد للعلم”، ومن القواعد المقررة أن الموجبة الجزئية تناقض السالبة الكلية. لا يقال لا نسلم التناقض في كلام بعض الفلاسفة؛ لأن قولهم النظر لا يفيد العلم في الإلهيات مسألة من مسائل النظر، لا من الإلهيات، فكون الدليل الذي ذكروه يفيد العلم بهذه النسبة لا يناقض مدعاهم؛ لأنا نقول: قولهم النظر لا يفيد العلم في الإلهيات في الحقيقة مسألة من مسائل الإلهيات؛ لأنه في قوة قولهم: ذات الله وصفاته لا تعلم بالنظر ففيه نسبة عدم المعلومية إلى ذات الله تعالى وصفاته، فيكون من قبيل النظر في الإلهيات، لكن يرد أن يقال: هذه الطائفة إنما تنفي أن النظر يفيد العلم لا الظن على ما نقل عن الإمام من أنه لا نزاع لأحد في إفادته الظن، وإنما الخلاف في إفادته اليقين، ولعلهم يدعون الظن في هذه المسألة أيضا، وحينئذ فلا تناقض في كلامهم.
قوله: (فإن زعموا أنه معارضة للفاسد بالفاسد) أي فإن قالوا في دفع التناقض: إن الاستدلال بما ذكر مقابلة للفاسد عندهم وهو دليل أهل الإسلام الذي استدلوا به، على أن النظر يفيد العلم بالفاسد، وهو دليلهم المذكور، وحيث كان دليلهم فاسدا كان غير مناقض لمدعاهم.
قال الشارح: قلنا: إما أن يفيد شيئاً فلا يكون فاسداً، أو لا يفيد فلا يكون معارضة. فإن قيل: كون النظر مفيداً للعلم إن كان ضرورياً لم يقع فيه خلاف كما في قولنا: الواحد نصف الاثنين، وإن كان نظرياً لزم إثبات النظر بالنظر وأنه دور. قلنا: الضروري قد يقع فيه خلاف، إما لعناد أو لقصور في الإدراك، فإن العقول متفاوتة بحسب الفطرة باتفاق من العقلاء واستدلال من الآثار وشهادة من الأخبار.
قال الخيالي:
قوله: (فلا يكون فاسدا) يرد عليه أن إفادة الإلزام لا ينافي الفساد في نفسه والحجج الإلزامية شائعة في الكتب والقول بعدم إفادتها تقوّل.
قوله: (فإن قيل كون النظر مفيدا…إلخ) هذا إنما ينفي العلم بالإفادة لا نفس الإفادة لكن القائل بنفسها قائل بعلمها والمنكر ينكرهما معا وههنا توجيه آخر لكن لا يسعه المقام.
قوله: (إثبات النظر بالنظر) أي: إثبات إفادة النظر بإفادة النظر، وذلك لأن القضية الكلية؛ أعني: قولنا كل نظر مفيد مشتملة على أحكام جزئياتها فإثبات الكلية بالنظر المخصوص إثبات حكم ذلك المخصوص بنفسه، وقد يقال معنى إثبات الحكم استفادته العلم به فاللازم استفادة العلم بالحكم من نفس الحكم ولا خلل فيه، وقد زيفه الشارح في شرح المقاصد ولم يلتفت إليه ههنا.
قوله: (وأنه دور) أي توقف الشيء على نفسه الذي هو حاصل الدور.
قال السيالكوتي:
قوله: (يرد عليه…إلخ) حاصله: أنا لا نعلم أنه لو أفاد شيئًا لم يكن فاسدًا لجواز أن يكون فاسدًا في نفسه ومفيدًا لإلزام الخصم فإنه معترف بأن النظر يفيد العلم ففي هذا أيضًا نظر فيفيد العلم عنده بأنه يفيده العلم و الحجج الإلزامية، أعني: المركبة من المقدمات المسلمة عند الخصم شائعة في الكتب والقول بعدم إفادته الإلزام لعدم صدقه في نفس الأمر قول بلا دليل لا يعبأ به.
قوله: (هذا إنما ينفي العلم…إلخ) إشارة إلى إيراد اعتراض على قوله: فإن قيل…إلخ، وحاصله أن هذه الشبهة لا تستلزم المدعى لأنها على تقدير تمامها إنما تدل على امتناع العلم بأن النظر لا يفيد العلم لا أنه ليس مفيدًا في نفسه لأن حاصلها أن كون النظر مفيدًا للعلم لا يمكن أن يكون ضروريًا حاصلًا بدون الاستدلال ولا أن يكون نظريًا حاصلًا بالإستدلال ولا شك أه إنما يلزم منه أن لا يكون كون النظر مفيدًا حاصلًا لنا أصلًا وهو لا يستلزم عدم كونه مفيدًا في نفسه ،والمدعى الثاني .
قوله: (لكن القائل بنفسها…إلخ) إشارة إلى دفع الإعتراض المذكور، يعني: أن القائل بالإفادة يدعي العلم بها أيضًا إذ المقصود الاستدلال وهو إنما يترتب على العلم ولأنه لا يمكن دعوى الشيء بدون العلم به والمنكر ينكرهما معًا أي: يدعي كون النظر مفيدًا غير معلوم لنا وانتفاء هذا المجموع إما بانتفاء نفس الإفادة أو بنتفاء العلم بها فإذا أفادت الشبهة المذكورة انتفاء العلم ثبت مدعي المنكر وخلاصة الجواب أنا لانسلم أن مدعي المنكر نفى نفس الإفادة بل نفي العلم بالإفادة وهو إما بعدم الإفادة أو بعدم العلم بها، ولا يخفى عليك أنه لو تمت هذه الشبهة لزم ثبوت نقيض ما ادعى المنكر إلا أن يدعي الظن دون العلم.
قوله: (أي إثبات إفادة النظر…إلخ) يعني: أن الكلام على تقدير المضاف و المعنى أنه يلزم إثبات إفادة النظر المخصوص العلم بإفادة ذلك النظرالمخصوص له لأن إثبات القضية الكلية القائلة؛ أعني: كل نظر صحيح مفيد للعلم بالنظر المخصوص موقوف على إفادته العلم بها ولا شك أن حكم هذا النظر؛ أعني: كونه مفيدًا مندرج تحت الكلية المذكورة فإثبات تلك الكلية بالنظر المخصوص يستلزم إثبات حكم هذا المخصوص بنفس إفادته العلم وأنه إثبات الشيء بنفسه.
قوله: (وقد يقال…إلخ) حاصل هذا الجواب: أن اللازم مما سبق إثبات إفادة النظر المخصوص بإفادة النظر المخصوص ولا نسلم أنه إثبات الشيء بنفسه لأن معنى إثبات الحكم بالنظر أن العلم به يستفاد من النظر بأن يعلم المقدمات مرتبة فيعلم الحكم وهذا إنما يتوقف على كون النظر مفيدًا لا على العلم بإفادته ألا يرى أنا نحصل كثيرًا من النتائج بالأنظار الصحيحة مع الغفلة عن العلم بكونها مفيدة للعلم فاللازم على تقدير إثبات تلك القضية الكلية بالنظر المخصوص استفادة العلم بأن النظر المخصوص مفيد من نفس الحكم بكونه مفيدًا ولا خلل في استفادة العلم بالإفادة من نفس إفادته لعدم لزوم إثبات الشيء بنفسه.
قوله: (وقد زيفه الشارح…إلخ) وحاصل تزييفه: أن العلم بأن النظر مفيد إنما يستفاد من العلم بذلك النظر والعلم بإفادته فيلزم استفادة العلم بإفادته من العلم بإفادته فيعود المحذور لأن النتيجة لازمة للدليل والعلم باللازم إنما يلزم من العلم باللزوم والعلم بتحقق الملزوم ولذا شرط الشيخ في الإنتاج التفطن بكيفية اندراج الأصغر تحت الأوسط ليتحقق له العلم بكيفية إفادته وما ذكرته من أنا نحصل كثيرا من العلوم بأنظار صحيحة مع الغفلة عن العلم بكونها مفيدة لا يدل على عدم العلم بالإفادة بل على عدم العلم بالعلم بالإفادة كيف ولو لم يكن العلم بالإفادة لما حكمنا بإفادتها لتلك النتائج.
قوله: (أي توقف الشيء على نفسه…إلخ) يعني: ليس المراد من الدور معناه الحقيقي وهو توقف الشيء على مايتوقف عليه لعدم وجود التوقف من الجانبين ههنا بل المراد لازمه، أعني: توقف الشيء على نفسه إذ هو اللازم من توقف إفادة النظر على إفادته، قال بعض الفضلاء: معنى قوله: وأنه دور أنه يستلزم الدور الحقيقي لأن العلم بأن كل نظر صحيح مفيد على تقدير إثباته بالنظر المخصوص موقوف على العلم بإفادته لها والحال أن العلم بإفادة هذا النظر على تقدير إثباته بالنظر المخصوص موقوف على العلم بتلك الكلية لأنه من فروعها والعلم بالفرع مستفاد من العلم بالأصل بضم الصغرى السهلة الحصول إليه بأن يقال هذا النظر صحيح وكل نظر صحيح مفيد فهذا مفيد فلا حاجة إلى حمل الدور على معناه المجازي أقول فيه بحث لأنا لا نسلم أن العلم بإفادة النظر المخصوص موقوف على العلم بتلك الكلية وكون العلم بالفرع مستفادًا من الأصل بجعله كبرى للصغرى السهلة الحصول إنما يدل على استلزامه إياه وأين الاستلزام من التوقف فإن العلم بالنتيجة مستفاد من الدليل المعين فليس موقوفًا عليه لجواز أن يحصل بوجه آخر نعم توقف الشيء على نفسه لازم لأنا إذا أثبتنا الكلية بالنظر المخصوص فقد أثبتنا حكمه بنفسه وذلك ليس بدور حقيقة فلذا حمل المحشي على المعنى المجازي.
قال الباجوري:
قوله: (قلنا إما أن يفيد شيئا…إلخ) أي: قلنا في جواب هذا الزعم: إما أن يفيد دليلهم شيئا، فلا يكون ذكرهم لدليلهم معارضة لدليلنا، وبقي دليلنا سالما عن المعارضة، ويرد على الشق الأول أن إفادة الإلزام للخصم لا تنافي الفساد في نفسه، وحينئذ فيجوز أن يكون دليلهم فاسدا في نفسه ومفيدا لإلزام المسلمين، فإنهم معترفون بأن النظر يفيد العلم، وهذا نظر فيفيد عندهم العلم بأن النظر لا يفيد العلم والحجج الإلزامية، وهي المركبة من المقدمات المسلمة عند الخصم شائعة في الكتب. والقول بعدم إفادتها لإلزام الخصم قول بلا دليل فلا يعبأ به، ويمكن أن يجاب بأن المراد: إما أن يفيد دليلهم شيئا من بطلان كلام المسلمين فلا يكون فاسدا وإفادة بطلان مذهب الخصم تنافي الفساد في نفسه، وليس المراد: إما أن يفيد دليلهم شيئا ولو الإلزام حتى يرد أن إفادة الإلزام للخصم لا تنافي الفساد في نفسه.
قوله: (فإن قيل كون النظر مفيدا للعلم…إلخ) هذا السؤال وارد على كلام المصنف المصرح بكون النظر مفيدا للعلم، وهو من أقوى شبه السمنية. وحاصله: أن كون النظر مفيدا للعلم لا يصح أن يكون ضروريا ولا أن يكون نظريا؛ لأنه إن كان ضروريا لم يقع فيه خلاف، كما لم يقع خلاف في قولنا “الواحد نصف الاثنين”. وهذا التالي باطل لوقوع الخلاف فيه فليكن المقدم وهو كونه ضروريا باطلا، وإن كان نظريا لزم إثبات إفادة النظر بإفادة النظر. وهذا التالي باطل لما فيه من إثبات الشيء بنفسه فليكن المقدم، وهو كونه نظريا باطلا. واعترض على هذا القيل بأنه على تقدير تمامه، إنما ينفي العلم بالإفادة لا نفس الإفادة، مع أن مدعاهم نفي نفس الإفادة لا نفي العلم بها؛ إذ النزاع بينهم وبين المسلمين في الإفادة وعدمها لا في العلم بها. وأجيب بأن القائل بنفسها قائل بعلمها؛ إذ لا يمكن دعوى شيء بدون العلم به والمنكر ينكرهما معا. وخلاصة الجواب: أنا لا نسلم أن مدعاهم نفي نفس الإفادة، لا نفي العلم بها بل مدعاهم نفيهما معا. قال العلامة الخيالي: وهنا توجيه آخر لكن لا يسعه المقام.أ.ه. ويحتمل كما قاله بعضهم: إن المراد به أن يقال العلم والمعلوم متحدان بالذات، فنفي العلم بالإفادة نفي نفس الإفادة، وإنما لم يسعه المقام؛ لأن إثبات اتحادهما ذاتا مبني على الأدلة الدقيقة التي لا يتحملها المقام، ولا يخفى أنه لو تمت هذه الشبهة لزمهم التناقض؛ لأن هذه الشبهة نظر من الأنظار وهي عندهم مفيدة للعلم ببطلان كون النظر مفيدا للعلم، إلا أن يدعي أنها تفيد الظن لا العلم.
قوله: (كون النظر مفيدا للعلم) أي: الذي ادعاه المسلمون
وقوله: (إن كان ضروريا لم يقع فيه خلاف) أي: والتالي باطل فكذا المقدم.
وقوله: (كما في قولنا الواحد نصف الاثنين) أي: كما لم يقع خلاف في قولنا: “الواحد نصف الاثنين”.
وقوله: (وإن كان نظريا لزم إثبات النظر بالنظر) أي: والتالي باطل فكذا المقدم، والكلام على تقدير مضاف؛ أي: لزم إثبات إفادة النظر بإفادة النظر؛ لأن الكلام في إفادة النظر لا في نفس النظر، والمراد لزم إثبات إفادة النظر المخصوص بإفادة ذلك النظر المخصوص وذلك؛ لأن القضية الكلية؛ أعني: قولنا “كل نظر مفيد للعلم” مشتملة على أحكام جزئيات موضوعها التي منها حكم هذا النظر المخصوص، وحينئذ فإثبات حكم تلك القضية الكلية بالنظر المخصوص مستلزم لإثبات حكم ذلك النظر المخصوص بنفسه؛ إذ لا شك أن حكم هذا النظر المخصوص مندرج تحت حكم تلك القضية الكلية. وقد أثبتنا حكم تلك القضية الكلية بذلك النظر المخصوص، فلزم إثبات الشيء بنفسه، وقد يقال لا نسلم أنه يلزم إثبات الشيء بنفسه؛ لأن معنى إثبات الحكم استفادة العلم به، فاللازم استفادة العلم بالحكم من نفس الحكم لا إثبات الشيء بنفسه، ولا خلل في استفادة العلم بالحكم من نفس الحكم؛ لتغاير المفاد والمفاد منه إذ المفاد العلم بالحكم والمفاد منه نفس الحكم. وقد زيفه الشارح في شرح المقاصد ولم يلتفت إليه ههنا، وحاصل تزييفه أن العلم بالحكم الذي هو إفادة النظر إنما يستفاد من العلم بذلك الحكم، فيلزم استفادة العلم بالحكم من العلم بالحكم فيعود المحذور.
قوله: (وأنه دور) ليس المراد بالدور معناه الحقيقي وهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه؛ لعدم وجود التوقف من الجانبين ههنا، بل المراد توقف الشيء على نفسه الذي هو حاصل الدور؛ لأن هذا هو اللازم من إثبات إفادة النظر بالنظر. قال بعض الفضلاء: لا حاجة إلى حمل الدور على المعنى المجازي؛ لأنه يصح أن يراد به المعنى الحقيقي. فإن العلم بأن كل نظر مفيد على تقدير إثباته بالنظر المخصوص موقوف على العلم بإفادته، والعلم بإفادته موقوف على تلك القضية؛ لأنه من فروعها والعلم بالفرع مستفاد من العلم بالأصل، وقال العلامة بعد الحكيم: لا نسلم أن العلم بإفادة النظر المخصوص موقوف على تلك القضية، وأن العلم بالفرع مستفاد من العلم بالأصل؛ لجواز أن يحصل بوجه آخر فلا يلزم هنا المعنى الحقيقي للدور، فإذا حمل على لازمه وهو توقف الشيء على نفسه.أ.ه. بالمعنى مع اختصار.
قوله: (قلنا…إلخ) هذا جواب عن السؤال المار، وحاصله: منع الملازمة في الشرطيتين المذكورتين في السؤال. أما الأولى: التي هي قولهم إن كان ضروريا لم يقع فيه خلاف فنمنع الملازمة فيها؛ لأن الضروري قد يقع فيه خلاف، إما لعناد من المخالفين أو لقصور في الإدراك. وأما الثانية: التي هي قولهم وإن كان نظريا لزم إثبات النظر بالنظر فنمنع الملازمة فيها؛ لأن النظر قد يثبت بنظر مخصوص، ولا يعبر عنه بالنظر فيكون المثبت بفتح الباء هو إفادة ذلك النظر للعلم من حيث ذاته، فلم يلزم إثبات الشيء بنفسه لتغاير المثبت بفتح الباء والمثبت بكسرها بالاعتبار. واعلم أن الإمام الرازي اختار الشق الأول من السؤال ومنع الملازمة في الشرطية الأولى، وإمام الحرمين اختار الشق الثاني من السؤال ومنع الملازمة في الشرطية الثانية. والشارح المحقق جمع في جوابه بين ما اختاره الإمام الرازي وما اختاره إمام الحرمين.
قوله: (الضروري قد يقع فيه خلاف) أي: نختار الشق الأول من السؤال ونمنع الملازمة في الشرطية الأولى؛ لأن الضروري قد يقع فيه خلاف.
وقوله: (إما لعناد) أي: مكابرة من المخالفين كالسوفسطائية فإنهم خالفوا في جميع الضروريات.
وقوله: (أو لقصور في الإدراك) أي: لقصور في إدراك المخالف، كمن خالف في أن السقمونيا مسهلة للصفراء مثلا فإن مخالفته في ذلك؛ لقصور في إدراكه بسبب عدم إلفه بذلك.
وقوله: (فإن العقول متفاوتة) أي: في الذكاء والبلادة.
وقوله: (بحسب الفطرة) أي: وكذا لدهشته مثلا فاقتصاره على الأول لكون الأصل بخلاف ما كان لدهشته مثلا فإنه لعارض.
وقوله: (باتفاق من العقلاء) أي: وهذا التفاوت ثابت باتفاق من العقلاء.
وقوله: (واستدلال من الآثار) أي: وثابت باستدلال من آثار العقول التي هي الإدراكات المختلفة في الدقة.
وقوله: (وشهادة من الإخبار) أي: وثابت بشهادة من إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام كمخبر: “أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم”.
قال الشارح: والنظري قد يثبت بنظر مخصوص لا يعبر عنه بالنظر، كما يقال: قولنا: العالم متغير وكل متغير حادث يفيد العلم بحدوث العالم بالضرورة، وليس ذلك لخصوصية هذا النظر، بل لكونه صحيحاً مقروناً بشرائطه، فيكون كل نظر صحيح مقرون بشرائطه مفيداً للعلم. وفي تحقيق هذا المنع زيادة تفصيل لا يليق بهذا الكتاب.
قال الخيالي:
قوله: (والنظري قد يثبت بنظر مخصوص…إلخ) حاصله أنا نثبت الكلية بشخصية ضرورية، ويجوز أن تكون الكلية نظرية والشخصية ضرورية إذا لم تؤخذ بعنوان الكلية؛ ليلزم نظرية المحمول فيها أيضا فاللازم إثبات حكم هذا النظر من حيث إنه نظر بحكمه من حيث خصوص ذاته ولا خلل فيه، هذا هو تحقيق الحق في هذا المقام فدع عنك خرافات الأوهام.
قال السيالكوتي:
قوله: (حاصله أنا نثبت الكلية…إلخ) يعني: لانسلم أنه يلزم من إثبات إفادة النظر بافادة النظر إثبات الشيء بنفسه لأن المثبت هو إفادة النظر من حيث كونه نظرًا والمثبت هو إفادته من حيث ذاته لأنا نثبت القضية الكلية القائلة بأن كل نظر صحيح مفيد بالقضية الشخصية القائلة بأن هذا النظر من حيث ذاته مفيد إذ المثبت لتلك الكلية هذا النظر المخصوص من حيث ذاته من غير أن يكون معتبرًا بعنوان النظر المخصوص حتى لو فرض أنه ليس من أفراد النظر كان أيضًا مثبتًا لتلك الكلية فيكون الموقوف عليه إفادته من حيث ذاته واللازم من إثبات تلك الكلية بالقضية الشخصية إثبات الحكم بإفادة النظر المخصوص من حيث كونه نظرًا لأن اندراج هذا النظر تحتها إنما هو من حيث كونه نظرًا فيكون الموقف إفادته من حيث كونه نظرًا ولاخلل فيه لتغاير المثبت والمثبت بالاعتبار وهذا خلاصة الجواب وأما بيان أنه يجوز أن يكون القضية الشخصية من حيث أخذه بعنوان شخصيته ضروريًا وبعنوان كليته نظريًا فلا دخل له في الجواب ولذا لم يتعرض له الشارح والمقصود منه دفع ما توهم من أن القضية الشخصية لاتكون ضرورية لدخولها في تلك الكلية فتكون نظرية ثابتة بإفادة نظر آخر لها ويتكلم فيه أيضًا فإما أن يذهب أو يعود فيلزم الدور أو التسلسل وحاصل الدفع: أن تلك القضية الشخصية ضرورية إذا أخذ موضوعها من حيث ذاته مع قطع النظر عن كونه نظرًا وهي بهذا الاعتبار مثبتة على صيغة اسم الفاعل غير مندرجة تحت الكلية ونظرية إذا أخذ موضوعه بعنوان الكلية من حيث كونه نظرًا وهي بهذا الاعتبار مثبتة على صيغة اسم المفعول مندرجة تحت الكلية ولامحذور في ذلك فإن القضية تختلف بداهة وكسبا باختلاف العنوان فإن قولنا خالق العالم موجود نظري وقولنا واجب الوجود موجود بديهي.
قال الباجوري:
قوله: (والنظري قد يثبت بنظر مخصوص) ولا يعبر عنه بالنظري ونختار الشق الثاني من السؤال ونمنع الملازمة في الشرطية الثانية؛ لأن النظري قد يثبت بنظر مخصوص لا من حيث كونه نظرا بل من حيث ذاته فلم يلزم من إثبات النظر بالنظر إفادة الشيء بنفسه؛ لأن حاصله أنا نثبت القضية الكلية القائلة: كل نظر مفيد للعلم بشخصية ضرورية قائلة في نظر مخصوص هذا التركيب مفيد للعلم ولا يعبر عنه بالنظر، فإن قيل: حيث كانت الكلية نظرية فالشخصية كذلك؛ لاندراجها تحت الكلية النظرية فيحتاج إلى إثبات الشخصية حينئذ بنظر آخر، فإما يذهب إلى غير نهاية أو يعود فيلزم التسلسل أو الدور. أجيب بأنه يجوز أن تكون الكلية نظرية والشخصية ضرورية، إذا لم تؤخذ بعنوان الكلية بل بعنوان آخر كالتركيب أو القول أو نحو ذلك، بخلاف ما إذا أخذت بعنوان الكلية فإنه يلزم نظرية المحمول فيها كالكلية، وحينئذ فاللازم من إثبات تلك الكلية بالشخصية الضرورية إثبات حكم هذا النظر المخصوص من حيث كونه نظرا؛ لأن اندراجه تحت الكلية إنما هو من هذه الحيثية بحكمه من حيث خصوص ذاته من غير التفات إلى كونه نظرا، فيكون الموقوف إفادة النظر المخصوص من حيث كونه نظرا بواسطة اندراجه تحت الكلية، والموقوف عليه إفادة ذلك النظر من حيث ذاته ولا خلل فيه؛ لتغاير المثبَت: اسم مفعول، والمثبِت: اسم فاعل بالاعتبار. هذا هو تحقيق الحق في هذا المقام فدع عنك خرافات الأوهام.
قوله: (كما يقال) أي: وذلك كما يقال.
وقوله: (قولنا) مبتدأ
وقوله: (العالم متغير وكل متغير حادث) هو النظر المخصوص.
وقوله: (يفيد العلم…إلخ) خبر عن المبتدأ الذي هو قولنا.
قوله: (وليس ذلك…إلخ) جواب عما يقال: إن إفادة النظر المخصوص للعلم لا تثبت القضية الكلية القائلة: كل نظر مفيد للعلم؛ لأن ذلك لخصوصيته فغيره من الأنظار ليس كذلك. وحاصل الجواب أنا لا نسلم أن ذلك لخصوصية هذا النظر، بل لكونه صحيحا مقرونا بشرائطه فظهر من هذا أن حكم هذا النظر إفادة العلم بالضرورة، وأن علته كونه صحيحا مقرونا بشرائطه، وحينئذ فيكون كل نظر صحيح مقرون بشرائطه كذلك بطريق القياس على النظر المخصوص بجامع أن كلا صحيح مقرون بشرائطه؛ إذ الاشتراك في العلة يعطي الاشتراك في الحكم. قوله: (وفي تحقيق هذا المنع زيادة تفصيل…إلخ) وفي تحقيق منع اللزوم في الشق الثاني زيادة تفصيل…إلخ. وحاصله أن يقال: لو لم يفد النظر العلم للزم أحد أمرين، إما أن لا يكون شيء من النظر الصحيح بمفيد، وإما أن يكون البعض مفيدا دون البعض الآخر، وكل منهما باطل. أما الأول: فلأن إفاده هذا النظر المخصوص معلوم بالضرورة، وأما الثاني: فلما فيه من التحكم.
وما ثبتَ منه بالبديهةِ فهو ضروريٌّ كالعلمِ بأنَّ كلَّ الشىءِ أعظمُ من جزئِهِ، وما ثبتَ منهُ بالاستدلالِ.
قال الشارح: (وما ثبت منه) أي: من العلم الثابت بالعقل (بالبديهة) أي: بأول التوجه من غير احتياج إلى الفكر (فهو ضروري، كالعلم بأن كل شيء أعظم من جزئه). فإنه بعد تصور معنى الكل والجزء والأعظم لا يتوقف على شيء، ومن توقف فيه حيث زعم أن جزء الإنسان كاليد مثلاً قد يكون أعظم من الكل فهو لم يتصور معنى الكل والجزء. (وما ثبت بالاستدلال) أي: بالنظر في الدليل سواء كان استدلالاً من العلة على المعلول، كما إذا رأي ناراً فعلم أن لها دخاناً أو من المعلول على العلة، كما إذا رأى دخاناً فعلم أن هناك ناراً، وقد يخص الأول باسم التعليل والثاني بالاستدلال.
قال الخيالي:
قوله: (من غير احتياج إلى الفكر) الأولى أن يقال من غير احتياج إلى السبب؛ لأن ما يحصل بأول التوجه لا يحتاج إلى مطلق السبب وجعله تفسيرا لأول التوجه لا يلائم تقرير الشارح كما ستعرفه.
قوله: (فهو ضروري كالعلم…إلخ) الظاهر من عبارة المصنف وتقرير الشارح أن الضروري في مقابلة الاكتساب بمعنى الحاصل بمباشرة الأسباب بالاختيار، ويرد عليه أن المثال المذكور يتوقف على الالتفات المقدور وتصور الطرفين المقدور، وأنه يلزم أن يكون حال بعض العلم الثابت بالعقل كالتجريبات والحدسيات مهملا، فالأولى ما في بعض الشروح من أن هذه البداهة عدم توسط النظر لا أول التوجه، والضروري يقابل الكسبي والاستدلالى، وهما مترادفإن.
قال السيالكوتي:
قوله: (والأولى…إلخ) يعني: أن قوله بأول التوجه يدل على أن المراد: مالا يحتاج إلى سبب أصلًا، وقوله: من غير احتياج إلى الفكر يدل على أن المراد ما لا يحتاج إلى النظر فأول تفسير البداهة مناف لآخر، فالأولى أن يقال ما لا يحتاج إلى سبب أصلًا إذ العلم الحاصل بأول التوجه لا يحتاج إلى سبب أصلًا من الأسباب سوى التوجه وإنما قال: والأولى لأنه يمكن أن يقال أن المراد بالفكر المعنى اللغوي فالمعنى من غير احتياج إلى ملاحظة أمر آخر من فكر أو إحساس أو حدس أو تجربة.
قوله: (وجعله تفسير الأول…إلخ) يعني: جعل قوله من غير احتياج إلى الفكر تفسيرًا وبيانًا لأول التوجه فليس المراد بأول التوجه أن لا يحتاج إلى شيء أصلًا كما يفهم منه ظاهرًا بل أن لا يحتاج إلى الفكر والترتيب لا يلائمه تقرير الشارح لأنه يدل على أن المراد بالضروري ما لا يكون لمباشرة الأسباب مدخل في حصوله حيث فسر الاكتسابي المقابل له بما يكون لمباشرة الأسباب مدخل في حصوله ولايصح أن يقال: إن ما حصل من غير فكر ونظر فهو حاصل بدون مباشرة الأسباب لجواز أن يكون حصوله بالحدس والتجربة الحاصلين باستعمال الحس قال بعض الأفاضل: فيه بحث لأن ما حصل بالحدس والتجربة خارج عن المقسم فإن كل ذلك مما يتعلق بما سوى العقل من الحس والتكرار أقول: هذا مخالف لما مر في وجه حصر الأسباب في الثلاثة من أن الحدسيات والتجربيات والبديهيات والنظريات مرجع الكل إلى العقل فإنه المفضي إلى العلم إما بمجرد الالتفات أو بانضمام حدس أو تجربة أو ترتيب مقدمات فإنه صريح في أن ما ثبت الحدس والتجربة داخل فيما ثبت بالعقل وإنما قال لا يلائم تقرير الشارح لأنه يلائم ما قرره البعض من أن ما حصل بعد استعمال الحس فهو حاصل بدون مباشرة الأسباب بمعنى: أن مباشرة الأسباب ليست مستقلًا في حصوله كما لا يخفى.
قوله: (الظاهر من عبارة المصنف…إلخ) يعني: أن الظاهر من مجموع عبارة المصنف وتقرير الشارح حيث ذكر المصنف الضروري في مقابلة الاكتسابي وفسره الشارح بالحاصل بمباشرة الأسباب بالاختيار أن الضروري ههنا في مقابلة الاكتسابي المفسر بما ذكر معناه ما لا يكون حصوله بمباشرة الأسباب وهو الموعود بقوله وستعرفه.
قوله: (ويرد…إلخ) أي: يرد على ما هو الظاهر أن المثال الذي ذكره للضروري ليس موافقًا له بالمعنى المذكور؛ لأن حصوله موقوف على الالتفات المقدور وتصور الطرفين المقدور لكونه كسبيًا فلا يصدق عليه أنه حاصل بدون مباشرة الأسباب بالاختيار قيل: إن المراد مالا يكون تحصيله مقدورًا بعد الالتفات وتصور الطرفين كما يشير إليه تمثيله لمباشرة الأسباب بصرف العقل والنظر في الاستدلاليات وتقليب الحدقة والاصغاء في الحسيات ولا يخفى أنه تكلف مع أنه يلزم أن يكون الضروري والكسبي قسمين للتصديق دون التصور والاصطلاح على خلافه.
قوله: (وإنه يلزم…إلخ) عطف على قوله: إن المثال المذكور أي: يرد على ما هو الظاهر أنه يلزم على تقدير أن يكون الضروري ما يكون حاصلًا بدون مباشرة الأسباب أن يكون حال بعض العلوم من التجربيات والحدسيات متروك البيان مع أنه من العلم الثابت بالعقل على ما صرح به الشارح في وجه حصر الأسباب ضرورة أنه ليس بضروري لعدم حصوله بأول التوجه لتوقفه على الحدس والتجربة ولا كسبي لعدم حصوله بالاستدلال والكسبي من العلم الثابت بالعقل ما يثبت بالاستدلال وبما ذكرنا ظهر ضعف ما قاله الفاضل الجلبي: من أنا لا نسلم أن الحدسيات والتجربيات متروك البيان لدخولهما في الكسبي فإن المراد بالكسبي ما يكون لمباشرة الأسباب مدخل فيه ولا شك أن استعمال الحس وتكرار المشاهدة له مدخل فيها على ما بين في محله لأن الكسبي من العلم الثابت بالعقل ما يكون بالاستدلال كما يدل عليه قول المصنف وما ثبت منه بالاستدلال فهو اكتسابي وإن كان الكسبي المطلق ما يكون حاصلًا بمباشرة سبب من الأسباب. فتأمل. أقول: ويمكن أن يقال: إن التجربيات والحدسيات داخلة في الضروري لأن حصولها وان كان بواسطة الحدس والتجربة لكن توسطهما غير ملحوظ عند المشايخ لعدم تعلق غرضهم بتفاصيلهما على ما مر في وجه حصر الأسباب ولذا جعلوهما مما ثبت بالعقل وإن كان لاستعانة الحدس والتجربة مدخل فيها.
قوله: (فالأولى…إلخ) يعني: أن الأولى أن المراد بالبداهة عدم توسط النظر فالمعنى ما ثبت منه بدون توسط النظر فهو ضروري فيشمل الوجدانيات والحدسيات والتجربيات وقضايا قياساتها معها ويكون الاستدلالي والاكتسابي مترادفين وإنما قال فالأولى…إلخ إشارة إلى أن ما ذكره الشارح أيضًا صحيح ولعل الوجه ما بيناه.
قال الباجوري:
قوله: (وما ثبت منه…إلخ) هذا شروع في تقسيم العلم الثابت بالعقل إلى ضروري واكتسابي، وأما العلم الثابت بالحواس السليمة فضروري فقط، والعلم الثابت بالخبر الصادق: فمنه ضروري وهو الثابت بالخبر المتواتر، ومنه استدلالي وهو إثبات بخبر الرسول.
قوله: (أي من العلم الثابت بالعقل) جعل الشارح الضمير في “منه” راجعا للعلم الثابت بالعقل، وعليه فمن للتبعيض، ويصح أن يكون راجعا للعقل كما قيل: إنه أصفى، وعليه فمن للابتداء.
قوله: (بالبداهة) أي حال كونه ملتبسا بالبداهة من بدهه الأمر إذا صادفه بغتة.
قوله: (أي بأول التوجه) أي بأول توجه النفس للمعلوم.
وقوله: (من غير احتياج إلى تفكر) أي من غير احتياج إلى نظر، والأولى أن يقول: “من غير احتياج إلى السبب أصلا”، فإن قوله “بأول التوجه” يدل على أن المراد ما لا يحتاج إلى مطلق السبب، وقوله: “من غير احتياج إلى تفكر” يقتضي أن المراد ما لا يحتاج إلى نظر، وإن احتاج إلى سبب آخر كالحدس والتجربة، فيكون آخر تفسير البداهة منافيا لأوله. لا يقال نجعل قوله “من غير احتياج إلى تفكر” تفسيرا لأول التوجه فيكون بيانا للمراد بأول التوجه، فليس على ظاهره من عدم الاحتياج إلى مطلق السبب؛ لكون المراد به عدم الاحتياج إلى التفكر، وإن احتاج إلى سبب آخر، وحينئذ فلا يكون في التفسير منافاة؛ لأنا نقول جعله تفسيرا لأول التوجه كما ذكر، لا يلائم تقرير الشارح كما ستعرفه، فإنه قرر في الاكتسابي ما يقتضي أن المراد ما لا يحتاج إلى مطلق السبب حيث فسر الاكتسابي بالحاصل بالكسب الذي هو مباشرة الأسباب الاختيارية وإنما عبرنا بالأولوية فيما تقدم؛ لأنه يمكن أن يجاب بأن المراد التفكر بالمعنى اللغوي وهو الملاحظة لا بالمعنى الاصطلاحي وهو النظر. على أنه قد يقال أن البداهة لها معنيان، أحدهما: لغوي وهو أول التوجه، والآخر: عرفي وهو عدم الاحتياج إلى التفكر ففسرها الشارح أولا بأول التوجه؛ نظرا للمعنى اللغوي، وفسرها ثانيا بعدم الاحتياج إلى التفكر؛ نظرا للمعنى العرفي.
قوله: (فهو ضروري كالعلم…إلخ) الظاهر من عبارة المصنف حيث ذكر الضروري في مقابلة الاكتسابي، ومن تقرير الشارح حيث فسر الاكتسابي بالحاصل بالكسب الذي هو مباشرة الأسباب بالاختيار، أن الضروري في مقابلة الاكتسابي بالمعنى المذكور، فيكون بمعنى الحاصل من غير الكسب الذي هو مباشرة الأسباب بالاختيار. ويرد عليه أمران، أحدهما: أن المثال الذي ذكره للضروري ليس موافقا له بالمعنى المذكور؛ لأنه يتوقف على الالتفات المقدور وتصور الطرفين المقدور، فلا يصدق عليه أنه حاصل من غير الكسب الذي هو مباشرة الأسباب بالاختيار. وأجيب عن هذا بأن المراد بكون الضروري حاصلا من غير الكسب، أن لا يكون تحصيله مقدورا بعد الالتفات. وتصور الطرفين كما يشير إليه تمثيل الشارح لمباشرة الأسباب بالاختيار، بصرف العقل والنظر في الاستدلاليات، والإصغاء وتقليب الحدقة ونحو ذلك في الحسيات، ولا يخفى أنه تكلف. والأمر الثاني: أن يلزم على تقدير أن الضروري بهذا المعنى، أن يكون حال بعض العلوم الثابت بالعقل كالتجريبيات والحدسيات مهملا متروك البيان لعدم دخوله في الضروري؛ لأنه لم يحصل بأول التوجه لتوقفه على الحدس والتجربة، وعدم دخوله في الاكتسابي؛ لأنه لم يحصل بالاستدلال حتى يكون اكتسابيا. قال: الفاضل الجلبي: لا نسلم أن يكون حال بعض العلوم الثابت بالعقل كالتجريبيات والحدسيات مهملا متروك البيان؛ لدخوله في الاكتسابي فإن المراد بالاكتسابي ما يكون لمباشرة الأسباب مدخل فيه، ولاشك أن لاستعمال الحس وتكرر المشاهدة مدخلا في ذلك البعض. ورده عبد الحكيم بأن المراد بالاكتسابي هنا خصوص الاستدلالي كما يدل عليه قول المصنف: وما ثبت منه بالاستدلال فهو اكتسابي، وإن كان الاكتسابي المطلق ما كان حاصلا بالكسب الذي هو مباشرة الأسباب بالاختيار. نعم يمكن أن يقال إن ذلك داخل بالضروري؛ لأن حصوله وإن كان بواسطة الحدس والتجربة، لكن توسطها غير ملحوظ عند المشايخ؛ لعدم تعلق غرضهم بتفاصيلهما على ما مر في وجه حصر الأسباب، حيث ورد على ما ذكره الشارح الأمران المذكوران. فالأولى: ما في بعض الشروح كشرح مولانا زاده للعقائد من تفسير البداهة بعدم توسط النظر لا بأول التوجه، وعليه فمعنى قول المصنف “وما ثبت بالبداهة فهو ضروري” وما ثبت منه بدون توسط النظر فهو ضروري، فيشمل الضروري حينئذ الحدسيات والتجريبيات ونحوهما، والضروري بهذا المعنى يقابل الكسبي والاستدلالي، وهما مترافان على معنى واحد، وهو ما يكون حاصلا بتوسط النظر.
قوله: (بأن كل شيء أعظم من جزئه) المراد بالكل هنا: الكل المجموعي لا الكل الجمعي، والشيء: عبارة عن نفس الكل.
وقوله: (من جزئه) أي: من بعضه وإنما قيده بالإضافة إلى الضمير؛ لأن كل الشيء قد يكون أقل من جزء شيء آخر.
قوله: (فإنه بعد تصور…إلخ) تعليل للتمثيل بقوله: كالعلم بأن كل شيء أقل من جزئه.
قوله: (معنى الكل) أي: الذي هو مجموع الأجزاء.
وقوله: (والجزء) أي: معنى الجزء الذي هو البعض المركب منه ومن غيره الكل.
وقوله: (والأعظم) أي: ومعنى الأعظم الذي هو أكبر مقدارا، فلابد من تصور معنى هذه الثلاثة، ولابد أيضا من تصور معنى الشيء ومعنى من، وإن لم ينبه الشارح عليهما.
قوله: (لا يتوقف على شيء) أي: لا يتوقف في حصوله على شيء من الأسباب، ولا يخفى أن هذه الجملة خبر “إن” في قوله “فإنه…إلخ”. قوله: (ومن توقف فيه) أي: ومن لم يحكم بأن الكل أعظم من الجزء وتوقف في العلم بما ذكر.
وقوله: (حيث زعم…إلخ) أي: لأنه زعم…إلخ، فالحيثية حيثية تعليل للتوقف،
وقوله: (قد يكون أعظم كله) أي: بأن يزيد ذلك الجزء بواسطة ورم على باقي البدن.
وقوله: (فهو لم يتصور معنى الجزء والكل) أي: لأنه توهم أن الجزء ما كان شأنه أن يكون دقيقا، وأن الكل ما كان شأنه أن يكون عظيما، مع أن معنى الجزء البعض الذي تركب منه ومن غير الكل، ومعنى الكل مجموع الأجزاء وإن عظم أحدها جدا، وحينئذ فلا يتصور أن يكون جزء الإنسان، كيده مثلا، أعظم من كله؛ لأنه إذا زاد ذلك الجزء بواسطة الورم على باقي البدن لم يكن أعظم من نفسه فضلا عن أن ينضم إليه باقي البدن.
قوله: (وما ثبت بالاستدلال) إنما لم يقل وما ثبت منه بالاستدلال، على قياس ما قبله؛ للعلم به مما سبق، ففيه الحذف من الثاني لدلالة الأول.
وقوله: (أي بالنظر في الدليل) أي: في أحواله إن كان مفردا وفي نفسه إن كان غير مفرد كالمقدمات غير المرتبة كما تقدم، والمراد بالنظر هنا: الفكر المؤدي إلى علم فقط، وما قيل أو ظن فهو غلط؛ لأن الكلام في العلم.
قوله: (سواء كان..إلخ) أي: سواء كان ذلك الاستدلال…إلخ. وهذا هو المشهور الذي عليه جمهور المتكلمين وسيذكر مقابله بقوله “وقد يخص…إلخ”.
قوله: (استدلالا من العلة على المعلول) أي: كأن يقال في المثال الآتي: هذه نار وكل نار لها دخان، أو يقال فيه: كلما كانت النار موجودة، فالدخان موجود وهذا البرهان يسمى برهانا لِمَّيًا؛ لأن البرهان اللمي ما استدل فيه بالعلة على المعلول، وإنما سمي برهانا لميا؛ لأنه استدل فيه باللمية أي العلة المنسوبة لـ “لم”؛ لأنها يجاب بها عن السؤال بها.
قوله: (كما إذا رأى نارا فعلم أن لها دخانا) أي: فقد استدل بالعلة التي هي النار على المعلول الذي هو الدخان.
قوله: (أو من المعلول على العلة) أي: كأن يقال في المثال الآتي: هذا دخان وكل دخان عن نار فهذا عن نار أو يقال فيه: كلما كان الدخان موجودا كانت النار موجودة، لكن الدخان موجود فالنار موجودة. وهذا البرهان يسمى برهانا إنيًّا؛ لأن البرهان الإنّي ما استدل فيه بالمعلول على العلة، وإنما سمي برهانا إنّيا؛ لأنه يفيد إنية الشيء، أي: ثبوته المنسوبة لـ “إن”، كأنه قيل إنه كذا.
قوله: (كما إذا رأى دخانا فعلم أن هناك نارا) أي: فقد استدل بالمعلول الذي هو الدخان على العلة التي هي النار.
قوله: (وقد يخص…إلخ) أي: على قلة كما أشار إليه بالتعبير بقد.
وقوله: (الأول) أي: الذي هو تحصيل العلم بالمعلوم من العلة.
وقوله: (باسم التعليل) أي: باسم هو التعليل فالإضافة للبيان.
وقوله: (والثاني) أي: الذي هو تحصيل العلم بالعلة من المعلول.
وقوله: (باسم الاستدلال) أي باسم هو الاستدلال على نظير ما قبله، وإنما خص الأول باسم التعليل؛ لأن فيه إبداء علة الشيء، والثاني باسم الاستدلال لأن الأثر دليل على المؤثر.
فهو اكتسابيٌّ
قال الشارح: (فهو اكتسابي) أي: حاصل بالكسب، وهو مباشرة الأسباب بالاختيار، كصرف العقل، والنظر في المقدمات في الاستدلاليات، والإصغاء، وتقليب الحدقة، ونحو ذلك في الحسيات، فالاكتسابي أعم من الاستدلالي، لأنه الذي يحصل بالنظر في الدليل، فكل استدلالي اكتسابي ولا عكس، كالإبصار الحاصل بالقصد والاختيار.
قال الباجوري:
قوله: (فهو اكتسابي) قد علمت أن مراد المصنف بالاكتسابي خصوص الاستدلالي بقرينة الحمل، أي الإخبار بهذه الجملة عن قوله “وما ثبت بالاستدلال” فتفسير الشارح للاكتسابي بما هو أعم تفسير له في حد ذاته بقطع النظر عن هذا الحمل، وكان الأولى للشارح تفسيره بحسب ما أراده المصنف.
قوله: (أي حاصل بالكسب) كان المناسب للتعبير بالاكتسابي دون الكسبي أن يقول: أي حاصل بالاكتساب والخطب سهل.
قوله: (وهو مباشرة الأسباب المؤدية إلى العلم) بشرط أن تكون تلك المباشرة بالاختيار، بخلاف ما إذا لم تكن بالاختيار، كما في إدراك شيء بحاسة السمع مثلا من غير قصد واختيار فلا تسمى مباشرة ذلك كسبا؛ لأن ذلك أمر اتفاقي.
قوله: (كصرف العقل) تمثيل لمباشرة الأسباب بالاختيار، وهذا مشترك بين الاستدلاليات والحسيات بخلاف قوله “والنظر في المقدمات” وقوله “والإصغاء وتقليب الحدقة”ونحو ذلك، فإن ذلك خاص بالاستدلاليات، والثاني خاص بالحسيات، وبذلك علم أن عطف النظر على صرف العقل ليس عطف تفسير كما توهم، والمراد بصرف العقل توجيهه إلى ما قصد العلم به فارغا عن الغير.
قوله: (والنظر في المقدمات) أي: من حيث ترتيبها على الوجه المخصوص؛ لإفادة المطلوب المخصوص.
وقوله: (في الاستدلاليات) أي: بالنسبة للعلوم الاستدلالية.
وقوله: (والإصغاء) أي: الإصغاء بالأذن لما يسمع.
وقوله: (تقليب الحدقة) أي: وتقليب سواد العين لما يبصر.
وقوله: (ونحو ذلك) أي: ونحو المذكور كتقريب الأنف لما يشم ووضع شيء على السطح الأعلى من اللسان فيما يذاق.
وقوله: (في الحسيات) أي: بالنسبة للعلوم الحسية.
قوله: (فالاكتسابي…إلخ) تفريع على تفسيره بالمعنى الشامل لما ذكر
وقوله: (أعم من الاستدلالي) أي: عموما مطلقا.
قوله: (لأنه الذي يحصل بالنظر في الدليل) أي: لأن الاستدلالي هو الذي يحصل بالنظر في الدليل، والاكتسابي هو الذي يحصل بالكسب الذي هو أعم من النظر في الدليل.
قوله: (فكل استدلالي اكتسابي) أي: فكل علم استدلالي علم اكتسابي؛ لحصوله بالنظر في الدليل الذي هو من أفراد الكسب.
وقوله: (ولا عكس) أي: بالمعنى اللغوي فليس كل اكتسابي استدلاليا؛ لجواز أن يكون بغير النظر من أفراد الكسب كتقليب الحدقة أو نحو ذلك لا بالمعنى المنطقي؛ لأن العكس المنطقي هنا صحيح إذ يصح أن يقال بعض الاكتسابي استدلالي.
قوله: (كالإبصار الحاصل…إلخ) أي: كالعلم بسبب الإبصار الحاصل…إلخ وهو راجع لقوله “ولا عكس” قصد به توضيح نفي العكس بانفراد الاكتسابي عن الاستدلالي في صورة
قوله: (بالقصد والاختيار) خرج بذلك الإبصار الحاصل اتفاقا من غير قصد واختيار، وعطف الاختيار على القصد عطف تفسير.
قال الشارح: وأما الضروري: فقد يقال في مقابلة الاكتسابي ويفسر بما لا يكون تحصيله مقدوراً للمخلوق، وقد يقال في مقابلة الاكتسابي ويفسر ما يحصل بدون فكر ونظر في دليل، فمن هاهنا جعل بعضهم العلم الحاصل بالحواس اكتسابياً؛ أي: حاصلاً بمباشرة الأسباب بالاختيار، وبعضهم ضرورياً؛ أي: حاصلاً بدون الاستدلال، فظهر أنه لا تناقض في كلام صاحب البداية حيث قال: ” إن العلم الحادث نوعان: ضروري وهو ما يحدثه الله في نفس العبد من غير كسبه واختياره، كالعلم بوجوده وتغير أحواله، واكتسابي وهو ما يحدثه الله فيه بواسطة كسب العبد وهو مباشرة أسبابه، وأسبابه ثلاثة: الحواس السليمة والخبر الصادق ونظر العقل”. ثم قال: “والحاصل من نظر العقل نوعان: ضروري يحصل بأول النظر من غير تفكر، كالعلم بأن الكل أعظم من الجزء، واستدلالي يحتاج فيه إلى نوع تفكر كالعلم بوجود النار عند رؤية الدخان “.
قال الخيالي:
قوله: (و يفسر بما لا يكون تحصيله…إلخ) كلمة “ما” عبارة عن العلم الحاصل بقرينة أنه قسم من أقسام العلم الحادث، فلا يلزم كون العلم بحقيقة الواجب ضروريا، لكن يرد أن بعضهم أدرج الحسيات في هذا التفسير؛ لتوقفها على أمور غير مقدورة لا تعلم ما هي ومتى حصلت وكيف حصلت فكيف يدرجها الشارح على الكسبي في القسيم له؟ وجوابه أن الشارح حمل التعريف على نفي دخل القدرة وذلك البعض حمله على نفي استقلال القدرة، ولكل وجهة هو موليها.
قوله: (وقد يقال في مقابلة الاستدلالي ويفسر…إلخ) يشير إلى أن الكلام في العلم التصديقي وأنهما قسمان منه.
قوله: (فظهر أنه لا يتناقض) وجه التناقض أنه جعل الضروري في مقابلة الاكتسابي وجعل العلم الحاصل بنظر العقل من الكسبي، ثم قسمه إلى الضروري والاستدلالي فكان قسيم الشيء قسما منه، وحاصل الدفع أن القسيم ما يقابل الاكتسابي والقسم ما يقابل الاستدلالي، هذا وليت شعري كيف تتخيل التناقض ابتداء وقد مر أن العلم لا يكون إلا بالأسباب، وصاحب البداية جعل الكسبي ما يكون بمباشرة الأسباب، ثم قسم مطلق الأسباب إلى ثلاثة، ثم قسم ما هو بسبب خاص؛ أعني: نظر العقل إلى الضروري والاستدلالي فليس المقسم الأسباب المباشرة حتى يكون الحاصل بنظر العقل حاصلا بسبب المباشرة فيتناقض، ولو سلم فيجوز أن يكون بين المقسم والأقسام عموم من وجه، فيكون نظر العقل أعم من وجه من السبب المباشر، والمقسم هو الحاصل بالأعم فلا تناقض أصلا، نعم يرد على تقسيم الثاني من الحصر بالحدسيات والتجريبات فيحتاج إلى جعل قوله: “من غير فكر” تفسيرا لقوله: “بأول نظر” فيكون الضروري بمعنى الحاصل بدون فكر.
قال السيالكوتي:
قوله: (كلمة ما عبارة…إلخ) يعني: أن المراد العلم الحاصل بقرينة أن العلم الضروري من أقسام العلم الحادث والحدوث يستلزم الحصول لا ما يعم الحاصل وما من شأنه الحصول وإن لم يحصل فلا يرد النقض بالعلم بحقيقة الواجب فإنه وإن كان يصدق عليه أنه علم من شأنه الحصول وليس تحصيله مقدورًا للبشر على ما هو مذهب أهل الحق من أن العلم بحقيقة الواجب ممكن غير حاصل بمباشرة الأسباب، بمعنى: أنه لم تجر عادته تعالى بخلقه بعد استعمال أسباب العلم لا أن حقيقته ليس بحاصل بالفعل فمن قال: أن النقض بالعلم بحقيقة الواجب إنما يرد على مذهب من قال إنه يمتنع العلم بحقيقة الواجب لم يأت بشيء؛ لأن القائل: بامتناع العلم بحقيقة الواجب الحكماء ونبذ من المتأخرين والمعرفون بهذا التعريف جمهور المتكلمين قال بعض الفضلاء : الحصول معتبر في ماهية العلم ولا حاجة إلى التقييد بالحاصل وإطلاق العلم على ما ليس بحاصل لا يجوز سيما على ما ليس من شأنه أن يحصل. انتهى. أقول: اعتبار الحصول في ماهية العلم إنما يظهر على ما عرفه الحكماء من أنه الصورة الحاصلة وأما على ما عرفه المتكلمون من أنه صفة توجب تمييزًا أو ينكشف به…إلخ فغير ظاهر لجواز أن يكون تلك الصفة حاصلة أو غير حاصلة وعلى تقدير التسليم فإطلاق العلم على ما من شأنه الحصول مسامحة شائعة فيما بينهم فيجوز أن يكون التقييد لدفع ذلك الإيهام، وأما أن حقيقة الواجب ليس من شأنه الحصول فهو مذهب الحكماء وبعض المتكلمين، والجمهور على خلافه كما صرح به في “شرح المواقف”. قوله: (لكن يرد…إلخ) يعني: أن شارح المواقف عرف الضروري بما عرفه الشارح وأدرج الحسيات فيه وبين وجه الاندراج بأن الحسيات ليست حاصلة بمجرد الإحساس المقدور لنا وإلا لحصل الجزم في جميع المواد مع تخلفه في وجدان الصفراو ي السكر مرًّا و رؤية الأحوال الواحد اثنين ونحو ذلك بل لا بد في حصولها مع الإحساس من أمور أخر يضطر العقل إلى الجزم بسبب تحقق تلك الأمور في بعض المواضع دون بعض وتلك الأمور غير مقدورة لنا إذ لا نعلم تفاصيلها ولا زمان حصولها أحصلت قبل الإحساس أو مع الإحساس؟ ولاكيفية حصولها؟فلو كانت مقدورة لنا لكانت معلومة لنا بخلاف النظريات فإنها حاصلة بمجرد النظر المقدور لنا وليس لأمر آخر مدخل فيها والقول بأنه يجوز ههنا أن تكون أمور يتوقف عليها حصول الجزم ولانعلمها مفصلة مخالف لصريح العقل وإلا لجاز أن يكون البديهيات الأولية أيضًا موقوفة على أمور لا نعلمها وفيما قررنا لك إشارة إلى دفع شبهة أوردت في هذا المقام تركناها صونًا عن إطالة المرام.
قوله: (وجوابه أن الشارح حمل التعريف…إلخ) حاصله: أن من أدرج الحسيات في الضروري عرفه بما لا يكون القدرة مستقلة في حصوله والكسبي عرفه بما يكون القدرة مستقلة فيه فيدخل الحسيات في الضروري لتوقفها على أمور غير مقدورة كما مر ومن أدرج الحسيات في الكسبي عرفه بما يكون للقدرة دخل في حصوله والضروري بما لا يكون كذلك فتدخل الحسيات في الكسبي لحصولها بالإحساس المقدور فإن قيل: كون القدرة مستقلة في الحصول خلاف المذهب وأن النظريات قد تتوقف على مبادئ ضرورية فلا تكون القدرة مستقلة في حصولها لتوقفها على المبادئ الغير المقدورة قيل: المراد بالاستقلال الاستقلال عادة بمعنى: أن الكسبي يتوقف على مجرد قدرتنا عادة والضروري ليس كذلك وعن التأني أن اللازم مما ذكر أن تكون الأمور التي يتوقف عليها العلم الكسبي غير مقدورة لا أن يكون نفس العلم به غير مقدور .
قوله: (وجه التناقض…إلخ) حاصله: أن جعل الضروري أولًا مقابلًا للكسبي ثم جعل قسمًا من قسيمه أعني: الحاصل بنظر العقل فيلزم كون قسيم الشيء قسمًا من قسيمه وهو يستلزم التناقض إذ يستفاد من الأول أن الضروري ليس باكتسابي ومن الثاني أنه اكتسابي وحاصل الدفع: منع لزوم ما ذكر للتغاير بين القسيم والمقسم.
قوله: (وليت شعري…إلخ) يعني: أن دفع التناقض فرع تخيله وههنا لا يتخيل التناقض وإن جعل الضروري لمعنى واحد وهو ما يقابل الاكتسابي لأنه إنما يلزم لو كان المفهوم من عبارة البداية أن الحاصل بنظر العقل المنقسم إلى الضروري والاستدلالي قسم من المقابل له وليس كذلك لأنه قد مر أنه لا يتصور حصول العلم سواء كان ضروريًا أو نظريًا بدون سبب من الأسباب وصاحب البداية قسم العلم الحاصل بسبب من الأسباب إلى ما يحدثه الله تعالى في العبد بلا توسط اختياره وصرف أسبابه وإلى ما يحدثه بتوسط الاختيار وصرف الأسباب ثم قسم مطلق الأسباب الشاملة للأسباب المباشرة وغيرها المتحققة في الضروري والاستدلالي على ما هو الظاهر من قوله: وأسبابه، أي: وأسباب العلم من غير تقييد بالمباشرة وغيرها إلى ثلاثة أقسام ثم قسم الحاصل بالسبب الخاص منها وهو نظر العقل، أي: توجهه وملاحظته إلى الضروري والاستدلالي ولا شك أنه لا يلزم من ذلك كون قسيم الشيء قسمًا منه إذ ليس نظر العقل من الأسباب المباشرة حتى يكون العلم الحاصل به علمًا حاصلًا بسبب المباشرة فيكون داخلًا في الكسبي ويكون الضروري قسمًا منه فيلزم التناقض بل هو شامل لنظر العقل وتوجهه الذي لا يكون على وجه المباشرة كما في الوجدانيات كالعلم بوجوده وتغير أحواله فإنها حاصلة بملاحظة العقل التي ليست بمقدورة للعبد أو يكون على وجه المباشرة كما في النظريات والبديهيات التي سوى الوجدانيات فإنها حاصلة بملاحظة العقل التي هي حاصلة بالقصد والاختيار فما حصل منه بدون المباشرة يكون ضروريًا وما حصل منه بالمباشرة يكون نظريًا بالمعنيين المذكورين أولًا هذا نهاية تحرير كلام المحشي.
قوله: (ولو سلم فيجوز…إلخ) أي: ولو سلم أن المقسم هو الأسباب المباشرة لكنه يجوز أن يكون بين المقسم والقيود التي حصلت الأقسام المختلفة بسببها عموم من وجه فيجوز أن يكون نظر العقل الذي لأجل تقييد السبب المباشر به حصل منه قسم أعم من وجه من السبب المباشر فإن نظر العقل متحقق في الوجدانيات وليس بسبب مباشر والسبب المباشر متحقق في الحسيات والخبر الصادق وليس بنظر العقل وكلاهما متحققان في النظريات والمقسم للضروري والاستدلالي في قوله ثم الحاصل بنظر العقل ضروري يحصل بأول التوجه…إلخ هو العلم الحاصل بالأعم أي: بنظر العقل الأعم الشامل للسبب المباشر وغيره فلا يكون الضروري داخلًا في الكسبي فلا يلزم التناقض أصلًا وبما حررنا لك اندفع ما قيل: لا يجوز أن يكون بين المقسم والأقسام عموم من وجه يعرف ذلك من ملاحظة مفهوم التقسيم والمراد بقولنا: الحيوان إما أبيض أو أسود الحيوان إما حيوان أبيض أو حيوان أسود لأنه وإن لم يجز أن يكون بين المقسم والأقسام عموم من وجه لكنه جائز بين المقسم وقيود الأقسام بل متحقق ألا ترى أن الأبيض الذي هو قيد محصل لقسم الحيوان أعم من وجه من الحيوان وهذا القدر كاف كما لا يخفى.
قوله: (نعم يرد على التقسيم الثاني…إلخ) يعني: نعم أن الضروري في التقسيم الثاني محمول على ما يحصل بدون فكر لكن لا لسبب أنه لو لم يحمل عليه يلزم التناقض بل لأجل أنه لو حمل على ما يحصل بأول التوجه من غير سبب مباشر لم يصح حصر ما حصل بنظر العقل في الضروري والاستدلالي لخروج الحدسيات والتجربيات ضرورة أنهما حاصلتان بنظر العقل وليستا بداخلتين في الضروري لعدم حصولهما بأول التوجه لتوقفهما على الحدس والتجربة ولا في الاستدلالي لعدم احتياجهما إلى نوع تفكر فيحتاج في دفعه إلى جعل قوله من غير احتياج إلى تفكر تفسيرًا لأول التوجه فيحصل للضروري معنى آخر وهو ما حصل بدون فكر فالباعث على حمل الضروري على معنى آخر ليس لزوم التناقض عل ما ظن بل عدم استقامة الحصر وإنما لم يحمل التفكر في قوله من غير احتياج إلى تفكر على المعنى اللغوي أي: من غير احتياج إلى سبب من الأسباب المباشرة فيكون الحدسيات والتجربيات داخلة في الاستدلالي ولم يحصل للضروري معنى ثان لأن تمثيله للضروري الحاصل بأول التوجه بقوله الكل أعظم من الجزء يأبى عن ذلك لاحتياجه إلى الالتفات المقدور وتصور الطرفين المقدور وبما حررنا لك ظهر أن ما قاله الفاضل المحشي وأنت خبير بأن هذا الكلام اعتراف منه بأن الحدسيات والتجربيات وسائر الضروريات المقدورة كانت داخلة في الضروري ولا شك أن الضروري باعتبار كونه مقدورًا حاصلًا بمباشرة الأسباب قسم من الاكتسابي وقد كان الضروري قسمًا للاكتسابي فيلزم أن يكون قسيم الشيء قسمًا منه فيحتاج إلى جواب الشارح بعيد عن المقصود بمراحل إذ ليس المقصود أن الضروري بالمعنى الأول شامل للحدسيات والتجربيات والضروريات المقدورة بل مقصوده أن ما ذكره الشارح من أن في حمل الضروريات على المعنى الثاني دفعًا للتناقض ليس بصحيح؛ لعدم التناقض في كلامه بل فيه دفع لبطلان الحصر وأين هذا من ذاك واعلم أن مقصود المحشي من قوله وليت شعري كيف يتخيل التناقض أن من لاحظ عبارة البداية كما ينبغي لا يتخيل التناقض الذي يفضي إلى اعتبار المعنيين للضروري نعم فيه إيهام التناقض لكنه يرتفع بأدنى تأمل.
قال الباجوري:
قوله: (وأما الضروري…إلخ) مقابل لمحذوف، والتقدير: أما الاكتسابي والاستدلالي فقد عرفتهما، وأما الضروري…إلخ، وإنما أعاد الكلام عليه، مع أنه تكلم عليه سابقا؛ لينبه على أنه يطلق بإطلاقين، ويدفع بذلك التنافي بين الكلامين الواقعين في العلم الحاصل بالحواس، ويدفع به أيضا التناقض في كلام صاحب البداية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (فقد يقال في مقابلة الاكتسابي) أي: فقد يطلق في مقابلة الاكتسابي الذي هو أعم من الاستدلالي كما تقدم.
قوله: (ويفسر بما لا يكون تحصيله…إلخ) أي: ويفسر الضروري الواقع في مقابلة الاكتسابي بما لا يكون تحصيله…إلخ، واعترض بأن هذا التعريف غير مانع؛ لأنه يشمل العلم بحقيقة الواجب تعالى فإنه لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق؛ إذ لم تجر عادته تعالى بخلقه بعد استعمال الأسباب مع كونه ممكنا عند أهل الحق خلافا للحكماء وجماعة من المتأخرين حيث قالوا بامتناعه، وحينئذ فيقتضي التصريف أن يكون العلم بحقيقة الواجب تعالى ضروريا مع أنه ليس كذلك. وأجيب بأن كلمة ما عبارة عن العلم الحاصل بالفعل بقرينة أن الضروري من أقسام العلم الحادث والحدوث يستلزم الحصول بالفعل، فخرج العلم بحقيقة الواجب تعالى فلا يلزم أن يكون ضروريا؛ لأنه غير حاصل بالفعل وإن أمكن حصوله عند أهل الحق، فمن قال إن النقص بالعلم بحقيقة الواجب إنما يرد على مذهب من قال إنه يمتنع لم يأت بشيء؛ لأن القائل بأنه يمتنع الحكماء ونبذ من المتأخرين والمعرفون بهذا التعريف جمهور المتكلمين، وقال بعض الفضلاء: الحصول معتبر في ماهية العلم فلا حاجة إلى التقييد بالحاصل، وإطلاق العلم على ما ليس بحاصل لا يجوز. ودفعه العلامة عبد الحكيم بأن اعتبار الحصول في ماهية العلم إنما يظهر في تعريف الحكماء للعلم بأنه الصورة الحاصلة، لا على تعريف المتكلمين له بأنه صفة توجب تمييزا أو ينكشف بها…إلخ؛ لجواز أن تكون تلك الصفة حاصلة وغير حاصلة، فإن قيل: إن بعضهم وهو شارح المواقف أدخل الحسيات في هذا التفسير لتوقفها على أمور غير مقدورة لنا لا نعلم ما هي، ومتى حصلت وكيف حصلت فليست حاصلة بمجرد الإحساس المقدور لنا، وإلا لحصل الجزم في جميع المواد مع تخلفه في الصفراوي حيث يجد السكر مرا، وفي الأحول حيث يرى الواحد اثنين ونحو ذلك، فكيف يدرجها الشارح في الاكتسابي القسيم للضروري؟ أجيب بأن الشارح حمل التعريف على نفي دخل القدرة، فمعنى التعريف: ما لا يكون للقدرة دخل في تحصيله، وحينئذ تكون الحسيات خارجة من الضروري داخلة في الاكتسابي. وذلك البعض حمل التعريف على نفي استدلال القدرة، فمعنى التعريف ما لا تستقل القدرة في تحصيله، وحينئذ تكون الحسيات داخلة في الضروري خارجة من الاكتسابي، ولكل وجهة هو موليها.
قوله: (وقد يقال في مقابلة الاستدلالي) أي: وقد يطلق في مقابلة الاستدلالي وهو المتبادر الأغلب استعمالا ومنه ما في المصنف؛ لأن المراد بالاكتسابي في كلامه الاستلالي كما مر، ويشير بقوله “وقد يقال في مقابلة الاستدلالي” إلى أن الكلام في العلم التصديقي وإلى أن الضروري والاستدلالي قسمان منه؛ لأن المتبادر من المقابلة أن يكون الضروري من جنس الاستدلالي وهو العلم التصديقي، وحينئذ فيحمل قول الشارح وبعضهم ضروريا أي: حاصلا بدون استدلال على العلم التصديقي: كالعلم بأن الثلج بارد وبأن النار حارة.
قوله: (ويفسر مما يحصل…إلخ) أي: ويفسر الضروري الواقع في مقابلة الاستدلالي بما يحصل…إلخ.
وقوله: (بدون فكر ونظر في الدليل) أي: وإن توقف على حس أو حدس أو تجربة، فالضروري بهذا المعنى يشمل الحسيات والحدسيات والتجريبيات، بخلاف الضروري بالمعنى الأول فإنه لا يشمل الحسيات والحدسيات والتجريبيات. وقد تقدم أن الضروري الواقع في مقابلة الاستدلالي خاص بالتصديق، فلا يشمل التصور بخلاف الضروري الواقع في مقابلة الاكتسابي، فإنه يشمل كلا من التصور والتصديق، فظهر من ذلك أن بينهما العموم والخصوص من وجه، فيجتمعان فيما يكون تحصيله مقدور للمخلوق من التصديقات، وينفرد الضروري الواقع في مقابلة الاكتسابي فيما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق من التصورات، وينفرد الضروري الواقع في مقابلة الاستدلالي فيما يكون تحصيله مقدورا للمخلوق بدون نظر وفكر في الدليل: كالحسيات والحدسيات والتجريبيات.
قوله: (فمن ههنا…إلخ) أي: فمن هذا الموضع حيث أطلق الضروري تارة في مقابلة الاكتسابي ويفسر بالمعنى الأول، وتارة في مقابلة الاستلالي ويفسر بالمعنى الثاني. وغرضه بذلك دفع التنافي بين الكلامين الواقعين في العلم الحاصل بالحواس، فإن بعضهم جعله اكتسابيا وبعضهم ضروريا. فالأول ناظر للأول والثاني للثاني.
قوله: (جعل بعضهم) أي: كصاحب البداية.
وقوله: (العلم الحاصل بالحواس) أي: بالقصد والاختيار كما تقدم.
وقوله: (اكتسابيا) أي: نظرا للأول كما أشار إليه بقوله أي: حاصلا بمباشرة الأسباب بالاختيار، أي: فتحصيله مقدور للمخلوق بمباشرة الأسباب بالاختيار، فيكون اكتسابيا لا ضروريا بالمعنى الأول.
قوله: (وبعضهم) أي: كصاحب التمهيد.
وقوله: (ضروريا) بالمعنى الثاني.
قوله: ( فظهر أنه لا تناقض…إلخ) لو قال “وظهر أنه لا تناقض…إلخ” عطفا على قوله “جعل بعضهم…إلخ” لاستغنى عن الإتيان بالفاء، ويكون التقدير حينئذ: ومن ههنا ظهر أنه لا تناقض…إلخ. ووجه تخيل التناقض ابتداء أنه جعل الضروري أولا في مقابلة الكسبي، وجعل الحاصل بنظر العقل من الكسبي، ثم قسمه إلى الضروري والاستدلالي، فكان قسيم الشيء قسما منه؛ لأن قسم القسم من شيء قسم من ذلك الشيء، فيكون الضروري قسما من الاكتسابي وقد كان أولا قسيما له، وذلك يستلزم التناقض؛ لأنه يستفاد من جعله قسيما للاكتسابي سالبة كلية قائلة: لا شيء من الاكتسابي بضروري، ويستفاد من جعله قسما منه موجبة جزئية تناقض السالبة الكلية، وحاصل الدفع منع لزوم ما ذكر للتغاير بين القسيم والمقسم؛ لأن القسيم ما يقابل الكسبي، والقسم ما يقابل الاستدلالي هذا. واعترض بأنه كيف يتخيل التناقض ابتداء وقد مر أن العلم سواء كان ضروريا أو كسبيا لا يكون إلا بالأسباب؟ فالضمير في قوله “وأسبابه” للعلم مطلقا لا للعلم الاكتسابي حتى يتخيل التناقض ابتداء، كما يقتضيه كلام الشارح، وعلى هذا فصاحب البداية جعل الكسبي ما بمباشرة الأسباب حيث قال: وهو ما يحدثه الله فيه بواسطة كسب العبد وهو مباشرة أسبابه، ثم قسم مطلق الأسباب، الشاملة للأسباب المباشرة وغيرها على ما هو الظاهر من قوله “وأسبابه” حيث لم يقيده بالمباشرة وغيرها، إلى ثلاثة أقسام حيث قال: “وأسبابه ثلاثة؛ الحواس السليمة والخبر الصادق ونظر العقل”، ثم قسم ما بسبب خاص؛ أعني: نظر العقل، إلى الضروري والاستدلالي. ولا شك أنه لا يلزم من ذلك كون قسيم الشيء قسما منه؛ لأنه ليس المقسم في قوله “وأسبابه…إلخ” خصوص الأسباب المباشرة حتى يكون الحاصل بنظر العقل حاصلا بسبب مباشر، فيكون قسما من الكسبي وقد كان قسيما له، فيلزم التناقض، بل المقسم في قوله “وأسبابه…إلخ” مطلق الأسباب الشاملة للأسباب المباشرة وغيرها، فالحاصل بنظر العقل شامل للحاصل بسبب مباشر وغيره، فليس قسما من الكسبي، ولو سلم أن المقسم خصوص الأسباب المباشرة، فيجوز أن يكون بين المقسم والأقسام عموم من وجه، كما في قولهم: الحيوان إما أبيض وإما أسود، فيجوز أن يكون بين الأسباب المباشرة ونظر العقل عموم من وجه، فيجتمعان في النظريات فتحقق فيها السبب المباشر ونظر العقل، وينفرد السبب المباشر في الحسيات والخبر الصادق، فتحقق فيهما السبب المباشر دون نظر العقل، وينفرد نظر العقل في الوجدانيات فتحقق فيها نظر العقل دون السبب المباشر، والمقَسَم إلى الضروري والاستدلالي في قوله “ثم الحاصل بنظر العقل ضروري…إلخ” هو الحاصل بالأعم الشامل للسبب المباشر وغيره فليس الضروري داخلا في الكسبي فلا تناقض أصلا. نعم يرد على التقسيم الثاني في كلام صاحب البداية منع حصر الحاصل بنظر العقل في الضروري والاستدلالي؛ لخروج الحدسيات والتجريبيات؛ لأنهما حاصلان بنظر العقل، وليسا بداخلين في الضروري؛ لعدم حصولهما بأول النظر، بل يتوقفان على الحدس والتجربة، وليسا بداخلين أيضا في الاستدلالي لعدم احتياجهما إلى نوع تفكر، فيحتاج في دفعه إلى جعل قوله “من غير تفكر” تفسير الأول النظر، فيكون الضروري بمعنى الحاصل بدون تفكر، فيشمل الحدسيات والتجريبات. وبالجملة: من لاحظ عبارة البداية كما ينبغي لا يتخيل التناقض. نعم فيها إيهام التناقض لكن يرتفع بأدنى تأمل.
قوله: (صاحب البداية) هو الإمام نور الدين أحمد بن محمود بن أبي بكر الصابوني البخاري الحنفي.
قوله: (حيث قال…إلخ) أي: في التركيب الذي قال فيه: فحيث ظرف مكان اعتباري وعليه فهي بدل من قوله “في كلام…إلخ” خرج بالحادث القديم فلا يتصف بالضروري ولا بالاكتسابي؛ لأن الضروري يوهم مقاربة الضرورة والاكتسابي يستلزم الحدوث.
قوله: (وهو ما يحدثه الله…إلخ) أي: وهو علم يحدثه الله…إلخ.
وقوله: (في نفس العالم) في نسخة “في نفس العبد”.
وقوله: (من غير كسبه واختياره) هو معنى كونه غير مقدور للمخلوق.
قوله: (كالعلم بوجوده) أي: بأنه موجود.
وقوله: (وبغير أحواله) أي: كألمه وانقباضه وانبساطه وغمه وفرحه وسائر عوارضه النفسانية المعلومة بالوجدان. لا يقال: العلم بالعوارض النفسانية لابد فيه من توجه النفس إليها، ولهذا قد يعرض الجوع المبرح للإنسان ولا يشعر به للاشتغال بمهم، وحينئذ لا يصح التمثيل بذلك العلم للضروري بهذا المعنى؛ أعني: ما يحدثه الله في نفس العالم من غير كسبه واختياره؛ لأنا نقول العوارض لا تغيب عن المدرك، فيدوم إدراكه لها فتكون معرفتها حاصلة بدون توجه النفس إليها. نعم قد يذهل عن الشعور بها لعارض كالاشتغال بمهم.
قوله: (وهو ما يحدثه الله…إلخ) أي: وهو علم يحدثه الله…إلخ،
وقوله: (فيه) أي: في نفس العالم، وإنما ذكر الضمير مع أن النفس مؤنثة؛ لاكتسابها التذكير من المضاف إليه.
وقوله: (بواسطة كسب العبد) هو معنى كونه مقدورا للمخلوق، وفيه إظهار في مقام الإضمار؛ إذ مقتضى الظاهر أن يقول بواسطة كسبه.
قوله: (وهو مباشرة أسبابه) أي: والكسب مباشرة أسباب العلم.
قوله: (وأسبابه ثلاثة) تقدم أن الظاهر من ذلك أن المراد: وأسباب العلم مطلقا، لا كما يقتضيه كلام الشارح من أن المراد: وأسباب العلم الاكتسابي.
قوله: (ثم قال) أي: صاحب البداية بعد ما سبق.
قوله: (والحاصل من نظر العقل نوعان) قد علمت ما في ذلك من منع الحصر والجواب عند قوله “ضروري” هذا هو النوع الأول، وقوله “واستدلالي” هو النوع الثاني.
والإلهامُ ليسَ من أسبابِ المعرفةِ بصحةِ الشىءِ عندَ أهلِ الحقِّ.
قال الشارح: (والإلهام) المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض (ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق). حتى يرد به الاعتراض على حصر الأسباب في الثلاثة المذكورة. وكان الأولى أن يقول: من أسباب العلم بالشيء، إلا أنه حال التنبيه على أن مرادنا بالعلم والمعرفة واحد لا كما اصطلح عليه البعض من تخصيص العلم بالمركبات أو الكليات، والمعرفة بالبسائط أو الجزئيات. إلا أن تخصيص الصحة بالذكر مما لا وجه له. ثم الظاهر أنه أراد أن الإلهام ليس سبباً يحل به العلم لعامة الخلق ويصلح للإلزام على الغير، وإلا فلا شك أنه قد يحصل به العلم.
قال الخيالي:
قوله: (حتى يرد به الاعتراض) فيحتاج إلى دفعه بأنه لما لم يتعلق بعدّه سببا مستقلا غرض صحيح أدرجوه في العقل مثل الحدس والتجربة والوجدان.
قوله: (إلا أن تخصيص الصحة بالذكر مما لا وجه له) قيل الصحة ههنا بمعنى الثبوت قال الشاعر: *صحّ عند الناس أني عاشق * أي: ثبت، وجوابه أنه خلاف الظاهر وفيه استدراك وإيهام بخلاف المقصود.
قال السيالكوتي:
قوله: (فيحتاج إلى دفعه…إلخ) يعني لو كان الإلهام من الأسباب المفيدة للعلم باالنسبة إلى عامة الخلق لبطل حصر الأسباب العامة في الثلاثة ويحتاج في دفعه إلى مايحتاج في دفع النقض بالحدس والتجربة والوجدان وهو أنه ليس لهم غرض متعلق بتفاصيلها وكان الحاكم في جميع ذلك العقل فلذا أدرجوه في العقل وإن كان باستعانة الحدس والتجربة والوجدان والإلهام لكنه ليس سببًا عامًا لعامة الخلق فلا يكون داخلًا في المقسم إذ المقسم الأسباب العامة لسائر الخلق فلا احتياج في دفعه إلى ما ذكره.
قوله: (إلا أن تخصيص الصحة…إلخ) لأن الإلهام ليس من أسباب المعرفة بفساد الشيء أيضًا والتخصيص يوهم كونها من أسبابها.
قوله: (وجوابه أنه خلاف الظاهر…إلخ) لأن المتبادر من إطلاق الصحة ضد الفساد والمرض.
قوله: (وفيه استدراك…إلخ) لأنه يكفي أن يقال من أسباب المعرفة بالشيء قبل المعرفة يشمل التصور والتصديق والكلام ههنا في التصديق فإدراج لفظ الصحة إشارة إلى هذا.
قوله: (وإيهام خلاف المقصود) لأن الصحة تقال على ما يقابل الفساد وعلى مايقابل المرض وعلى الثبوت وعلى مطابقة الشيء للواقع ففي إرادة الثبوت منها بلا قرينة إيهام خلاف المقصود قيل المراد بالشيء الحكم الذي هو الوقوع واللاوقوع ومعنى صحة مطابقته للواقع وقد فسرها في شرح المقاصد في بيان تحقيق معنى الصدق والكذب بهذا المعنى فظهر صحة الصحة وفائدة إدراجها الإشارة إلى أن المراد بالمعرفة التصديق. انتهى. ولايخفى أن ما ذكره المحشي بقوله وجوابه…إلخ يرد عليه فإن حمله على معنى المطابقة خلاف المتبادر وفيه استدراك لأنه إذا كان المعرفة بمعنى العلم تكون المطابقة معتبرة في مفهومه وإيهام خلاف المقصود.
قال الباجوري:
قوله: (والإلهام…إلخ) المراد بالإلهام كما قاله ابن قاسم الخطاب: الوارد على القلب، ويسميه أهل الله بالخاطر وهو أخص مطلقا من الوارد؛ لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، كأن يخاطب في ضميره بافعل كذا ولا تفعل كذا، والواردات قد تكون: وارد سرور، ووارد حزن، ووراد قبض، ووراد بسط إلى غير ذلك.
قوله: (المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض) احترز الشارح بذلك عن الإلهام المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الاستفاضة. والفرق بين طريق الفيض وطريق الاستفاضة أن الأول: فيض المعنى على القلب من غير مباشرة سبب، والثاني: إعلام الله بحكم جاء في كتاب أو سنة على لسان رسوله وهذا سبب للعلم بخلاف الأول.
قوله: (ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق) أي: وأما عند بعض المتصوفة والروافض فهو من الأسباب واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﭿ ﭬ ﭭ ﭮ ﭾ أي: معصيتها وطاعتها أي: إن معصيتها قبيحة وطاعتها حسنة. وأجيب بأن المراد بالإلهام في الآية: الإعلام بواسطة إرسال الرسل وإنزال الكتب لا المعنى المصطلح عليه كما أشار إليه الشارح بقوله “المفسر بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض”. قوله: (حتى يرد به الاعتراض…إلخ) تفريع على المنفي وهو كونه من الأسباب، فيتفرع على ذلك أن يرد بسببه الاعتراض على حصر الأسباب، فيحتاج إلى دفعه بأنه لما لم يتعلق بعده سببا مستقلا غرض صحيح، أدرجوه في العقل مثل ما تقدم في الحدس والتجربة والوجدان، لكن المراد بالأسباب فيما تقدم الأسباب التي يحصل بها العلم لعامة الخلق، والإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق، فلا يكون داخلا في المقسم، وحينئذ فلا يحتاج إلى دفعه بما ذكر لعدم ورود الاعتراض به على ذلك.
قوله: (على حصر الأسباب في الثلاثة) أي: على المصنف بسبب الحصر المذكور، فإيقاع الاعتراض عليه لكونه سببا وإلا فالاعتراض على المصنف.
قوله: (وكان الأولى أن يقول…إلخ) فيعبر بالعلم بدل المعرفة ويسقط لفظ الصحة، وإنما كان التعيبر بالعلم أولى ليوافق قوله أولا “وأسباب العلم للخلق” وإنما كان إسقاط لفظ الصحة أولى؛ لأنه يوهم أن الإلهام من أسباب المعرفة بفساد الشيء، وليس كذلك، وكان الأولى أيضا حذف الشيء؛ لأنه لا يحتاج إليه.
قوله: (إلا أنه حال التنبه…إلخ) أي: لكنه قصد التنبيه…إلخ، فهو استدراك قصد به الجواب عن الاعتراض على التعبير بالمعرفة.
قوله: (على أن مرادنا بالعلم والمعرفة واحد) أي: على أن مرادنا معاشر الجمهور بالعلم والمعرفة معنى واحد وهو الإدراك الجازم المطابق الثابت. قوله: (لا كما اصطلح عليه البعض) أي: لا مثل الذي اصطلح عليه البعض، وقد بين ذلك بقوله “من تخصيص…إلخ” والمراد بالبعض جنسه المتحقق في متعدد؛ لأنهم طائفتان طائفة تخص العلم بالمركبات والمعرفة بالبسائط، وطائفة تخص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات، فأوفى كلامه لتنويع الخلاف.
قوله: (بالمركبات) أي: نحو زيد قائم.
وقوله: (أو الكليات) أي: كالإنسان
وقوله: (بالبسائط) أي: كالموضوع والمحمول.
وقوله: (أو الجزئيات) أي: كزيد وعمرو.
قوله: (إلا أن تخصيص الصحة…إلخ) أي: لكن تخصيص الصحة…إلخ. استدراك قصد به دفع توهم أنه يمكن الجواب عن الاعتراض على ذكر الصحة، كما أمكن الجواب عن الاعتراض على التعبير بالمعرفة، واعترض على الشارح بأن الصحة هنا بمعنى الثبوت والتحقق نفيا ذلك أو إثباتا، فيكون المراد بالشيء معناه اللغوي لا الاصطلاحي، والصحة تستعمل بهذا المعنى كثيرا. قال الشاعر:
صح عند الناس أني عاشق***غير أن لم يعرفوا عشقي بمن
أي: ثبت عند الناس أني عاشق، غير أن الحال والشأن لم يعرفوا أن عشقي بأي شخص. وأجيب بأنه خلاف الظاهر؛ لأن المتبادر من الصحة عند الإطلاق ضد الفساد، ومع ذلك فيه استدراك؛ لأنه يكفي أن يقال ليس من أسباب المعرفة بالشيء، فيتم المقصود بدون لفظ الصحة. وفيه أيضا إيهام خلاف المقصود؛ لأن الصحة تطلق على ما يقابل الفساد، وعلى ما يقابل المرض وعلى مطابقة الشيء للواقع وعلى الثبوت، ففي إرادة الثبوت بلا قرينة إيهام خلاف المقصود.
قوله: (ثم الظاهر أنه أرادإلخ) أي: ثم الظاهر من قرائن الأحوال لا من العبارة أن المصنف أراد أن الإلهام ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق، كما هو شأن الأسباب الثلاثة، ولم يرد أنه ليس سببا للعلم مطلقا، كما هو ظاهر العبارة.
قوله: (ليس سببا يحصل به العلم لعامة الخلق) أي: كما هو شأن الأسباب الثلاثة.
وقوله: (ويصلح للإلزام على الغير) أي: وليس سببا يصلح لإلزام حكم من الأحكام على غير الملهم وعلى متعلقه بالإلزام؛ لتضمنه معنى الاحتجاج، ومحل ذلك في إلهام غير الأنبياء، وأما إلهام الأنبياء فيصلح للإلزام على الغير وهو سبب للعلم بعامة الخلق، لكنه داخل في خبر الرسول.
قوله: (وإلا فلا شك أنه قد يحصل به العلم) أي: وإلا يكن أراد ذلك فلا يصح؛ لأنه لاشك أنه قد يحصل به العلم للملهَم.
قال الشارح: وقد ورد القول به في الخبر ، نحو قوله عليه الصلاة السلام: “ألهمني ربي”، وحكي عن كثير من السلف. وأما خبر الواحد العدل وتقليد المجتهد فقد يفيد أن الظن والاعتقاد الجازم الذي لا يقبل الزوال، فكأنه أراد بالعلم ما لا يشملها، وإلا فلا وجه لحصر الأسباب في الثلاثة.
قال الخيالي:
قوله: (فكأنه أراد…إلخ) كلمة كأن غير مرضية ههنا فتأمل.
قال السيالكوتي:
قوله: (كلمة كأن ههنا غير مرضية) لأنه قد جزم الشارح فيما سبق بأن العلم عندهم لا يطلق على غير اليقينيات حيث حمل التجلي على الانكشاف التام بمعنى عدم احتمال النقيض حالًا ومآلًا فلا معنى لإيراد كلمة كأن المشعرة بالظن.
قوله: (فتأمل) وجه التأمل أن عبارة المصنف لاتدل عليه صريحًا والعلم قد يطلق بمعنى الإدراك مطلقًا فيشملها على مايشعر به قوله فيما سبق ولكن ينبغي أن يحمل التجلي…إلخ حيث عمم التعريف أولًا وخصصه ثانيًا فإن قيل حصر الأسباب في الثلاثة قرينة صريحة على أن ليس المراد بالعلم مطلق الإدراك لأن أسبابه كثيرة كالخبر المقرون بالصدق والإلهام وخبر الآحاد والرؤيا الصادقة قلت: يجوز أن يكون الحصر للأسباب المعتدة بها المفيدة للعلم بلا تخلف وهذا القدر كاف لإيراد كلمة كأن.
قال الباجوري:
قوله: (وقد ورد القول به في الخبر ) أي: وقد ورد القول بحصوله في الخبر ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: “لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون، أي: ملهمون، فإن يكن من أمتى أحد فإنه عمر” أي: فإنه منه عمر فالحصر ليس مرادا كما يدل عليه خبر مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “قد كان فيمن قبلكم من الأمم مُحَدَّثُون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم”.
قوله: (وحكي عن كثير من السلف) أي: حكي عن كثير من السلف وقوع الإلهام لهم.
قوله: (وأما خبر الواحد…إلخ) جواب عما يرد على حصر الأسباب في الثلاثة ولا وجه لهذا الإيراد؛ لأنه سبق أن العلم لا يشتمل الظن والتقليد.
قوله: (وتقليد المجتهد) أي: وسبب تقليد المجتهد وهو خبر المجتهد للمقلد؛ لأن ذلك هو الذي يفيد الاعتقاد الجازم الذي يقبل الزوال.
قوله: (فقد يفيد أن…إلخ) قد للتحقيق، ولو قال: “فيفيد أن…إلخ” لكان أولى.
وقوله: (الظن) راجع لخبر الواحد.
وقوله: (والاعتقاد الجازم الذي يقبل الزوال) راجع للتقليد.
وقوله: (فكأنه أراد بالعلم ما لا يشملهما) أي: فكأن المصنف أراد بالعلم في قوله: “وأسباب العلم” ما لا يشمل الظن والاعتقاد الجازم الذي يقبل الزوال، بأن أراد به الاعتقاد الجازم المطابق الثابت. واعترض بأن كلمة “كأن” غير مرضية ههنا؛ لأنه قد جزم الشارح فيما سبق بأن العلم عندهم لا يطلق على غير اليقينيات، حيث حمل التجلي على الانكشاف التام، وحينئذ فلا معنى لإيراد كلمة “كأنَّ” وأجيب بأن عبارة المصنف لا تدل عليه صريحا؛ لأن العلم قد يطلق على مطلق الإدراك، فيشملهما على ما يشعر به قوله فيما سبق “ولكن ينبغي أن يحمل التجلي…إلخ”. فإن قيل حصر الأسباب في الثلاثة قرينة صريحة على أنه ليس المراد بالعلم مطلق الإدراك؛ لأن أسبابه كثيرة. أجيب بأنه يجوز أن يكون الحصر للأسباب المفيدة للعلم بلا تخلف، وهذا القدر كاف لإيراد كلمة “كأن”، على أن “كأن” قد تأتي للتحقيق نحو: كأنك بالشتاء مقبل.
قوله: (وإلا فلا وجه لحصر الأسباب في الثلاثة) أي: وإلا يكن المصنف أراد بالعلم ما لا يشملها، بأن أراد به ما يشملهما وهو مطلق الإدراك، فلا وجه لحصر الأسباب في الثلاثة التي ذكرها؛ إذ أسبابه كثيرة كما علمت، لكن يجاب بما تقدم من أنه يجوز أن يكون الحصر للأسباب المفيدة للعلم بلا تخلف.